رحلة في بلد الإشعاع

رواية على حلقات للكاتب أحمد فقيه

الحلقة السادسة (العودة)

بعد أن تفتحت نفس إسماعيل للحياة، وأبهرته “عفراء” بجمالها ورقتها، جاءه نبأ وفاة والده الذي لم يره منذ أن غادر القرية، فقرر العودة دون أن يترك أي خبر للمعلم أبي خليل أو لعفراء، مع تأثرهما تأثراً بالغاً في ما جرى.

وبعد أن خرج إسماعيل من المقهى وأصبح على قيد خطوات منه، تنبه إلى ذلك الرجل الذي أحضر له الرسالة،والذي ما زال يسير خلفه، فإعتذر له لشروده وعدم إنتباهه له، وشكره على حمله الرسالة وإيصالها إليه. فرد عليه الرجل بعد أن عزاه بوفاة والده: أي إنسان يصاب بمثل هذه المحنة قد يتصرف نفس التصرف. وأضاف قائلاً: ولكن المهم في مثل هذه الأمور أن يصبر الإنسان ويصمد أمام العاصفة كي لا تجرفه، وإلا فإنه بدلاً من أن يعمل على تخفيف الكارثة بما أعطاه الله من قدرة على التفكير والعمل، ينجرف مع التيار ويضيف إلى المصيبة مصائب أخرى قد تجر وراءها أخرى وأخرى وهكذا إلى ما لا نهاية..

أعجب إسماعيل بكلام الرجل، وشكره على حسن تعزيته إياه، ثم سأله إلى أين يريد الذهاب. فأجابه الرجل بأنه آتى إلى بيروت ليصرف شيكاً كان قد وصله أخيراً من ولده الذي يعمل في أمريكا، وأنه الآن عائد إلى البلدة، إذ ليس له من عمل في بيروت.

فقال له إسماعيل:إذن تسرني مصاحبتك.

بل إنه لمن دواعي سروري أن أصاحبك، فأنت بمثابة ولدي، ووالدك رحمه الله، كان من أعز أصدقائي.

تجاذب الإثنان أطراف الحديث أثناء وجودهما في السيارة التي أقلتهما، ثم تابعا حديثهما وهما سائران من مفترق الطرق الذي أوصلتهما إليه السيارة إلى قريتهما “وادي اللوز”.

بدأ الحديث عاماً عن البلدة وما طرأ عليها طيلة هذه السنوات الأربع. ومنها علم إسماعيل أن أهل البلدة عموماً قاسوا كثيراً من قلة الإنتاج والمحاصيل الزراعية بسبب قلة الأمطار التي تتابعت سنتين متتاليتين على البلدة وما جاورها. حتى أشجار الزيتون قد هبط إنتاجها إلى أدنى مستوى بسبب الجفاف أحياناً، أو بسبب الرياح الهوجاء التي تأتي على الأزهار فتذهب بالكثير منها..

وبعد أن طلب الرجل من الله أن يصلح حال بلدته وأهلها، وأحوال الناس أجمعين، عقب قائلاً: إن مثل هذه الظروف القاسية التي نعانيها هي التي جعلتني أقبل على مضض بذهاب إبني الوحيد إلى تلك البلاد النائية، وقد مضى الآن على ذهابه ثلاثة أعوام لم أشاهده فيها قط. وأمه تقضي معظم الليل والنهار بكاء، وتحرقا على فراقه.

وبدا أن الرجل قد لاحظ ما على إسماعيل من صمت ووجوم، فأراد أن يسليه، لذلك كان يصل الحديث بالحديث ليصرف إنتباهه عما هو فيه، فأضاف: لم يكن عمر “سمحان” الحقيقي يتجاوز السادسة عشرة عندما سافر إلى أمريكا، أما في الهوية (شهادة الميلاد) فكان يزيد عن الثامنة عشرة بثلاثة أشهر. لقد كره المدرسة، فتركها.. ولم يعد يتحمل حتى التحدث عنها. نصحناه كثيراً ولكن دون جدوى. ولما كنت مقتنعاً بأنه لا فائدة من عمل لم يرض عنه صاحبه، تركت له حرية الإختيار فيما يريد، بعد أن زودته بما لدى من خبرات ونصائح، فإختار السفر وأصر عليه. فقبلت معه والأسى والحسرة يفتتان كبدي. ولكن لا بد مما ليس منه بد..

