إضاءة على مفهوم المُخَيَّر و المُسَيَّر

هل الإنسان مخيَّر أم مسيَّر

أحمد فقيه

    من الواضح أن الانسان قد حقق إنجازات خارقه ووصل في إبداعاته حداً عالياً جداً_ فقد غزا الفضاء وابتكر العديد من التجهيزات الهامةوخطا خطوات بعيدة في مجالات العلم والاكتشاف. إلا أن تلك الامكانات والانجازات لما كان لها أن تتحقق لولا ما تمتع به الانسان من قوى فكرية مبدعة، وهنا نتساءل: هل الفضل في وجود تلك القوى المفكرة المبدعة يعود للانسان نفسه، أم لخالقه الله سبحانه وتعالى الذي أودع فيه تلك القوى، كما أودع غيرها في باقي مخلوقاته بشتى مكوناتها وصورها ولو بدرجات.. وهل الذكي مسؤول عن ذكائه والغبي مسؤول عن غبائه؟ أم أن كلا منهما وجد نفسه على تلك الحالة، فكانت هي المُسَيّرة له، وهي التي رسمت له معالم مسيرته الحياتية.

    وإذا أردنا أن نُعَرّف “المسيَّر”، فهو من يتوجه بتحركاته وانفعالاته وتوجيهاته وفق قوة تسيّر وتحدّد برامج أعماله، فيكون، والحالة هذه، أشبه شيء بالكبيوتر الذي يقوم حالياً بدور هام وفعال جداً في مجالات الحياة المختلفة. إلا أن الكبيوتر هنا لا يستطيع أن يقدّم لنا شيئاً إن لم تتم برمجته، وبالتالي، فإن أعماله تكون وفق تلك البرمجة لا تحيد عنها قيد أنمله إلا إذا أصيب بخلل ما. ولذلك فإن الكبيوتر مسيَّر وفق من يبرمجه وليس مخيراً في عمله.

    أما المخيّر فهو طبعاً، من يكون لديه حرية الاختيار بأن يتبع هذا الطريق أو ذاك، وهو الذي أوجد وحدد قدراته وميوله ورغباته، وبناء على ذلك يتقدم بأعماله وتوجهاته. فمن أية فئة هو الانسان، الأولى أم الثانية؟

    فلنستعرض حالة الانسان منذ وجوده، وما يقول الله سبحانه وتعالى بشأنه، ثم نحكم على الأمر.

    يولد الانسان كباقي المخلوقات الأخرى وهو يحمل في كيانه نزعة نحو ما يؤمن استمرارية حياته الطعام. فأول شيء يفعله الطفل عندما يرى النور هو أنه يبدأ بتلمس ما حوله وصولا |إلى ثدي أمّه، وكأنه يعرف، بل إنه يعرف (غريزيا) أن طعامه موجود هناك، فيأخذ منه كفايتهكلما شعر بالحاجة لذلك.. وبمرور السنين، ينمو الانسان وتنمو مداركه وأحاسيسه، وتتباين قدرات وميول وأهواء كل فرد من البشر عن الآخر. منهم من يبدو عليه الذكاء الخارق، فيقدم للبشرية، بفضل ما خُصَّ به من ذكاء، الكثير من الخدمات والانجازات. ومن ناحية أخرى، هناك من يحتاج لمن يساعده في قضاء حاجاته اليوميه. أما فيما يتعلق بالأهواء والميول التي جُبل عليها كل فرد، فالمعروف أن الناس في ذلك مذاهب شتى. فمن حيث السلوك نرى من يسعى لتقديم الخير والمساعدة لغيره، بل هناك كثيرون ممن يؤثرون غيرهم على أنفسهم، وهناك آخرون يسيرون في الاتجاه المعاكس تماماً لدرجة أن هناك من يحرضون أطفالهم على إرسال الصواريخ والقنابل الذكيه لقتل أطفال الآخرين وإبادتهم والعيش على أنقاضهم، وهم يتفنون في هدم البيوت على أهلها وتدمير المستشفيات وسيارات الإسعاف، وغير ذلك من المرافق الحيوية الأساسية لاستمرارية الحياة.

    واختلاف الميول والأهواء والأراء والأفكار بين الأفراد كثيراً ما يؤدي إلى مآسٍ وصراعات بين الجماعات والأفراد وحتى بين أفراد البيتالواحد، وبين الزوج وزوجته. وعلى سبيل المثال، نعرض هنا التباين بين تولستوي* وزوجته ومدى المعاناة التي قاساها هو في ظل تلك الفوارق. فقد ذكر ميشال مراد في ” الموسوعة العالميه في الحِكَمِ والنوادِر” تحت عنوان مأساة زوجيه، ما يلي:

    ” كان زواج تولستوي* مأساة حقيقية، فقد كانت زوجته تحب الجاهوتسعى إلى الشهرة التي لا تعني له شيئاً: هي تتكالب على الثروة، وهو ينظر إلى حطام الدنيا نظرته إلى الخطيئة، هي تعتقد بأن السيطرة ينبغي أن تكون للقوة في حين كان يعتقد أن السيطرة هي للحب… وفوق ذلك فإنها كانت شديدة الغيرة، تكره أصدقاءه، وقد طردت ذات يوم ابنتها من المنزل ثم عمدت إلى مسدس أطلقت رصاصة على صورة ابنتها. وكم كانت تنغص عليه عيشه كلما عرفت أنه سمح للشعب بأن ينشر كتابا من كتبه دون مقابل.

