حوار في الثقافة والسياسة من إعداد الإعلامي.. د. وسام حمادة

في زمن العولمة والإعلام المرتهن وترسيخاً لمفاهيم الثقافة والمعرفة الراقية والتي تعيش غربتها القاتلة تعيد مجلة كواليس وموقعها الإلكتروني نشر لقاءات ثقافية وسياسية كان قد أعدّها وقدّمها لفضائية الإتحاد الإعلامي، د. وسام حمادة عبر برنامج 24 / 24
ولقاء العدد مع الشاعر والنائب السابق “غسان مطر”

عنوان الحلقة: ” الشعر مسيرة ومسار “

أغنية بعنوان: ” ماذا أدعوك “
كلمات الشاعر: ” غسان مطر “
ألحان وغناء: ” د.وسام حمادة “

 

 

الأغنية:

ماذا أدعوكَ وأنتَ دمي
وسماؤكِ أنوارٌ وحنانْ
سمّيتكَ في بالي قمراً
وزرعتك ما بين الأجفانْ
وغفوتَ وأنتَ على شفتيَّ
الوردُ العابقُ في نيسانْ
وصحوةُ الموتِ يشلُّ دمي
والمآتم يملأ كلَّ مكانْ
وطنٌ مثقوبُ الروحِ
فلا فرحٌ في الروح ولا إيمان
وطنٌ تنخرهُ الريحٌ
فلا سقفٌ يحميه ولا جدران
وطنٌ زَوَّرنا فيه الدينَ
وشوّهنا وجهَ الرحمان
هذا يتستَّرُ بالإنجيلِ
وهذا يُقسِم بالقرآن
واللهُ غريبٌ بينهما
والغالبُ بينهما الشيطان

 

 

– في هذا اللقاء نُطلُّ على من تركوا بصمتهم في عالمَيْ الثقافة والسياسة، ونحاورهم بشفافية، ونترك للضيف الحكم على رؤيتهم وتجربتهم، التي أثّرت وأثْرَتْ في مُجمل حركتنا الأمنية والثقافية والإقتصادية.
أٌرحّب بضيفي الشاعر والسياسي الأستاذ غسان مطر أهلاً وسهلاً بك.

الضيف: أهلا بكم وشكراً

 

 

– ضيفي حمل الألم وقرع أجراس الأمل مُبشّراً بقيامة آتية من بعيد، يبحث دائماً عن إنسانية الإنسان، ويكتب بدافعٍ من الآمال والأحلام والأوجاع، علّ ما يكتبه يبقى مادة صالحة للحياة بكلّ معانيها، هو القادم من خلف المسافات ومن كلّ الجهات، حاملاً همّ وطنٍ وأمةٍ أكلتها نيران التراجع الثقافي والإنساني لمصلحة رأس المال المتوحّش، هو القادم حاملاً ريشته وصفحته البيضاء ليملأها حروفاً وكلماتٍ من ذهبٍ، تحمل بين حناياها ردّاً على المعتَدّين من مُدَّعي الشاعرية، فالشّعر لا يولد من العدم لأنه ينبثق عن خلاصة معارفَ وأفكارٍ وقراءاتٍ وتجارب، شرط أن تكون الموهبة قادرة على الإستيعاب والتعبير بصيَغٍ فنيّةٍ غنيّةِ الوجدانِ .. زاهيةِ العبارة .. عميقةِ الفكرة.
مجدّداً أرحّب بضيفي العزيز الشاعر والسياسي والنائب السابق الأستاذ غسان مطر.

الضيف: شكراً أدامك الله.

 

– سأبدأ معك مباشرة بأنك من القائلين: أنا لا يتبعني الغاوون.
ورغم إثم الشعر الذي اقترفته لماذا لا يتبعك الغاوون؟

الضيف: أولاً، إذا كانت الآية الكريمة تقول إن الشعراء يتبعهم الغاوون، فهي تختم بإلّاالذين آمنوا، وأنا من الذين آمنوا، لذلك لا يتبعني الغاوون، في الواقع عندما يكون الشّعر حاملاً قضية، فالرسول استعان بالشعراء لتعميم رسالته وطرحها على الناس، رغم الآية الكريمة التي تقول: “والشعراء يتبعهم الغاوون ألم ترَ أنه في كلّ وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون”.
الحقيقة نحن نقول ما نفعل، ونقول بما نؤمن، ولسنا من الذين يكتبون الشّعر للترف والإلهاء والغواية، لذلك لا يتبعني الغاوون.