وهنا اغرورقت عينا الرجل بالدموع. فتأثر إسماعيل فعلاً، ونسي حالته هو، وإنصرف يواسي الرجل، فقال له: لا بأس يا أبا سمحان.. لا تيأس.. إنك أحسن حالاً من كثيرين غيرك.. حسب ما أرى من كلامك هناك صلة قوية بينك وبين ولدك رغم البعد الشاسع بينكما، وهناك كثيرون قريبون من بعضهم بعضاً، ولكنهم يفتقرون إلى هذه الصلة القدسية الطاهرة والتي بلا شك، تبث أمل الحياة المشرق في نفسك ونفس ولدك. لقد علمت منذ قليل أنه أرسل لك شيكاً، وهذا يعني بأنه يفكر بك وبأمه وإنه لم ينسكما. ولا بد أنه يتحرق شوقاً الآن لرؤيتكما كما تتحرقان شوقاً لرؤيته. وهذا الشوق وذاك الحنين كفيلان بغسل النفس وتطهيرها، فتبقى محافظة على نقائها وطهرها، وهذا بدوره يبقي على الحياة لذة ومتعة لا يدانيها شيء.. وها أنت ترى بنفسك شخصاً مثلي على قيد خطوات من والدي، إذا قيس بالنسبة للمسافة التي تفصلك عن إبنك، ومع هذا لم أره منذ أكثر من أربع سنوات، ولولا فضلك، قد أبقى مدة لا يعلم إلا الله كم تطول أو تقصر، دون أن أعلم بوفاته.. فمن الأفضل منا؟!

تنهد الرجل تنهيدة طويلة عميقة، أعقبها ببرهة صمت، ثم أجاب: إني على علم بكل ما جرى بينك وبين والدك، وإني لآسف جداً لما حصل. أنا لا أنكر بأن والدك، رحمه الله، كان مخطئاً، ولكن لا يسعنا إلا أن نطلب له الرحمة والغفران..

لقد كان يحبك فوق ما تتصور.

إني لا أنكر حب والدي لي، وإني أعلم دخيلته كما تعلم أنت على ما أعتقد. ولكن لا أدري كيف يمكن لكما أن تكونا صديقين حميمين و..

إني أعرف ما تقصده.. إني أعلم بأن والدك وأنا نختلف في الرأي والتفكير. ولكن هذا في نظري، لا يمنع من أن نكون صديقين. إن هناك صفات عديدة في كل منا يمكن أن نعتبرها قاسماً مشتركاً، وتكون هي همزة الوصل بيننا. أما بالنسبة للصفات الأخرى التي قد تكون مختلفة فيمكن التغلب عليها بشيء من المرونة. وإلا فإنه لمن الصعب أن ترى صديقين في العالم كله، لأنه يندر أن تجد إثنين متماثلين تماماً. وبما أن الإنسان معرض كل يوم لمواجهة أناس جدد قد يختلف عنهم في كثير أو قليل، إذن عليه أن يروض نفسه على أن يغض النظر عن بعض ما يصدر أمامه من هفوات، أو ما قد يعتبرها “هو” هفوات، وعلى أن يعامل الآخرين بالتي هي أحسن، في حدود المعقول طبعاً. وهنا يكمن سر نجاح الإنسان على ما أعتقد.

فأجاب الشاب منفعلاً متأثراً بكلام صاحبه: إن ما تقوله هو عين الصواب. لقد صدق من قال:

إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لن تلقى الذي لا تعاتِبُهُ.

إن الصداقة تدعو إلى الألفة والمحبة، وهذه بدورها تؤدي إلى التعاون، بدلاً من التشاحن والأحقاد التي قد تجر الكثير من الويلات والحروب بين الناس. وبهذا، بدلاً من أن يفني الإنسان نفسه من أجل شيء قد يكون تافهاً، يحول جهده للعمل والإنتاج، علاوة عما يغمر النفوس من الحب الذي يبدل مصاعب الحياة ومتاعبها ويحولها إلى بهجة ومسرة. فعلاً، يا أبا سمحان، إن فيما قلته يكمن سر نجاح الإنسان.. ليت الجميع يفكرون كما تفكر!..