    جميع هذه التصرفات جعلت تولستوي لا يطيق زوجته، حتى أنه

“أوصى لدى وفاته بألا يسمح لها برؤية جثمانه!”

    وسقراط لم يكن أفضل حظا منه، وهناك العديد من الأمثلة الأخرى التي لا تعد ولا تحصى.  

    هذا هو الانسان كما نراه أمامنا إلا أن السؤال الذي حيَّر ويحيّر الكثيرين من الناس هو:” من المسؤول عن هذه التباينات لدى الانسان ؟” هل هو الانسان نفسه (أي الفرد). أم أنها القوة الخالقه للانسان ولهذا الكون لكونها خصت كل فرد بخصائص تتحكم به وبتحركاته وتوجهاته وأحاسيسه، أي وضعت له برنامجه الخاص به الذي يسير بموجبه، تماماً كما يفعل مبرمج الكوبيوتر. ونسمع أحياناً أن الانسان حر في تصرفاته وفي اختيار ما يشاء. هذا صحيح، إلا أنه ظاهرياً فقط، لأن ذلك الاختيار أو ذلك التوجه نابع عن دوافع داخليه في كل فرد، فهل هذه الدوافع هي من صنع الانسان أم هي من صنع الخالق سبحانه وتعالى؟ والجواب على هذه التساؤلات يؤدي بنا إلى سؤال أهم، وهو:

    هل الانسان مسيَّرٌ أم مخيَّرٌ؟

أي، هل الانسان الذي يسعى لمساعدة الآخرين وإلى حب الخير، يفعل ذلك بناء على قوة دافعة نابعة من ذاته هو وبارادته أم أن هذه القوة وجدت به بأمر.. من الخالق ولا قدرة له على تغييرها ولا فضل له بها. وفي نفس الوقت، هل الانسان الشرير الذي يسعى دائما لإيذاء الآخرين وسلبهم ممتلكاتهم، يفعل ذلك بدوافع داخلية تتحكم به أم أنه جُبِل على ذلك منذ وجوده. وهل اتباع طريق الهدى مشرَّع لكل انسان، أم أن هناك أناساً محدَّدين تتيسر لهم سبل الهداية بأمر الخالق سبحانه وتعالى؟

    هذه أسئلة وغيرها الكثير تدور في أذهان البشر منذ أن وُجدوا. والقرآن الكريم يجب على هذه التساؤلات في العديد من الآيات الكريمة، فلنطلع على ما تيسر لنا منها ثم نستخلص ما يمكن استخلاصه.

    في سورة السجدة، يقول الله سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم “… ولو شئنا لأتينا كل نفس هباها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنَّة والناس أجمعين…” ( السجدة/13 )

“… فمنهم من هَدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة… وإن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضلُّ ومالهم من ناصرين”.( النحل 26-27 )

الآية الكريمه:

” وإذا اردنا أن نهلك قريه أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ” (الإسراء 16)

    نرى من الآيات الكريمة السابقة أن الله لو شاء لأتى “كل نفس هداها، ومن هنا نفهم أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهذا النص يتكرر في كثير من الآيات، منها:

“… قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم”.(البقرة/142)

“… يؤتي الحكمة من يشاء ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا…”(البقرة/169)

“… كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء”(المدثر/31)

“…انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء”(القصص/56)

“… فمن يرد الله يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً”(الانعام/125)

“… ما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله”(يونس/100)

    وهكذا نرى الهداية والحكمة هما من الله، فهو يؤيتهما من يشاء ويحجبهما عمن يشاء، وهذا قوله هو سبحانه وتعالى، وليس تأويلاً أو استنتاجاً.

    وفي أماكن أخرى نقرأ قوله سبحانه وتعالى عن الذين ختم على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم غشاوة، وعن النفس التي الهمها فجورها وتقواها. ففي سورة الشمس نقرأ:

“… ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها…”(الآية/11)

“… وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم.”(البقرة/27)

    نرى مما سبق أن الله هو الهادي وما الانسان سوى مخلوق ضعيف، وجد نفسه ضمن مجال يحركه فيتحرك بقدر ما أعطي من قدرات وتوجيهات. فماذا يمكننا أن نطلق عليه

” مسيَّر أم مخيَّر”؟

    ومع ذلك، هناك عامل آخر من العوامل المؤدية إلى الضلالة أو إعاقة الهداية، وهذا العامل هو دخول الشيطان على خط مسيرة الانسان.فالشيطان يزيّن للناس ويبعدهم عن الطريق المستقيم.

“… وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.”(النحل/24)

    وهنا أيضاً نرى أنفسنا أمام تساؤل يفرض نفسه، وهو: هل الشيطان له القدرة على أن يفعل ما يفعل من ذاته أم أن الله هو الذي منحه تلك القدرة، إذ أن الله هو القادر على كل شيء، وهو موجود في كل شيء، وهو المدبر والمخطط لجميع الأمور.. وإذا كان الله قد منحه تلك القدرة، وجعله بها أقوى من مخلوقه الآخر الانسان، وجعل له الغلبة بذلك، فهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى لا يريد الهداية لأولئك الناس، ولذلك هم “لا يهتدون”.

   إذن، الأمر كله بيد الله، فهو الهادي وهو الذي يضلل. وهنا ماذا يمكننا أن نطلق على الانسان-هل هو “مخيَّر”، فيختار ما يشاء، ونحن في نفس الوقت، نرى أن “من يضلل الله فما له من هادٍ”، أم أنه “مسيَّر” وفق أحكام وأقدار لا مناص منها، وحيث يصدق قوله تعالى:

“… ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء”(البقره/272)

أو: “… لوشئنا لاتينا كل نفس هداها”(السجده/13)

    وفي هذا الخضم من المعطيات والمدلولات فقد وقف الناس حائرين، وعجز الكثيرون عن التوفيق بين كون الإنسان مسيّراً أم مخيَّراً، وذهبوا جميعاً مذاهب مختلفه. فمنهم من سلك مذهب “الجبرية” الذي ينفي الاختيار عن الانسان. ومن هنا تتردد مقولات عديدة تأخذ أنماطاً متنوعة إلا أنها جميعها ذات مدلول واجد مثل:

” المكتوب ما منو مهروب”، “مقدَّر ومكتوب”،

“إذا وقع القدر عميَ البصر”، ” الحذر لا يمنع القدر”،

” هذا الله وهذه حكمته”، ” شاء الله وما شاء فعل”.

وغيرها الكثير.

    وهناك فريق آخر سلك الطريق المعاكس تماماً، ونسب الاختيار للانسان ونفى نسبته لله” لاستحالة إجتماع ارادتين مختلفتين على فعل واحد”، حسب زعمهم. وهؤلاء أطلق عليهم اسم “المفوَّضِيةَ” أو “القدْرِية”.

    ومن بين الفريقين المتناقضين بزغ فريق ثالث كان بمثابة الوسط،يقول: “لا جبر ولا تفويض”، واعتمد على مبدأ أن “لا إفراط ولا تفريط”. وهؤلاء هم أصحاب ما أُطلق عليهم اسم “مذهب البين بين”، أي الوسط.

    جميل جداً أن الجميع قد اجتهدوا، وكل منهم توصل إلى مفهوم معين حدَّدَ له الطريق الذي يسلكه، وهو مقتنع به، وهذا هو المهم في الأمر. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل لارشاد الناس إلى طريق الخير والرشاد، فلنعمل بهذا وندع التفصيلات الأخرى التي يصعب علينا فهمها أو تفسيرها، إذ لا يهمنا كثيراً إن كان الملائكة ذكوراً أم إناثا، بل المهم أنهم يمتثلون الله، وينفذون، أوامره الله سبحانه وتعالى.

    ويحضرني في هذا السياق ما توصل إليه أحد الحكماء في عرضه لموضوع القضاء والقدر، حيث يخلص إلى أن:

    “الانسان أقصر عقلاً وأكلَّ ذهناً من أن يفهم حكمة الخالق الذي أبدع العالم ووضع له ما يدبره من قوانين فما عليه إلا أن يكدَّ ويجدَّ ويعمل الخير ما وسعه أن يعمل الخير ويتجنب الشر ما أتيح له أن يتجنب الشر، ولا عليه بعد ذلك أن تسُرَّه الأيام أو تسوأَه وأن تُسخِطَهالأحداث أو ترضيه.”

    وإني إذ أحجم عن ذكر اسم صاحب هذا القول، فذلك درعاً لتضارب الأقوال والتفسيرات حوله ويكفي التوضيح بأنه من كبار فلافسة وحكماء ومفكري هذا العالم، وان ما نحن بصدده يهم العالم كافة. لذلك يمكن اعتباره لسان حال كل منا.. هدانا الله جميعاً سواء السبيل.

 

*الكونت ليوتولستوي: كاتب روائي روسي (1828- 1910) أشهر                                                

أعماله “الحرب والسلم” (war and peace)

شاهد أيضاً

في أجواء سورة الجمعة

✒️ المرجع الراحل السيِّد محمد حسين فضل الله. 📖 تفسير من وحي القرآن . _________ …