 

 

– من المؤكّد أن حضرتك من الشعراء الذين لم يكتبوا نصّاً دون ما هدفٍ، وأهدافُكَ سامية.

سنُكمل هذا الحديث ولكن سنعرض تقريراً عن مسيرة هذا الشّعر الذي لا يتبعه الغاوون.

 

التقرير:

قصائدُهُ تبدو كنفيرٍ عام يُذكِّر دائماً بأنّ الإبداع لا ينفصل عن الانتماء والالتزام بقضايا المُجتمع والناس.
غسّان مطر .. شاعرٌ .. وسياسي وعقائدي ونائب سابق في البرلمان اللبناني والأمين العام لاتّحاد الكتّاب اللبنانيين سابقاً.
شِعرُهُ التزامٌ، توأم الوجعِ الإنسانيِّ والهمِّ الوطنيّ، إنّهُ شاعرُ الحريةِ والأرض.
نشر دواوينه بتقطّعٍ بدءاً من عام 1965 .. له أربعة عشر ديواناً .. منها “عزفٌ على قبر لارا”، “لمجدِك هذا القليل”، ” بكاء فوق دمّ النخيل”، “للموت سرٌّ آخر”، “أجراسٌ لمئذنةِ الموت”
ولديه بعض النصوص الشّعرية المغناة، منها “سرقني الزمان .. سرقني المدى” التي لحنها زياد الرحباني.
تجده في خِضمّ الأحداث يكتب نصوصاً وقصائدَ للمقاومين في لبنان ولمعشوقته فلسطين، محافظاً على صفته كشاعرٍ ملتزمٍ قضية الأرض والإنسان، من دون أن يتناقض ذلك مع العمل السياسي الذي مارسه مناضلاً في الحزب السوري القومي الاجتماعي، “يوضح أن المرحلة اللاحقة لم تعد صالحة لكتابة الغزل ” .. الظروف لم تعد تسمح لنا بأن نكتب الغزل، هناك أولويات ضاغطة على الوجدان والقلب والضمير.

 

 

– كما شاهدنا في التقرير نبذة سريعة تُظهر للمتلقي هوية الشاعر غسان مطر.
كيف تصف لنا هوية هذا الشاعر ..؟
وهل استطعت أن تقتنع أن هويتك وصلت إلى الناس بعد هذه التجرية، وإن سُمّيت بالتجربة المتقطّعة ..؟

الضيف: أنا بدأت كأيِّ مبتدئ، محاولاً التعلُّمَ على يديْ هذا أو ذاك من الشعراء الكبار، ومن الطبيعي أن تكون قصائدي الأولى قصائد غزلية، حتى العام 1967 عندما حصلت الحرب ووقع عالمنا في الهزيمة واحتلت إسرائيل الجزء الأكبر من فلسطين وسيناء والجولان، كتبت يومها مجموعة شعرية بعنوان “أحبّكَ يا حزيران” حزيران الشهر الذي حصلت فيه الحرب، تفاجأ الناس بهذا العنوان، فأنا قلت “أحبك يا حزيران الذي أيقظت موتانا، فقد صيرتني يا جرح يا جبار إنسانا”، فبعد حرب السبعة وستين قلت “أيا جارة يقول الناس عنّي شاعر قد طلق الغزل، وما عادت قصائده ترش الوعد والقُبَل” لقد أصبحت المساحة الشعرية عندي كلّها للوطن وللأرض، للإنسان الجريح في هذه الأرض، وللحلم بالغد المنوّر.
عندما نرى خيامنا ملأى باللاجئين الفلسطينيين وشعوبنا في أكثريتها مسحوقة بأمر الحكام، وعندما نرى التخلُّف على كلّ مستوى وصعيد، ونرى في هذا الركام الأسود فتية يحملون الحجارة أو السكين أو البندقية ويقاتلون دفاعاً عن أرضٍ وكرامةٍ وتاريخ لا نستطيع إلّا أن نكون في صف هؤلاء، قد لا نحمل سكيناً أو رصاصة ولكنّنا نحمل قلماً، وهذا القلم دوره أن يكون رصاصة في معركة الكرامة والحرية، بهذا المعنى وضعني إلتزامي السياسي العقائدي والإنساني على هذه الخارطة ولم يكن ممكناً أن أكون إلّا ما أنا عليه.
هل استطعتُ أن أوصل صوتي إلى الناس ..؟ دون مبالغة، أعتقد أن قصائدي موجودة في وجدان الناس وخصوصاً الجيل الشاب الذي أُركّز عليه بأسلوب خاص، لأنه هو الأمل والمستقبل، قصائدي موجودة، والحضور الذي يتبعني عندما أكون في أيّ أمسية أو ندوة شعرية يؤكّد ذلك، ولست في مجال استعراض العضلات.

