إبتسامة وداع العزوبية

 

*أنا وشيخ مشائخ أحفاد بلال، يتوسطنا العريس*

 

وبعد رحلةٍ شاقةٍ من العدو في مضمار العزوبة والغربة عن وطنه في الصغر والغربة عن أهله داخل الوطن والعودة والنزوح من مدينة حرض المُحادة للمملكة العربية السعودية شمالاً التي دمرتها الحرب إلى مسقط رأسه محافظة حجة-كعيدنة؛

“ابتسم الشاب المكافح صاحب النفس الكفيفة والنادرة عن بقية أشباهه الأربعين، إذ يعتبر هذا اليوم الخامس من أغسطس يومٌ أجتمع فيه “أحفاد بلال” وكل فئات المجتمع اليمني، وقد احتفت مديرية كعيدنة ومجتمعها الذين لا يميزون بعضهم بعضاً، بمناسبة زفاف هذا الشاب الذي يعلو محياه “ابتسامة وداع العزوبية”

ظلَّ العريس طيلة حياته يعول أسرته مُذْ ٱشتد ساعده فقد كان يذهب لشاطئ ميدي لشراء الأسماك وقد خصص له ولإخوته مكاناً آمناً في سوق حرض الشعبي لبيع تلك الأسماك التي يتقاضونها بثمنٍ لا بأس به، في حين كانت مديرية أقصُدُ مدينة حرض التي لم تحظى بإضافتها في قائمة المدن اليمنية لأسباب عدة منها تم تدميرها كُليًا بسبب الحرب، بعد أن تصاعدت بنيتها التحتية وأصبحت مثالًا عالٍ للمدنية ، فهي المدينة التي اشتهرت بمحاربة البطالة التي تصيب المجتمعات المجاورة لها، كيف لا وهي المدينة الحدودية، فقد ساهم في ازدهار ثقافة العيش معاً وتم إضاءة قنديل المساواة مجتمعٌ أبيض أصيل لم يسيء المعاملة قط مع معشر السود على مر العصور!!
اشتهرت تلك المدينة التي دمرتها الحرب بمميزات كثيرة خاصة بالمجتمع الحرضي الخليط من القرويين والمتحضريين، من ناحية وفرة الأعمال الشاغرة للشباب الكارهون للتعليم ، فكان الوافدون إليها من القرى والمدن الأخرى يتعجبون من كثافة سكانها ومبانيها المعانقة لسحب سماء تهامة اليمن، ويُحكى أن أكثر من ساهم في تأسيسها هم الفئة المهمشة عالميًا ، من ناحية أخرى كانت أكثر يد عاملة فيها هي اليد التي تتسم بالبشرة السمراء-لغوياً.

ولذا لم تتشبث بالقلم إلا أيادٍ قليلة من أيادي شباب المستقبل، وعريسنا علي لم يحظى بالتعلم منذ الصغر حتى الكبر فقد درس نصف مرحلته الإبتدائية حتى تمكن من القراءة والكتابة ، وبالرغم من إهتمام المجتمع الحرضي بتعليم أبنائهم أصبح إهتمامٌ جيد آنذاك، حسبما تحدثت أكثر من جامعة-كلية يمنية عن فطنة طلاب وطالبات مدينة حرض إذ خصص بعض الدكاترة بحوث ناقشوا فيها طبيعة-ديموجرافيا تلك المدينة إلا أنها أصبحت ذات مباني مهجورة، شبيهةً بِحُطامٍ تنفثُّهُ رياح الفصول الأربعة، ومجتمعها اليمني لاجئٌ في كل منفىً، ومزارعها الشاسعة امتلئت بمخلفات معارك الحرب الطاحنة في هذه البقعة من الأرض منذ سبعٍ عجاف..

ومن الجدير بالذكر أن أحفاد بلال أينما ذهبوا أصبحوا يمتهنوا البطالة التي خلقتها لهم الظروف الراهنة في هذه البلدة الطيبة!!

