مشاهدُ بين الحقيقة والخيال ذ

أحمد وهبي

اليوم الواقع في 8 كانون الثاني  2022 ..
اليوم، وبعد سنتين من جائحة كورونا..  قرأت تعبيرين، كنت قلتهما توصيفاً لِما يجري على كوكب الأرض، التوصيف الأول: أن كوكب الأرض يكاد يتوقف عن الدوران، أن الانكشاف الخطير المخزي لغرائز البشر .. احتلّ المشهد العالمي الجديد، منها، في التهافت والتناتش على الحاجات بمختلفها، فمن يذكر مشهد التقاتل على ورق الحمام والبيض في كلِّ من استراليا وأميركا وغيرهما.
ثانياً، بأنّا مجرّد كومبارس، ثمّ زوميين، والبقية لديكم، أستعيد ذلك ليس من باب الإدّعاء أو التفاخر، أبداً والعياذ بالله، إنما بعض الإضاءة تعني التكامل والتعاضد، والأهم ممّا قلت سابقاً، أن نكون كما يجب أن نكون في السراء والضراء، فهل مَن يعقل ..!!

ولكن، المشهد العام، يترنّح في خضم الركود العالمي والخاص، والتحدّيات كثيرة كبيرة مؤلمة وطاغية على مختلف الصعد.
فكأنّا في ثورة المجتمعات وثورة الذات، وانهيار ألوان الطيف والحياة؛ وقعنا في العزل والاعتزال والغياب لوجوهٍ ثقافية بامتياز، وكلّ حدث يسقط في بازار التجاذب والكيدية والمهاترة؛ فإذّانا شهودٌ علينا .. صامتون حتّى الابتذال والقتل، والتسريبات والتحليلات أوهام السراب، تُلغى الثقافة التعليم المشافي لصالح الزنازين، التي طبقات الدّنيا، وطبقة ومنظومة الفساد لا ترعوي.. فإن هذا خطلنا مصحوباً بصمتنا كيف نغيّر ..!! والعدو ليس واحداً بعينه فحسب، لا بل منظومة أعداء من الشرق والغرب.
هنا، في الظلّ، في عين الشّمس، في النزق والصلف والترف، في القوّة والضعف، في الأنا والآخر، في هذا المختبر الوطنيّ الهائل الآلام، في الصبر والسلوان، في التحمّل والاحتمالات والقتل، في الهوس والجنون، في الانفصام والانقسام والأنفاس والتهتّك، في الإرادة والبلادة، في الحاجة والنفايات، في الدّم والشهادات، في الرفض والرقص فوق القبور، في المدامع والذكريات، في الهجرة والخيام ومنافي الشتات، في الصلاة والسلام والتطبيع والتنازل والحصار والتجويع والنجيع وجنان الخلد، في هذا القلب العقل الروح النفس والوجدان، في إنسان هذا العصر كلّ سِمات النهاية المحتومة أو القيامة الموعودة، ولا شيء آخر، سقط الكلام وتعرّى، سقطت المشاعر، وتبادلت الكائنات أماكنها وأدوارها، وعلى المقلب الآخر والآخر أوطان منسيّة وشعوب.
***
بين الحقيقة والخيال  .. بينهما حوراتٌ مثيرة ، مشاعرُ .. تبدو قوية نفّاذة الرائحة إلى أوسع المطارح ، مشاعرُ تبدو شاحبة .. تلاحقها الهواجس ، والأفكار تبدو محاصَرة ، فإن انفرط عقدها .. وقعت صدمات نفسية ، صدامات مؤلمة ، والذاكرة في الماضي .. في الحاضر ، في العتمة والضوء ، تتقلّدُ التحوّلات ، تُقلِّدُ كثيرين استغراقاً غريبَ الغموض ،
والغوص شكلٌ ظاهرُ النبض ، بدايةٌ طريّةٌ العود .. فإن اشتدَّ ، احتوى التجارب ، لا تُقهرُ صورتهُ ، لا يُقعّرُ اللّعاب .. يسيلُ لأسرارٍ شديدة الغرابة ، ومن لهب الجرح الواحد .. يطلع الطيِبُ والحنظل ، والبشر يتدافعون في مِرجل الحياة ، لكن ، لا تفسيرَ لوقتٍ آخرِ ويقين ، كمن يرتضع الضباب ، كلّما انقشعَ .. كان السراب ، كلّما وصل الغرقُ لجمعٍ في الصورة ، أجمعوا على ابتلاع السواقي .. على كلّ ما يُشبه الماء ، فإن حُقِنَ الليل بكؤوس السراب ، رُصِدَ للنهار بعض الحراب ، بعض الجراد لا يحتمل شواطئ المتوسط .. متون الأدب  .. موسيقى الخلاص ، بعض الأشكال المتحرّكة .. مجرّد حالاتٍ منفوخة الغثيان ، أولئك ، الشاخصون بين الدمع والدّم .. بين الجِلد والنّار .. بين اللحم والعظم يُبحرون لأرواحٍ لا متناهية ..