 

– على كلٍّ هذه المسألة نحن نؤكّدها أستاذ غسان.

الضيف: ولكن أعتقد بل أجزم أنّهُ، نعم، قد وصلت رسالتي إلى الآخرين.

 

 

– المشوار أمامك طويل لأن المعركة ما زالت مفتوحة.

الضيف: إن شاء الله، أريد فقط أن أُعقّب على كلمة .. تجربة متقطّعة، الحقيقة أنا توقّفت عن كتابة الشّعر مدة سبعة أو ثماني سنوات أثناء الحرب اللبنانية، حينها دخلنا هذه الحرب على أساس تغيير البنية الفكرية والسياسية للبنان ووجدنا أنفسنا نقتل بعضنا بعضاً دون ما هدف، الحرب بدأت عام 1975 وبدأها من بدأها على أساس أن الفلسطينيين جاؤوا ليحكموا لبنان، خرج الفلسطينيون من لبنان عام 1982 بعد الإجتياح الإسرائيلي واستمرت الحرب حتى العام 1989 و 1990 وهذا يقتل ذاك وذاك يقتل هذا دون هدفٍ وغاية، في هذه المرحلة أُصبت بإحباط كبير وتوقفت فيها عن كتابة الشّعر إلى أن جاءت جريمة اغتيال إبنتي الوحيدة، فعدتُ إلى الشّعر، ومنذ تلك اللحظة لم أنقطع عن الكتابة إطلاقاً، فكلّ سنة أو سنتين لدي مجموعة شعرية.

 

– هناك الكثير من الشعراء يحملون أفكاراً سياسية ومؤدلَجين عملياً، ولكن تجد أن قصائدهم بمكان ما أقرب إلى الموسمية الوطنية وكأن مساحة القصيدة أوسع من أن يلتزموا كما فعلت حضرتك والتزمت هذا النهج وهذا النوع من القصائد التي تحمل آمال وأحلام الناس وهَمّ الوطن وفلسطين وكلّ هذه المأساة، وأنا كمتلقٍّ ومن خلال متابعتي وحضوري لعدد من اللقاءات، تبين أن القصائد ذات النفَسِ الحاملِ – الهمِّ الوطني ولغة الناس ما زالت تلقى حِفاوةً أكبر لدى المتلقّين.
هل برأيك أن هؤلاء الشعراء ينحون إلى هذا الإستسهال عبر قصائدَ تحمل عناوينَ الغزل، والذي أصبح مكرّراً عملياً لعدم إمكانياتهم، أو عدم قناعاتهم، أو رؤيتهم لهذا الواقع العربي المأزوم ..؟

الضيف: أنا لست هنا لأحاكم أحداً ما.

 

 

– من باب التقييم وليس الحكم.

الضيف: ولكن، هذه القضية، هي خيارات شخصية، فهنالك شعراء يكتبون لكلّ شيء، وشعراء مثلي، إذ أنّني أكتب لقضيةٍ واحدةٍ .. هي أرضي وشعبي وجرحي النازف وأملي بنصرٍ آتٍ، هذا الموضوع أوسع من أن يُحَدَّ أو أوسع من أن يستوعبه شاعر أو شعراء العالم كلّه، لأن قضية الحرية والكرامة وقضية جرح الإنسان والتهجير واغتصاب الأرض والإستبداد والظلم، كلُّ هذه مواضيع لا تعود خاصة بإنسان معيّن، هي مواضيع إنسانية بالمطلق، يعني في كلّ أرض هنالك مظلومون.

 

– كلّ هذه القضايا متشابهة وإن اختلفت الأماكن.