نزح سكان حرض ووفدت المنظمات الإنسانية الدولية إلى شمال اليمن
وهنا تساءل القارئ اليمني وكل مُطلعٍ على أخبار اليمن الغير سعيد حاليا ؛ هل الحرب ستستمر؟ أم أن هذه الأسابيع الخمسة سيليها ثلاثةٌ أُخرى وتنتهي الحرب المبتدئة؟
وكأن الحرب خدعة فيظن البعض أن الذي ينزح بأسرته من بيته الذي ظل يهتز وتتزلزل قلوب ساكنيه على قلب رب الأسرة ما هو إلا المصاب بهوس المقولة الشهيرة محلياً : “عزيزي النازح في انتظارك منظمات دولية هناك” فيسأل المواطن اليمني المسكين: أين؟ فتعود أنت للمقولة غير المنشورة بعد فتقرأ منها الآن:
“هناك حيث تهبط أنت وعائلتك بأمتعتك من هذه السيارة ستجد بيتاً بلا مأوى يخلو من الجدران ولا يوجد في ذلك المكان الخالي من كل شيء حمام، حتى الغرف ذات الأثاث ستكون في انتظارك حلماً لا يرى بالميكروسكوب ولا بالعين المجردة”

ويختم النازح-القارئ مقولتي المتقطعة خيبة أمله:
• ” هل نزحت من مدينة الحرب؟ ربما لازلت تنتظر المدفعية لتتحول أنت وأهلك إلى أشلاء أو تتأمل من تلك الغارة في ليلة ممطرة أنها لا تجعلك مأدبة دسمة للوحوش الضارية!!”

• “إنزح ولا تسأل أين ستبيت أنت وأهلك غداً فكلاب مدينة حرض التي ستتحول عما قريب إلى حيوانات مفترسة بدأت تلتهم للتو أكل لحم الإنسان منذ مايقارب أسبوعاً خارج عن إطار عُمر المعارك المشتعلة منذ نصف سنة تقريبًا(١) ولهذا طبيعة الحرب أن تفعل ما لا يشاء البشر، فلتنزح قبل أن يقع بك وبأهلك مكروهًا لا سمح الله.”

• تخيل أن تكون العريس المبتسم بجانبي ؟
ستداهمك فكرة عدم تصديق الحكاية ولذا ستكمل قراءة ما سبق آنفًا لأن لكل قصة بطل ولكل حرب ضحايا ولكل مجتمع عنصرية!! فلا تبتئس سيدي القارئ :

“عزيزي الساكن في حرض تنتظرك المنظمات في أي صحراء في الربع الخالي، أقصد تحت أي شجرة من شجيرات السدر المنثورة في جذور تهامة لكن لا تصدق من أن هناك فريق منظمة ما ينتظر وصولك بعد أن تركت مفتاح قفل بيتك هناك، أو أخذت القفل في جيبك ونسيت إغلاق البيت الذي تمتلكه أو استأجرته، لا تقلق فالمحترفون لصوص منازل نازحي الحروب يتقنون لغة النهب، لا تخشى إلا حياتك وحياة من معك.. فلتخبر أبنائك أن بيتك الذي بنيته لتعتزل هذا العالم وتقيهم المطر والشمس وصقيع شوارع تهامة قد أصبح خرابة، منذ غادرتموه حيث لم تبتعدوا عنه 3كيلومترا.. داهمته الدبابة بجنزيرها الحديدي-فراملها بعد أن نسفته مدفعية العدو .. أهلاً بك وبمن معك في هذا المنفى، لا مأوى لكم هنا، هذا هو المكان الذي قدر لنا التيه فيه فنحن يمانيون والأسفار قد جسدت لنا تيهنا..!؟ ”

حديث النزوح مستمر وهو التساؤل الذي يتمحور من عدة أسئلة .. حيث لا أزالُ أتمعنُ في وجوه المشاركين لفرحة العريس ثم أكتب:

