قراءة فلسفية في لوحة ليلة النجوم للفنان العالمي

فينيسيت فان كوخ(1853- 1890)

بقلم الدكتورة بهية أحمد الطشم

تبتدىء الياذة هوميروس بعبارة ساحرة :” القلوب هي القلوب.”,وكذلك ليلة النجوم هي ليلة النجوم عند الفنان الهولندي العالمي فينيسيت فان كوخ,حيث تكاد تُوجز قصة حياته وابداعه برمّتها عبر الخطوط والالوان الاستثنائية.

فلا ليل بدون نجوم منثورة في فضائه تنيره وتنير معه ذوي القلوب المظلمة وتعزّي النفوس اليائسة ,ولا أجمل من أجمل مشهدٍ متجسدٍ في اختراق أميرات الليل للظلمات الحالكة.

تدخل هذه الأيقونة الزيتية في اطار الفن الانطباعي ,حيث استدعى فان كوخ  (أهم رواد الفن الانطباعي) , انطباعه الفني من ذاكرته القوية ,فتبلورت مفارقة عظمى برسمها في النهار عام 1889 بعدما استشرف منظرها في الليل من نافذ ة غرفته (في  مدينة سان ريمي دوبرفنس) ثم استحضر انطباعها في ذاكرته ابّان النهار وتجلّت معالمها في الايقونة الفريدة.

تحتضن السماء المكتسية باللون الازرق  الساحر قمرها ونجومها المتوهّجة باللون الاصفر الأخّاذ أقوى احتضان ,ويتماوج سيل من التموجات الزاخرة بالمعاني ,وكانّها تيارات ألوان ساحرة تهبّ من الارض وترتفع نحو  السماء.

وتشمخ  على أقصى الطرف الايسر للوحة شجرة السّرو الشامخة التي عشقها عشقاً عارماً وهي تحاول أن تلامس النجوم.

وبموازاة ذلك تغفو المنازل بمُحاذاة كتف الهضبة على ايقاع الهدوء الصاخب حيث يسِمها السّكون وتساور شرفاتها وهج القمر ,ويناجي سكّانها سطوع اشعته في قلب أمنياتهم.

اذاً, تجسّد هذه الأيقونة بكل حناياها أبعاد الحياة الشخصية والفنية للرسّام الذي تأثّر تأثراً بالغاً بفنّ والدته منذ نشأته وهي موجودة منذ عام 1941 في متحف الفن الحديث بنيويورك .

لقد حوّل هذا المبدع مبلغ آلامه  النفسية الصارخة  الى متاحف متنقلة عبر اسقاط انفعالاته الشعورية  الممزوجة بطلاوة الابداع ,فهي بمثابة المستودع الامين على مكنونات الشعور,لوحة جباّرة بمثابة صفحة بيضاء في كتاب المواجهة ضدّ اليأس.

ونستذكر بهذا الصّدد المنافذ الاربعة للعُقد النفسية للنفس التي صنّقها رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد ألا وهي: احلام النوم,احلام اليقظة, الغضب والتسامي(sublimation) .

وهُنا تجلّى التسامي والتعالي الخلاّق كأهم عُقدة ايجابية للنفس المبدعة عبر حنايا هذه اللوحة وحيث الجنون الجميل بالألوان وكأنّ الفرح كامن في قلب الأحزان.

وفي الصّدد عينه نستحضر قول الرسّام والفيلسوف جبران خليل جبران في دمعة وابتسامة:” ان الأتعاب التي لا تتم مكافأتنا عليها ستحيا معنا وتذيع مجدنا…”و “الارزاء التي نحتملها ستكون اكليلاً لفخرنا.”

فكثيراً ما كان يهجع الألم  في صدر فان كوخ ,وهو الفقير البائس الذي عانى فقراً مدقعاً ممّا اضطره الى احراق بعض لوحاته للتدفئة عليها في الشتاء.,وكانت الظروف البائسة قد أحكمت السيطرة الظالمة على حياته ,حيث لم يستطع في حياته كلّها الاّ بيع لوحة واحدة فقط, والحقيقة الغريبة أنّه نال شهرته العظمى بعد مماته ,اذ  تم بيع لوحاته بمبالغ طائلة.

ولا غرو أن تكون أبرز لوحات فان كوخ …. مثار اهتمام وتحليل العديد من جهابذة الفلاسفة وفي طليعتهم الرائد في الفلسفة الوجودية الفيلسوف الالماني مارتن هيدبجر وخصص في هذا الاطار كتاب “أصل العمل الفني.”,والذي اعتبر أنّ أهم لوحاته مشحونة بالمعانا ة  ورسمها لكي يُفشي الحقيقة.

وكذلك جاك دريدا (فيلسوف التفكيك الغربي)في كتابه :”الحقيقة في الرسم”,حيث طرح اشكالية بارزة بصدد أبرز لوحات فان كوخ ألا وهي: هل يخبرنا الفن الحقيقة؟”

وفي النهاية ,مات فان كوخ وهو في أوج عطائه الفني عن عمر ناهز السابعة والثلاثين ,ولكنّ ابداعه ما زال حياً ونابضا ً بالابداع الذي لا ينضب….

وهو القائل:” ” أحب المشي كثيراً وأعشق الطبيعة ,وهذا هو الطريق الحقيقي لكي نتعلّم كيف نفهم الفن بشكلٍ أفضل.”

شاهد أيضاً

في أجواء سورة الجمعة

✒️ المرجع الراحل السيِّد محمد حسين فضل الله. 📖 تفسير من وحي القرآن . _________ …