الضيف: طبعاً، لذلك أنا أعتبر أن هذا الشّعرَ الذي أكتبه مداه الإنساني أوسع من الجغرافيا، أما الشعراء الآخرون هم أحرار، لا أستطيع أن أقول لشاعر كيف أنك تكتب الغزل وهناك طفل يُذبح، أو لماذا تكتب لفنجان القهوة وهناك أرض تتدمّر، لا يمكنني أن أساله، هذه مشكلته وأنا لست هنا لأحاكم “أحد”، أنا أحاكم الشّعر كشعر أيّاً يكن موضوعه، لا أحاكم الشاعر على خياراته الفكرية والذهنية.

 

 

 

– بحكمك على طبيعة القصيدة اليوم، إذ أننا نرى حركة الشّعر مأزومة، أي أنك تُذهل بكَمّ الإصدارات الشعرية في معرض الكتاب في بيروت، وتحاول قدر الإمكان أن تُجَمِّع وتستخلصَ دون أن تحصد قيمةً غذائية لهذا النص.
برأيك كم هو حجم المعاناة اليوم لأزمة الشعر وأزمة المتلقّي .. ومن يتحمّل المسؤولية أكثر ..؟

الضيف: الحقيقة هناك ظاهرة إسمها ظاهرة الإستسهال، يعني كلّ واحدٍ يُركّب ثلاثَ كلماتٍ على بعضها ويقول أنا شاعر ويجد من يُصفّق له، لأن هناك ملوكاً يبحثون عن رعايا، وكلّ هذا الكَمّ من مُدّعي الشّعر هم رعايا الملوك، أنا أقول أن المسألة مرتبطة بمفهوم الحداثة الذي طُرح في مجلة شعر في الستينيات، جاء من يُنظّر للشّعر الحرّ أو النثر الشعري وبالتالي استسهل من يحمل لغة أو من هو قادر على إبداعٍ ما عبر هذه الطريقة البسيطة، وأنا برأيي من لا يعرف أن يكتب قصيدة كلاسيكية ليس شاعراً ونقطة على السطر.
مهما كتب فالتجربة توضح الهوية التي تدلّ على أنّك شاعر، إذاً، كي تكونَ شاعراً يجب أن تكتب قصيدة موزونة ومقفاة وبعدها أنت حر إفعل ما شأت، ولكن أثبت أنك شاعر وبعد ذلك تكتب شعراً حرّاً أو نثراً هذا شأنك، ولكن هذا الهذيان الذي نقرأه في مجموعات متشابهة لأسماء متشابهة لا يوصل إلى مكان، وعندما يأخذ التاريخ غرباله النقدي الحقيقي كلّ هذا يسقط تحت الغربال، – تسأل عن المتلقّي – المتلقّي مرتبط بنوعية الشعر، إذا قدّمت للناس شعراً يطربون ويفرحون ويصفّقون، أما إذا قدّمتَ لهم كلمات متقاطعة أو أحاجٍ وألغازاً .. “وسمعت العقرب يصلّي في برج حمود مثلاً”، هذا كلام يمكن أن يكتبه أحدٌ ما، ولكن ليس شعراً، لذلك سمّيتها ظاهرة الإستسهال، أي أن هذه المجموعة تصفّق لبعضها لتؤمّن لنفسها حضوراً على الساحة، ولكنهم يعرفون أنهم ليسوا شعراء، واليوم الموضة الأوسع، موضة الشاعرات، ليس فقط الشعراء الشباب، مع محبتي واحترامي لكلّ الصبايا، إلّا أنهن يصعدن على المنبر خمسة أو ستة صبايا من الجيل الجديد – اللواتي لم يقرأن اللغة العربية ولا يعرفن الفاعل من المفعول به أو حتى صياغة جملة عربية صحيحة، تسألهم ما هذا، يقلنَ نحن نريد تفجير اللغة، كأن تفجير اللغة بقتل الأصول والقواعد، تفجير اللغة هو تفجير داخلي وليس عبر التلاعب بأصول اللغة الخارجية، مع الأسف لا ثقافة ولا موهبة ولا معرفة بأصول الشعر، الحداثة لها دائماً جذور، إذا لم نقرأ ونتعلم ونتفقّه ونتثقّف بهذه الجذور لا نستطيع أن نخرج من القمقم ونقول نحن حداثويون، مع الأسف هذا هو الحاصل في لبنان وفي العالم العربي، إذ أنه في فرنسا كتبوا قصيدة النثر فنحن يجب أن نكتب قصيدة النثر، دعني هنا أشرح أمراً، الشعر اللاتيني الأوروبي كله يقوم على حركة سكون حركة سكون حركة سكون، ليس هناك أكثر من ذلك، ممكن أن يكون البيت إثنا عشرة حركة سكون أو عشرة أو ثمانية أو سبعة أو ستة أو خمسة أو ممكن أن يكون أربعين، فأنت لم تفعل شيئاً جديداً، ولكنك كسرت القاعدة التي كانت مُتبّعة عند القدماء.
عند الكلاسيكيين أو عند الرومانطيقيين بالشعر العربي هناك سمفونية إسمها الأوزان وليس حركة سكون، عندك بحور تبدأ ولا تنتهي وجوزات تبدأ ولا تنتهي، وإن لم تكن مُلِمّاً بهذه الموسيقى وضرورتها من الخارج والداخل في الشّعر فحرام أن تكتب شعراً أو نثراً، فحتى النثر له موسيقاه الداخلية.