ونحن في إبحار أيامنا وليالينا، نختبر كلَّ شيء، وقد أُغلِقَ على الماضي بأغلاق الإحتراب، وقد وقعنا في جدول الضرب والطرح والجمع والقسمة، وليس غير لبوسٍ ضيزى، فارتكسنا لخيالاتٍ قديمةٍ فاتها أصحابها، وقد فوّتنا الكثيرَ الكثير، ونُصِرُّ لم يفُتِ بعدُ العمر ..
لأنّها فسحة الأمل، نأخذ كلَّ سنةٍ .. السنةَ بقرنها، نضرب بها أعماق السنين الفائتة، نستقبل العام الجديد .. لعلَّ يكثرَ الزرعُ والضرع، ونفوزَ فوزاً عظيما لعلّ ..
لعلّ نعودَ إلى ذواتنا،  إلى تلك الصفحات البيضاء الأولى، إلى ملاعبنا، لعلّ نحظى ببعض أوقاتٍ رائعة .. مهما تناءت بها الطيور المهاجرة، لا نُسلخُ عنها، تُنثَرُ عنّا تعويذات عشقنا، لا ننزع من تحت الجلود كلّ تفاصيل الضوء والبوح، ولأنها الأماكن بنتوءاتها الجمعية، بإشارات العيون، بذهبِ الحكايا، بتلك اللذائذ الجمالية المشاعر، تعيد ارتسام الصورة بطيوف ألوانها ..
ولا شيءَ ينزع عن الروح عاطفةَ الوردة والدّمعة، سُقيا قطراتٍ منفرجة الأسارير، لعلّ ننجو من أوهامٍ غشَتنا، لكيلا تنكسرَ خطواتنا الطفولية .. عند عقود العمر، تلك، إن نبلغها .. ندعو لو نعود أطفالاً، تلك الطفولة .. كلّما نفتح عليها بأولى كلمات  نحِنُّ نلثغها، بزهرةٍ ورسمةٍ وابتسامة، في القليل الفاعم الفاغم فيها، نتنهّدُ متى نكبر .. !!
هي، كلمتنا المجبولة بعُرى المحبة، برغبة الهوس لمشاغلة مشاعرنا المجرّحة .. وليس غيرها نحن، ولدنا .. وقد ولدنا نرتضع البنادق، والجسد أصدقُ إنباءً للجراح، والروح تنهض، تسافر، تذهب في رحم الأرض،  تسبر أيام كنّا وكانوا .. كنّا معاً آنزمنٍ وزمن، ثمة إزميلٌ مثل كفْ، مثل ريشة، مثل رصاصة، مثل قلم،  مثل أرضِ وسماء، مثل هذا القلب المنحوت بألمٍ .. بشغفٍ وحبّ، مثل نَسرٍ لا تجافيه القمم، مثل علمِ خفّاقٍ مدى القضاء والإفتداء ..

قُلْ، فقل .. وردةٌ في منقار غراب، يراعٌ هواهُ مزيج دمٍ وخمر، نظرةٌ في عين صقر، لمسةٌ بين فكيْ تمساح، قل ما شئتَ وما شئتُ .. تشاء وأشاء، وليس غيرهُ الحُبّ .. إيذان الصلاة، هاك، ضربتِ القبائل الأولى في عين الشّمس، واستراحت ليالي البدر على صدري .. لو كان في زمن الأقمار الاصطناعية لنقلتُها لعوالم الجنّ والإنس ..
قل، فقل أصارعها نفسي، ونفسي في نفسي بمثابة الضوء في الظلمات، وإنْ وقعتُ في تهديد الدّهر، أرسم جرحاً على شكل قلب، كي يكونَ قلباً في القلب، كي أتذكّرَ جراحَ الدّهور وأكبر، ثمة نيرانٌ تحت الجلد وزجاج، في الباطن من يحدّق في الهاوية، فإن يتخطّى الحدود يقع في الظلمات ..