“إنَّ أول من بدأ بالفرار من شظايا تلك المعارك المحيطة بحرض هم أصحاب البشرة السمراء وهذه المنظمات التي تلقبهم بالمهمشين جاؤوا لشمال بلدنا ليس إلا لمُلاقاة من تركوا ذكرياتهم منقوشة على جدران وأزقة تلك المباني، لا أتوقع من أنهم سيربتنَّ على كتفيّ كل متضررٍ من معاناة اللجوء
حيث قد غادروا المدينة تاركين منازلهم الآمنة قبل الحرب ليلاً إلى المنفى جهاراً نهاراً ،!؟

مكثت المنظمات في تهامة وأمسوا النازحيين ينتظرون مجيئهم كلما سطعت شمس الصيف،
ربما ازداد انتظارهم وازدادت معاناتهم والمنظمات الإنسانية تهرع لتستقبل النازحيين إلى تهامة-خميس الواعظات استقبالهم للتسجيل لا للدخول إلى مخيمات لم تتوفر بعد ملكية أرض النازح!!
وفي الحقيقة استقبل المجتمع التهامي اليمني الأصيل مجتمعاتٍ شتى نزحو من حرض وميدي والمناطق الشمالية فراراً من الموت، وبعد مدة غير وجيزة جاءت المنظمات لتبني لهم في تلال صحاري تهامة أكواخٍ من خشبٍ وحمامات من حديد لتقيهم شموس الصيف، ووصلت إغاثات غذائية إبان الإقرار الإقليمي لعدم انتهاء الحرب والإغاثة لا تسمن ولا تغني من جوع رغم أن لكل أسرة يمنية نصيبٌ منها وأخرى مالية لمتضرري الحرب القائمة ، ومنذ ذلك الوقت أخذ هذا المجتمع يتباطئ رغم أمنياتنا أن تعود اليمن كما كانت أيامه لتعود مدينة حرض على أيدي نازحيها المتعددون-لا فرق بين أسود وأبيض إلا بالتقوى “النّبيُّ محمد”

ويُحكى عن فخامة العريس علي؛ أنه صاحب قصة كفاح لم تكتب بعد، ويعتبر أيضاً صاحب المهن الحرفية التي امتهنها في حياته عوضًا عن الدراسة الذي حرمه منها ظرفه العائلي،

– تذكرت للتو أن هناك شابٌ أكن له كل الإحترام من أنه سرد لي قصة غربة مُدهشة ذات يوماً بطريقة المُتحسر على ضحايا تلك الغربة ، إنهُ هو نفسه فخامة العريس هذا ، المُبتسم في يومه الذي طال إنتظارُه، قبل حوالي ثلاث سنوات فقال :

– لقد اغتربت خارج الوطن لأنني كنت أحلم بزيارة بيت الله الحرام، وبنفس الوقت كنت سأدعو الله بأن يوفقني لبناء بيت صغير فأعتزل الأهل وأكونَ حياتي، لكن يا سهيل حدث ما لم أتوقعه!!”
قلت له مستغرقاً في حديثه:
– أكمل القصة ماذا حدث عندما داهمتك فكرة الغربة بدون جواز سفر؟

– لقد اتفقنا مع مهربو البشر الذين يقومون بتهريب اليمنيين إلى البلدان المجاورة مثل ارتيريا ونجيريا على زوارق الموت وهي مأوى أحفاد بلال، لكننا اتفقنا معهم لتهريبنا إلى أرض مكة حيث يوجد الرزق الوفير وبركة الله ترعى المغتربيين عن ذويهم وأوطانهم بحجة إعالتهم.. وبينما نحن نعتلي قمم الجبال، كان يتقدمنا رئيس مهربو البشر، فنتبع الأثر ونجري مجرى الوديان ونسابق رياح الأيام، وعند وصولنا لمدينة سعودية اتصل بالمهرب أحد من يتعاملون معهم لنصل إلى المجهول حيث نمكث بعيداً عن ذوينا، وذلك المهرب هو من أبناء السعودية، أتفقا على أن نمتطي صهوة سيارته الفريدة من نوعها، ليس لنيل الأجر بل جميعهم سينالون منا ثمن هذا الموت القادم.