 

 

– لأجل ذلك أصبح هناك حركة مأزومة لدى المتلقّي ولهذا السبب يتراجع حضور الشّعر في الساحة.

الضيف: ما الذي سيقرأه المتلقّي، ففي زمن المتنبّي كان هناك ألف شاعر، بقي منهم إثنان أو ثلاثة، المتنبّي وأبو فراس الحمداني وأبو تمام، وهؤلاء كلّهم من جيل واحد ولكن كان هناك ألف واحد، وفي زماننا هناك عشرة آلاف واحد، ولكن يبقى منهم ثلاثة أو أربعة شعراء.

 

– أستاذ غسان المعروف عنك أنك دائماً صاحب مختبرٍ شِعريّ، هل ما زلت تسعى لحركة تجريبية في حركة الشّعر أو تعتبر نفسك أنك وصلت إلى مكانٍ لم يعد هناك من داعي للتجربة وأنك امتلكت مفاصل القصيدة ..؟

الضيف: من يدّعي أنه وصل يعني أنّه انتهى، فعندما تكتب قصيدة يجب أن تتجاوز فيها القصيدة التي سبقتها بشيءٍ ما، وهكذا صعوداً، والشاعر الذي يعتبر أنه ختم الشّعر، أعتقد أنه هذا ادّعاء وإفلاس، طالما أنك تكتب يجب أن تتجاوز نفسك وعليك أن تُجرّب دائماً، التجريب هو هذا التفجير الذي تكلّمنا عنه، دائماً يجب أن تبحث.

 

 

– هم فهموا التفجير بطريقة ثانية.

الضيف: صحيح، فهموا أن تفجير اللغة هو أن تكسّر الفاعل والمفعول به وأن تكسّر اللغة، لا تفجير اللغة يكون من الداخل، اللغة العربية من أغنى اللغات باحتمالات الجمال فيها، واحتمالات الجمال لا توصف من الحرف حتى المضمون، لذلك وظيفتنا أو دورنا كشعراء أن نبحث دائماً عن الجمال الجديد، وإذا توقفنا عن اكتشاف هذا الجديد فلنتوقف عن كتابة الشّعر وليس هناك مشكلة، ولكن أن أكرّر نفسي شكلاً ومضموناً بالقصيدة، لماذا أكتب بعد، فالناس وصل لهم آخر ما كتبت وإذا أردت أن أُعيد نفسي، مع الأسف يجب أن يعرف المرء أنها انتهت مهَمّته ويتوقف .. يكفي الذي قام به.

 

– استكمالا ً لهذا الحديث الشيّق والغني، وبالإشارة إلى التفجيرات الشعرية التي تحدث وكأنه لا يكفي هذه المنطقة كلّ التفجيرات حتّى نصل إلى هذه اللغة.
غسان مطر خائف على اللغة العربية ..؟