لم يشعر الإثنان إلا وهما على قيد خطوات من مشارف البلدة، والشمس قد أشرفت على المغيب، فصبغت الأفق بصبغتها الأرجوانية المعهودة، وسارعت عدة قطعان من الغيوم في السماء تتلاقى ثم تفترق وكأنها تتهامس متناقلة أنباء خطب عظيم..

ومرت نسمة باردة، فحركت أغصان الأشجار المنتشرة على جانبي الطريق الصاعد إلى القرية، وإمتدت ظلال المرتفعات، فحجبت ما تبقى من نور الشمس عن المنخفضات والأودية، فأضفت عليها هالة من الروعة والمهابة والغموض.

لم يلحق إسماعيل مراسم الدفن التي كان يجب أن تتم قبل الغروب، فقصد بيت أهله ومعه الرجل الذي لم يرض مفارقته. وقبل أن يصلا إلى البيت بعدة أمتار سمعا أصوات النحيب والعويل تتصاعد إلى عنان السماء. فشد الرجل على كتف إسماعيل وقال له: تصبر يا بني، إنها لشدة وستزول إن شاء الله..

وفي هذه الأثناء كان الإثنان قد أصبحا أمام المنزل، ولم يشأ أبو سمحان أن يدخل مع إسماعيل كي لا يفسد لقاء الأم بإبنها، فإستأذنه عند الباب قائلاً: إني أريد أن أتفقد شئون المنزل، وأرتب أمور الدواب، ثم أعود إليك إن شاء الله.. لا أريد أن أكثر من نصحي لك، ولكن تصرف كما يجب، وكما يليق بك كشاب عاقل ومتزن..

فنظر إليه إسماعيل، وهو يمد يده، نظرة ملؤها الأكبار والإحترام، ودون أن ينطق بأية كلمة، شد على يد الرجل الممدودة إليه بكلتا يديه وهو يهز رأسه، وإفترقا..

حرارة اللقاء

كان لقاء الشاب بأمه وأخته مؤثراً جداً بحيث جعل النسوة اللائي بقين مع الأم والإبنة لمواساتهما يخلين البيت للضيف الجديد الذي طال إنتظاره، وكان سبباً فيما هم فيه الآن من حزن واسى..

إحتضنت الأم إبنها وإنهمرت دموع الإثنين غزيرة حارة، ولم يدرِ أي منهما إن كانت دموع حزن أم فرح.. إنها مزيج من الإثنين معاً.. فكلا من الحالتين أثرت في الأخرى وأبرزتها قوية حادة، فكان من تفاعلهما ذلك المشهد المؤثر.. أما سلمى فقد وقفت مشدوهة مذهولة.. وتلك الدموع التي كانت تهطل مدراراً على خديها قد تجمدت في أماكنها، وصرخات النحيب والبكاء التي كانت تملأ جو المكان قد صمتت فجأة..

كان دخول إسماعيل على أمه وأخته مفاجئاً.. لم يعلما بتلك الرسالة التي أرسلتها له هند.. وهما في زحمة الأمر الذي كانوا ومازالوا فيه، لم يخطر ببالهما إبلاغ إسماعيل أو دعوته للحضور، وخصوصاً أنه إنقطع عن مراسلتهما منذ مدة طويلة.. لذلك لم يتوقعا دخوله عليهما بهذه الصورة، فحدث ما حدث من جراء المفاجأة، ومن تأثير الكبت الذي تعانيانه منذ مدة ليست بالقصيرة..

وما كاد الثلاثة يلمون بجوانب الموقف الجديد، ويستعيدون آثار الماضي، ثم يربطون ما بينهما، حتى إنفجروا جميعاً بالبكاء دفعة واحدة مما بدد ذلك السكون الذي خيم على المكان لبرهة..

