حين تسيل الفجيعة شعرًا

بقلم:علي نسر

(ليس موتًا…إنه نعاسٌ غريب)..هذا ما يختاره الشاعر (باسم عباس) عنوانًا لديوانه الأخير الصادر عن دار الفكر اللبناني..عنوان لديوان ليس سوى قصيدة واحدة شكّل الموت العصب الرئيس في عمودها الفقري،قصيدة مبعثرة كروح صاحبها،أجزاؤها كدموعه موزّعة على ما ينوف على ثلاثين يوما تقريبا،هي الأيام التي تلت يوم الموت الذي لم يزرِ الشاعرَ لأوّل مرة،(أوجاع الدهر تطاردني/ يتربص بي وحش الموت/ يهاجمني في كلّ مكان…ص95)إنه الموت الذي توخّى حمامه غصون عائلة بدءًا بالأب ثم الأخ ثم الابنة والختام كان الفاجعة بالابن (جاد)..

لم يشأ الشاعر ان يعنون القصائد كي لا تتقيّد،إنما عمل على تقييدها من خلال تأريخها ليعرف حين يعبر الزمان عليه بطيئا،أي حديث كان يقيمه مع الأموات.. وأيّ علاقة صلحٍ أبرمها مع الحزن حتّى بدا متكيّفًا معه(والآن وعدا لهدى،للمى،ولمجد/ أن أبني بيتًا من حزنٍ/ كي لا توجعنا الأحزان ص97).

متوكّئًا على عصا الحزن،يتأرجح بين الصمت والكلام،فلا الأول يظهر عذابه،ولا الثاني يعينه على التعبير(لا الصمت كاف/لتبيان العذاب/ ولا الكلام يقوى على التعبير عن ألمي…ص24)وبعكس ابن الرومي،لم تشفِ دموعه نزيف الجراح مهما همت أمطارا،(ولا دموعي/ وان كانت غدت مطرًا/ تشفي متيمك الكوني/ من سقم..ص24). فلم يبق امامه سوى الاختلاء بالصمت (للموت سطوته/ ولي صمت العشيات ص86) ورمي الهموم في قيعان اعماقه متسترا بالقوة (بئر ساسقط دمعتي فيها ص84).

يوهمنا الشاعر بتماسكه المتجلّي بين حروف العنوان،يربت على كتفيه يتيما محاولا عدم التصديق،فيستحيل الموت نعاسًا وسفرا(ولا ارى جادا يسافر/ لا اقول:يموت ص106)…لكنّ هذا التوهم لم يدم طويلا ولم يدع له  صدقه أملا،حتى راح يشرق بالدمع لا بل يشرق به الدمعُ…وبدلا من الاستسلام لوطأة الحدث،نرى الشاعر يقتحم حصون الموت،متّخذًا اياه مادة لفكرة فلسفية مرة،متحدّيًا اياه أن يغلبه مرة أخرى (مت أيها الموت/ لن تقوى على قهري ص26)،ثم يعاتبه باتزان مرات عديدة،متخذا بين القبور حضنا اخيرًا (الناس أحضان البيوت ملاذها/ وأنا بأحضان القبور رميتُ ص108)…ولكي يغيظ الموت نراه يعترف باختراق هذا الأخير له،لكنه اعتراف هجومي وليس استسلاميا،فها هو الحزن المتدفق نارا يحوّله الشاعر في مخبر عواطفه الى اغنيات حب واشواق (نهر من الحزن/ يجري في عروق دمي/ من فروة الرأس/ حتى أخمص القدمِ/ يخضني فيحيل النار اغنية/ للحب وللشوق/ لا للموت والعدمِ.ص22). وبين سكرة وصحو،يعود الشاعر الى واقعه،خائفا من صدمة جديدة تصدّع حصونه المتبقية (واخاف من موت فجائي يشردني ص40). معترفا أنه يكابر،فيحبس الآه في الصدر وهيهات أن تبقى،فها هو يلوّح باطلاق العنان لها (سأسرّح الآهات من صدري ص 43).

وكأي رجل مؤمن بالقضاء والقدر،يلجأ الشاعر الى ربه الملاذ الأخير،مسكّنًا نفسه بما سيكافأ عليه بعد امتحانات شاقة وصعبة،فلم يبق أمامه سوى الجزاء خيرا والثواب يوم يلتئم الشمل في الجنة (سيقوم الأخوان/ جاد يحضن ريّان/ ويقولان: انفتحي يا جنة/ هيّأنا ما يلزم من شغف/ من حبّ من عاطفة النهر الولهان/ هيّأنا أجمل ركن/ فيه يرتاح الأبوان ص64).

ولم يكتفِ بذلك،بل يتّخذ من شخص ابنه الراحل،مقاما من مقامات التصوف،فيستحيل (جاد) طهرا يخلّص والده من معصيات الوجود،وتنزّهه وتسمو به عما يشده من ماديات الحياة (هذا قمري أعشقه/ خوف سقوطي/ في شهوات الدنيا/ أتسلّق بعض حروف/ كانت تحيا بين يديه ص83).

هذه الفكرة التي يتمحور حولها النص،لم يقدمها الشاعر عبر المعاني الشعرية التي نشترك جميعا في استحضارها ازاء حدث مفجع كهذا،إنما قدّمها الشاعر عبر مضامين شعرية لا يصل اليها الا الشعراء وهذا ما يميزهم عمن يشاركونهم في اختيار الأفكار او الموضوعات التي تطرح في الطرقات،فلا تتصفحها سوى عيون تخترق القشرة لتسبر الاغوار وتضع امام المتلقي ما غرفته المخيلة من الأعماق،فيتسلح شاعرنا رغم عفويته في بعض المواضع،بالصورة الشعرية التي يتخذها برهانا لمضمونه الشعري (نقول المضمون ولا نقول المعنى)،فكأن المضمون منطق يحتاج الى برهان فكانت الصورة خير برهان جعلت صاحبها ينفرد بطرح ما يمكن ان يطرحه كل من يشاركه الفجيعة نفسها…

شاهد أيضاً

شباب لبنان …شباب العلم

/ابراهيم ديب أسعد شبابٌ إلى العلياءِ شدّوا وأوثقوا وطاروا بأسبابِ العلومِ وحلّقوا وقد ضمّهم لبنانُ …