الضيف: بصدق، نعم فالقرآن الكريم حَفِظ اللغة العربية في الماضي، ولكن اليوم وأسمح لنفسي أن أقول هذا الكلام، أكثر المسلمين لا يقرأون القرآن وخصوصاً هذا الجيل الشاب، وعندما تزور أي عاصمة عربية دون استثناء لا تسمع شاباً يخاطب رفيقه باللغة العربية، ففي المغرب العربي دائماً هناك اللغة الفرنسية، وفي سائر الأقطار الأخرى هنالك اللغة الإنكليزية، حتى الآباء والأمهات يكلّمون أولادهم باللغة الأجنبية.
فهذا الجيل الذي ينشأ هو جيل هجين من حيث إلمامه باللغة واهتمامه بها، بهذا المعنى أنا خائف على اللغة العربية، ثم إذا أخذنا وسائل التواصل والكتابات التي تُكتب بالحرف اللاتيني وباللغات المحكية وليس باللغة العربية الفصحى وفي كلّ الأقطار العربية يتمّ التواصل بها، ممّا يعني أن هذا الجيل لا يعرف اللغة العربية، أما جيلنا – كان أيّ أحدٍ لا يُتقن إعراب اللغة العربية يفشل في إمتحاناته، وغير ممكن أن تكتب موضوع إنشاء فيه أخطاء لغوية وتترفّع صفّاً، وأساتذتنا كانوا من جهابذة اللغة العربية ومتمكّنين منها ومن طريقة إيصال هذه اللغة إلينا، اليوم نرى أن في المدارس ليس هناك اهتمام باللغة العربية والتلميذ يقول لك أنها ثقيلة الدّم وصعبة ولا أريدها، والأهل يسكتون على هذا الواقع، مثلما قلنا أنّه تسعون بالمائة من شبابنا من أصل ثلاثمائة مليون عربي يتكلّمون الفرنسية أو الإنكليزية فيما بينهم وفي دراستهم وفي كلّ شيء واللغة العربية مركونة للإهمال.

 

 

– ربّما عما قريب تصبح لغة إختيارية في المدارس..

الضيف: ممكن ولا تستغرب، أو أنها ليس لها لزوم ما دام العلم كله سيصبح أرقاماً ومفاتيح، لذلك نعم، أنا خائف على اللغة العربية، أبحث في المعارض وفي المكتبات لأجد شاباً يشتري كتاباً باللغة العربية أو مكتوب باللغة العربية، نادراً جداً ما أجد أحداً يشتري كتاباً باللغة العربية، بينما تجدهم مندفعين على كلّ ما له علاقة بالتكنولوجيا وغيرها وبلغات أجنبية، نعم، أنا خائف على اللغة العربية رغم أن هناك واقياً وحامياً كبيراً هو القرآن الكريم، ولكن شباب الإسلام لا يقرأونه ولا يهتمون بلغته، والآية الكريمة تقول “إنا أنزلناه قرآناً عربياً”، إذاً، من هنا واجب المدارس والأهل والدُّعاة أن يُركّزوا على هذه النقطة، ويُطلقوا الصوت عالياً (يا شباب ويا صبايا هذه لغتكم، وهذه حياتكم ومستقبلكم وهذه هوُيتكم) مع الأسف أكرّر أنا خائف على اللغة العربية.

 

 

– نحن سنحاول أن نقدّم للمتابعين صورة عن جمالية اللغة العربية عبر الحروف والكلمات التي سطّرتها في هذا الديوان، وسأشاركك بشيءٍ من الموسيقى.

الضيف: هذا يُشرّفني.

للشمسٍ متكَأٌ على شفتي
كما للخمر متكأ على شَفةِ العنب
للشمس متكأ إذا طلعت على ليلي
وأشعلت الحرائق واللهب
فيجيء مثل تلوّن الغابات إيقاع الكلام
يرنُّ في روحي كرجع صلاةٍ صوفيّ
ويرقص مُثقلاً بحنانه الشرقي
مثل الريح ترقص في جراحات القصب
وأرى خفايا ما تقول الساحرات
وكيف تحتفل النجوم بعرسها الذهبي
كيف يصير نبض القلب ورداً حين تكتمل القصيدة
كيف حين تجيء قافية الختام
أشم رائحة البخور ويستبد بيَ الطرب
وأرى وأفهم كيف أن الله حين اختار
لم يختَر سوى لغة العرب ..

 

– أحسنت أستاذ غسان، هذه القصيدة من ديوان سارا..؟

الضيف: سارا .. ضوءاً ونام.

 

– صراحة أنا أشاركك هذا الخوف وخاصة حين أرى أولادنا في خطر مع كلّ محاولات التحصين، إنما واضح أن هذا الخصم لهذه اللغة يملك إمكانيات لا نملكها ..

الضيف: هذه العولمة التي لا نعرف أخطارها والتي تُغيّر عقولنا وتفكيرنا وثقافتنا وتاريخنا وذاكرتنا، العولمة مسألة خطيرة، وأنا أؤكّد لك أنه هناك لغات كثيرة ستمّحي وتزول عن وجه الأرض خلال عشرين أو ثلاثين سنة.