قسوة الحياة

إن الشعور بالندم الذي تسلل إلى نفس إسماعيل عندما علم بوفاة والده كان في محله.. لقد أصيب أهل البلدة جميعاً بنقص شديد في إنتاجهم الزراعي بسبب الجفاف وتقلبات الجو، وذاقوا من القسوة، وشظف العيش، والحرمان، الكثير. أما أهل إسماعيل فقد ذاقوا الأمرّين بسبب عجز اليد المنتجة والفعالة في الحقل، والتي بدلاً من أن تعطي فهي بحاجة مستمرة للأخذ من أجل العلاج، والغذاء الخاص الذي شح وندر في تلك المناطق.

كانت الدراهم القليلة التي يرسلها إسماعيل لوالدته سراً كلما سنحت له الفرصة تساعدها في حل الكثير من مشاكلها. ولكن بعد أن إنقطعت هذه الدراهم ضاقت السبل في وجه هذه المرأة المغلوبة على أمرها، وعانت الكثير، الكثير.. فهي لم تلم إسماعيل على عدم مساعدتهم بعد أن طردوه من بيتهم، بل إنها تعتبر مجرد تفكيره بهم تكرماً منه وفضلاً، لذلك لم ترسل تستنجده أو تذكره بما هم فيه من حرمان وعوز. وهي كذلك تخجل من أن تمد يدها لأحد من أهل القرية، وخاصة أنها تشعر بأن معظم أهالي البلدة في حالة يرثى لها من العوز والعاقة. لقد تراءى لها بأنها لو بحثت في القرية كلها قد لا تجد المبلغ الذي تريده لتأمين حاجياتها ومطالب بيتها. كانت ترى بأم عينها معظم الناس الذين خوت بيوتهم من كل شيء وهم ذاهبون إلى الحقل ليقطعوا سنابل الشعير وهي ما زالت خضراء لم تنضج بعد، ثم يشوونها على النار لتجف، وبعد هذا يفصلون الحَب عن القش، ثم يجرشون هذا الحَب في بيوتهم ويجعلون منه خبزاً يأكلونه مع أولادهم إما “جافاً” بدون أي شيء، أو مع “البصل والملح” أو “الزيتون” إذا توفر..

هذا علماً بأن أهل البلدة يزرعون الشعير ليجعلوا منه علفاً لدوابهم وليس طعاماً لهم. ولكن الذي جعل الناس يقطفون الشعير دون القمح هو أن موسم القمح لتلك السنة قد أصيب بمرض يعرف عند الفلاحين بإسم “الراهوب” وهو مرض يصيب السنبلة عند بداية تكون الحَب فيها فيحرقها، ويصبح ما بها من حبوب عبارة عن رماد أسود كالفحم. وسبب هذا المرض كما يعرفه الفلاحون، هو المطر الشديد عند بدء ظهور السنابل وتكوينها. هذا ما حصل في ذلك العام. فأتى المطر الشديد على كل موسم القمح تقريباً، الذي يعتبر رأسمال الفلاح وعماد معيشته. وقد نجا من هذه المحنة بعض المزروعات الخفيفة الأخرى مثل الشعير وغيره التي قد “لا تسمن ولا تغني عن جوع”. وما حصل تلك السنة هو عكس ما حصل في السنة التي قبلها، وإن كانت النتيجة واحدة تقريباً، إذ كان المطر نادراً وشحيحاً جداً، فأقحلت الأرض حتى من العشب الذي يعتبر كلأ المواشي الرئيسي..

وهكذا، فإن مصير القرية وما جاورها من قرى مرهون بتقلبات الطقس.. كالريشة في مهب الرياح، تتقاذفها كيفما شاءت..