ركبنا السيارة وكنا حوالي سبعة عشر شخصاً، وتلك السيارة لم يصنعها الأجنبي إلا لأربعة أشخاص فتسألت: لِمَ كل هذا التعب؟
وبينما كان يرن جرس إنذار سرعة السيارة، خيم الصمت لثوانٍ لا تُعد وكأن رنين جرس بهلوانية سرعة السائق المحترف لا يعمل بعد أن تتجاوز السرعة 120كيلو في الساعة.
وهنا حدثت الفاجعة وأيقنت من أني سأحظى وللمرة الأولى في حياتي من رؤية “الديك الأحمر” الشهير الذي يتناقلوه الأجيال في الحكايات الشعبية، وهنا تساءلت: من هو مؤلف حكاية رؤية الشخص الذي يموت لذلك الديك أحمر اللون؟ وفي الحقيقة أن ملك الموت يأتي برفقة ذلك الديك على مايبدو للحكاية، يا لحظي السيء!! وهنا سمعت أفصح لسانٍ على وجه الأرض وهو رفيق الغربة التي لم تكتمل بعد وأكبر يائس مُسن ينطق بـعبارة رددنها واحدٍ تلو الآخر “شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله” فاصطدمت السيارة بتلة من تلال الصحراء التي يتوسطها إسفلت الخط الرئيسي لتلك المدينة ، فكان ينزل بنا لمنحدرات ترابية ويهرب من مصادفة سيارات الشرطة لأننا مجهولون والسيارة معروفة رغم أنها لا تجيد اللغة عدا لغة السرعة!؟

وجدت نفسي بعد إغماء طال لنصف ساعة وحيداً بين أشلاء المغتربيين الأشقاء، وهناك السائق ينتحب وهو أكبرنا جثةً هامدة، تنفست الصعداء وتفقدت جمسي ووجدتني بفضل لله بنفس الهيئة التي كنت فيها مع عائلتي.. جاءت سيارات الاسعاف ولم ينجُ أحد غيري، تخيل أن تكون برفقة من ربتت يديه على كتفك-يد كبير في السن وتراها على صدرك مقطوعة وأخرى هناك منثورة بجانب جثث هامدة ورأس صاحب غربة عشناها معاً قبل الحادث المفاجأ ، قف هنيهةً ولا تتخيل ماتبقى فذلك الذي حدث معي.

عاد علي لليمن ونزحوا من حرض هو وأسرته إلى مسقط رؤوسهم وامتهن مهنة الحلاقة وإخوته يعملون معه في صالونه بمركز المديرية ومنهم من يغترب في محافظات بعيدة.. والده الفخور به يبتسم بإبتسامة العريس الذي ودع حياة الكفاف ويتذكر الآن بر والده الذي لا يبالي بتضحية ما تبقى من عمره ليعول بيته.

نصيحة:
• أذهبوا لحلاقة رؤوسكم وخذوا من تجاربه العبر أو من والده فستجدون سكينة الروح في تلك الحكم التي اكتسبها في حياته.

_______________________
(١)- لقد تحولت كلاب قرية الروائي الكبير قاو مي الصيني إلى حيوانات مفترسة في غزو اليابان للصين.

بقلم الكاتب اليماني سهيل عثمان سهيل.

2021/8/5م آب-أغسطس

شاهد أيضاً

مناقشة سبل تعزيز التعاون بين جامعة إب اليمنية وكاك بنك

حميد الطاهري  عقد اليوم بجامعة إب”وسط اليمن ” إجتماعا لمناقشة سبل تعزيز التعاون المشترك بين …