 

 

– والتاريخ أساساً محى الكثير من اللغات، وليس أمراً مستغرباً.

الضيف: طبعاً، هذا الدفق باسم الحضارة والحداثة وباسم المعرفة والتكنولوجيا يشكّل خطراً إن لم تتم دراسته وترشيد عملية استخدامه بالشكل الصحيح.
أنا مع التكنولوجيا والمعرفة والثقافة ومع الضوء من أين ما أتى ولكن أن أحافظ على الأنا، على هوُيتي وذاتي، على تاريخي وذاكرتي، على وجداني وشعبي، هذه الأمور بحاجة إلى الكثير من التوعية، ولكن مع الأسف ربما أحدهم كتب ولكنني لم أقرأ دراسات أو كتابات تشير إلى هذا الخطر الداهم الذي يهدّد ثقافتنا وحضارتنا وهويتنا باسم العولمة، وأن العالم كلّه قرية واحدة وليس هناك مشكلة إذا تكلمنا الإنكليزية.
وكذلك أنا مع الإنكليزية والفرنسية وأنا مع أيّ لغة في العالم نتعلّمها ولست ضدّ ذلك، شرط أن أتعلم وأحترم لغتي.

 

– واضح أن الجرح كبير، والذي أطلق عليك لقب أيوب لم يكن مخطئاً، أنت الصابر على الكثير من الأمور ومنها على هذا الجرح الكبير الذي يؤلمك.

الضيف: إنه قدر الحياة.

 

 

– أستاذ غسان إلتصاقك القومي بأمتك وعروبتك وجغرافيتك فجّر إيجاباً الكثير من المواقف السياسية التي عبّرت عنها إن كان في الندوة البرلمانية أو في اللقاءات السياسية أو الشعرية.
كم ترى اليوم أن هذا التعبير خفت صوته من قِبَل المثقفين في العالم العربي بشكل عام وفي لبنان تحديداً والذين هم في آتون الصراع مع العدو الإسرائيلي ..؟
ولماذا خفت هذا الصوت برأيك مع أن جيلكم في الستينيات والسبعينيات كان يُحرّك بقصيدته شارعاً..؟

الضيف: المسألة المركزية التي كانت تُحرّك كلّ شعوب العالم العربي هي المسألة الفلسطينية، وكان الناس غافلين عن السياسات المتبّعة هنا وهناك وهنالك، وعن الحكّام وأنظمة الإستبداد والقهر وإلى آخره، كان الناس مشغولين بفلسطين ويريدون تحريرها، المسيرة قادت هؤلاء الحكّام إلى توقيع اتفاقيات مع العدو الإسرائيلي، وقادت حتى مسؤولين فلسطينيين إلى أوسلو، وأصبح الناس يقولون .. إذا كان أهل القضية باعوها فأنا لماذا أريد أن أكون ملكاً أكثر من الملك، كما أن الخطاب الرسمي والخطاب العام لم يعد خطاباً تحريضياً تعبوياً بل أصبح إستكانياً حتى بلوغ السلام، وكأن السلام آتٍ على طبقٍ من فضة، والسلام سيعيد لك حقّك وأرضك ويعيد شعبك من المنافي إلى أرضهم وكأنّ الدّنيا بألف خير، هذا الخطاب وهذا المناخ وهذه التسويات خلقت كثيراً من الإحباط لدى الشعوب وحتى لدى النُخب، ويسألونك لماذا يتراجع الفكر القومي والفكر اليساري لدى شعوبنا، لأنه بعد ثلاثين أو أربعين سنة من حرب السبعة وستين والهزيمة الكبرى والتي راهنّا أنه في العام ثلاثة وسبعين ستؤدّي إلى مسح أو محو آثار هذه الهزيمة، بدل ذلك وقعنا بكامب ديفيد كي لا ننسى وبعدها وقعنا بوادي عربة ثم وقعنا بأوسلو، إذاً كلّ هذه المخاضات أوصلتنا إلى ما يُشبه القنوط واليأس والإحباط، بالتالي أصبحت اهتمامات الشّعراء أو المثقّفين أو النخبويين مختلفة أو مشتّتة أو ذهبت باتجاهات أخرى، حتى شعراء فلسطينيين وبينهم الكبار استراحوا، لم يبقَ في الساحة إلّا الملتزمون فكرياً وعقائدياً بقضية الأمة والشعب وفلسطين، وبرأيي هؤلاء قلّة، واليوم نظراً للأحداث التي تقع في سوريا والعراق وفي اليمن وليبيا والبحرين هنالك يقظة جديدة خصوصاً عند المثقّفين الذين كانوا لا مبالين، هذه اليقظة أنعشتها واستنهضتها الجراح التي تُلمّ بكلّ بيت، أي أنه لا يمكن لأحدٍ ما أن يقول لك أن الحرب في سوريا .. إبتعدْ عن فلسطين، أنا الآن لست فاضياً، أليس بيتك يُدَمّر وابنتك تُغتصب وأمك تُقتل، والعراق كذلك واليمن والبحرين وليبيا أيضاً، إذاً هنالك يقظة أنا أُتابعها من خلال الكتابات على مستوى النثر والقصيدة، هنالك يقظة نأمل أن تُعيد توجيه البوصلة بالإتجاه الصحيح، هذه اليقظة يجب أن تُعطى بعض الوقت لكي تؤكّد حضورها ووهجها وثمارها، لكنّها بدأت ونأمل أن تكبر وتملأ الساحات.