وإنْ .. أرواحٌ في الروحِ كأمواهِ الأصيل، وإنْ تخلدُ الشّمسُ كي نستكين، وإن أغرورقَ نور البدر بخيالاتِ ثقيلة الصّمت، وإنْ دُفِعتُ إلى عتبات الحُبِّ .. الأولى، أعرف .. سألتقي بطفلِ مترع النّور، وإنْ بلغتُ ما بعدها بخطوات .. سألتقي بولدٍ يلعب ويضحك، وإنْ ضجّ سنُّ اليفاع .. وقعتُ في شِباك الصِبا. وإنْ اكفهرّتُ تلك السّماء وتلبّدتْ، سقطنا عن دنيانا هناك ..
إنّ وردة الصبح تنبلج بأرواحٍ تسعى إلى دفئها ..
تعرف بتلاتها أوانَ تمارُدِ الهامات، والأضواء منفرجة الأسارير، حتّى الخيالات ضحوكة، لا تلبث تتناجى، تتناهى إلى رؤانا ..
تلك الصرخات المدويّة، كيف تُسرق وجوهٌ لها .. !!
كأنّما، أحمل عنها صفائرَ ملوّنة، وليست حِنّاء، وبعض لحاء الأفكار .. أُزجيها رؤى الهزيع، ولي خارج كياني .. أيامٌ أحاول العثور عليها،  أيامٌ من لحمٍ ودمٍ وتعب، وكلّما كانت النجوم يقظى .. أدفع إليها بأمطار التكوين، ليس سهلاً .. هيّناَ وغاب، غابتِ الأهدابُ عن مراياها، وتناثرت غزالة الصبح،  وولّتِ الحكايات، صارت غريبةً في مضاجع غريبة ..

أيّها المجهول الذي يزهى كالسراب ..
أيّها المجهول الذي يركض بك الحُفاة، ولعلّك تتيقن بأنّ الحياة أكثر من غموض، لكن، لا شيءَ معلوماً يكاد، والأنفسُ تشقُّ الدياجير بأيدٍ فاحمة، والأرض اشتهاءٌ لنجيعٍ مترَب ..
أيّها الآتي عنّا، لا نجهلكَ .. كيف تدور، لكنّا نخضع، فهل دأبنا نخشى كلّ مجهول، لا وصول إلى تلك الأغوار في النفس .. !!
أيّها الساكن في الأحشاء الخاوية، في العقل تدفع نحو الخوف الجهول، نحو صانع الأكوان، في الروح نحو تأليه الطبيعة، ولا سبيل للإنعتاق ..

ماذا لو هَهُنا ترقد الأجساد .. هنا بعد طواف السنين .. !!
ها هنا لا يُعتِقُ التراب،  يُخادع الوقت .. كونَه بلا وقت، يأخذنا إليه .. يُحيلنا على التقاعد، نعود كما كنّا انصهاراً والعناصر ..
هنا حيث جموع الوداع والبكاء .. ولا بأس بقليلٍ من الضحك الدامع الشفاه، من بعض متشفّين يجهلون، من قلبٍ وحيدٍ يتيمٍ هنا عند المضجع الأخير في الدّنيا ..
في هذي الحياة .. في اللحظة المناسبة .. في تهافت البسملات، هنا، الدرب العتيقة الخطوات، هنا، تُسدل ستائر الوجود على حركة الجسد، هنا، في القيظ والزمهرير، في الثوب الخشن والحرير، في ابتعاد المودّعين إلى أماكنهم، في انكماش الآفاق، في تمزّق الهلاوس، في ذلك المكان يلزم الجسد مكانه، هنا، تمور الذكريات وبعض البُخور، بعض الزهور لوجهٍ غطَّ في المنام ..

شاهد أيضاً

أفرام: “اقتراح قانون مع زملاء لتأمين تغطية صحية واستشفائية فعلية ولائقة للأجراء من خلال إتاحة خيار التأمين الخاص”

كتب رئيس المجلس التنفيذي لـ”مشروع وطن الإنسان” النائب نعمة افرام على منصة “أكس”: “نظراً للآثار …