 

– ما يجري على الساحة الفلسطينية اليوم أيضاً يُعطي جرعة أمل وحتى استنهاض لهذا الواقع، لذلك نرى الكثير من الشباب يحاولون بهذا الإتجاه وليس من الضروري أن يكونوا من محترفي الشّعر أو الأغنية أو الرسم حتى ولو بتعابير بسيطة.

الضيف: حتى لو بكلمة على الحائط.

 

 

– وهذا قد يُعطي الكثير من الأمل.
هناك قصيدة استفزتني لغزة، وأنا اعتبرت أن هذه القصيدة حديثة نتيجة لآخر معركة في غزة، فاكتشفت انها من الستينيات، أي أن هذه الرؤيا كانت مبنية على إحساس صادق بواقع هذا الشعب.

الضيف: إلتزامنا بالقضية الفلسطينية بدأ مع النكبة، وأنا لم أكتب مع النكبة لأنّني لست من جيلها ولكن ما إن تفتّح وعيّ السياسي وبدأت تحوّلاتي الفكرية تتخذ إتجاهاً أو إلتزاماً ما حتّى كانت حرب السبعة وستون كهزيمة كبرى، ونحن نعرف حرب السبعة وستين أوصلت الإسرائيلي إلى قلب غزة، يومها كنّا نكتب لغزة، كما غزة اليوم هي أرض ثائرة منذ البدء وأعتقد أنها لن تستكين إلى الأبد.

 

 

– لأن الوقت سرقنا بأسرع مما كنت أتخيل، هل هناك إمكانية بعد أن نستنهض هذا الشارع بشيءِ من قصائدك
وأودّ أن أشير إلى أن ديوانك الأخير كان بعنوان “أحزان مشرّدة”.
وسنختم ولو بمقطع من قصيدة ليكون ختامها مسك مع حضرتك.

الضيف:
ليس في ليلِ هذا الركام المدجّج بالموت
طفلٌ يغنّي ولا وردة تتثاءب في سرّها
ليس في ليلِ هذا الركام احتمالٌ لأغنيةٍ أو صلاة
خلعت طُهرها الأرض واغتصبت كلّ عشاقها
والسماء ملبدةٌ بالذئاب وكلّ الشوارع محشوّة بالنعوش المُدمّاة والبوم والمومسات
فالصباح الذي .. سوف يأتي قتيلٌ وتعرفه من تجاعيده
واندلاع الخناجر في فمه وهبوب العويل
فهذا الصباح الذي سوف يأتي صباح الطغاة.

 

 

– شكراً جزيلاً أستاذ غسان على هذا الحضور الجميل شعراً وسياسة ورؤيا.
الضيف: الشكر لكم.
لمتابعة الحلقة مع الشاعر والنائب السابق “غسان مطر”

 

رابط صفحة اليوتيوب لبرامج ” د. وسام حمادة “

https://www.youtube.com/channel/UC0AuXJduId6PcXIkK9x1phw/videos

متابعة وإشراف: سهام طه
إعداد وتقديم: د. وسام حمادة

شاهد أيضاً

في أجواء سورة الجمعة

✒️ المرجع الراحل السيِّد محمد حسين فضل الله. 📖 تفسير من وحي القرآن . _________ …