وبالطبع لم يُعفَ “سليمان الرشيدي”، والد هند، من هذه المحن والنكبات، بل كان نصيبه منها أكبر. لقد أدى الجفاف الذي أصاب البلدة إلى قلة العشب والرعي مما أصاب معظم أبقار البلدة بالهزال، وهذا بدوره أصابها ببعض الأمراض التي بسببها نفق الكثير منها ومن غيرها من الدواب والأنعام، ومنها مواشي “أبي هند” التي لم يسلم منها واحدة.. وقلة الإنتاج، ورداءة المواسم التي أصابت البلدة لم تمكن أهلها من شراء بدل الحيوانات التي نفقت.. ومعروف في تلك القرى أن هذه الأبقار هي كل شيء بالنسبة للفلاح القروي البسيط، الذي ما زال يستخدم الحيوانات والمحراث وغير ذلك من الأساليب البدائية في الحراثة، بالإضافة إلى الحليب الذي يعتمد عليه في معيشته في قريته النائية. وهذا جعل الكثيرين من الأهالي يستعيضون عن المحراث بالمعول، وعن الحيوانات بأنفسهم في زراعة الأرض وحرثها، وكان أبو هند من ضمن هؤلاء طبعاً، بل أن مهمته كانت أشق وأصعب. فكان عليه، بالإضافة إلى عمله وحراثة أرضه هو، الإشراف على أرض أخيه أبي إسماعيل وتوجيه زوجته وإبنته إلى ما يمكن أن تفعلاه إذا كان لا بد من العمل وإن كان شاقاً مضنياً.. وهذا إضطره إلى إصطحاب زوجته وإبنته هو معه إلى الحقل كذلك، إذ يد واحدة لا تكفي، وليس هناك من معين سوى سواعدهم.

وفي أحد الأيام الممطرة، بينما كان الثلاثة، هند ووالداها يحرثون الأرض بمعاولهم في ناحية من سفح جبل مجاور للقرية، إنزلقت صخرة تحت قدم الزوجة، فهوت الإثنتان، الصخرة وأم هند وراءها على المنحدر إلى أن إصطدمتا بشجرة سنديان، وكان من نتيجة هذا الإصطدام أن إرتدت الصخرة إلى الوراء حيث تقابلت مع أم هند وأصابتها بكسور بليغة، إضافة لما أصابها من رضوض وغير ذلك من آلام مبرحة أثناء تدحرجها على المنحدر.

أسرع الرجل وإبنته وهما في حالة يرثى لها من الألم والحزن العميق، فأزاحا الصخرة عن صدر المسكينة التي كانت في حالة غيبوبة تامة. أما هند فلم تستطع السيطرة على نفسها، وبالأخص عندما شاهدت والدتها تنزف من فمها وأنفها، فإنفجرت صارخة مولولة، وهي تارة تشد شعرها، وأخرى تشق ثيابها، أو تمرغ جسمها ووجهها بالتراب والوحل، مما جعل جميع الفلاحين الموجودين في تلك المنطقة في ذلك الوقت يهبّوا هبة واحدة للنجدة عند سماع صوتها، ونحيبها المرير.

وبعد حوالي ثلاث ساعات أو أكثر بقليل كانت المصابة في عيادة الدكتور شفيق شاكر الذي أعطاها بعض الإسعافات الأولية وأوصى بنقلها وبسرعة إلى أقرب مستشفى، لأن حالتها خطرة، ولا يوجد لدى العيادة من الأجهزة والمعدات اللازمة لمثل هذه الحالات، ونصح بنقلها إلى بيروت أو صيدا، وخاصة بعد أن لاحظ أنها إستعادت وعيها على أثر المنشطات والمنبهات التي تم إسعافها بها.

ولكن للأسف الشديد، فإن حالة الغيبوبة لم تلبث أن عادت للمسكينة وهي في طريقها إلى صيدا.. وكانت غيبوبة أبدية، غيبوبة لم تفق منها أبداً.. لم تستطع المصابة تحمل الألم، أو الصمود أمام ذاك السيل الدموي الذي إستمر في تدفقه طيلة هذه الساعات الطوال.

وهكذا، كانت فاجعة أبي هند عميقة ومؤلمة جداً.. لقد إفتقد من يساعده ويعتمد عليه في محنته، ومن يؤنسه ويبدد الظلام عنه في وحدته. وهذا بالطبع كان له أثراً كبيراً على أم إسماعيل التي أصبح عليها، والحالة هذه، الإعتماد على نفسها وعلى إبنتها كل الإعتماد في أعمالهما وحل مشاكلهما.

كان الطبيب يزور أبا إسماعيل كل أسبوعين فيصف له من العلاجات والمقويات ما يكفل له إستمرار البقاء على قيد الحياة، وإن كان الوهن والضعف في جميع أعضائه وأجهزته وخاصة القلب يزداد يوماً بعد يوم. ولكن المرأة المسكينة المنكوبة كانت في كثير من الأحيان وخاصة في الفترة الأخيرة، لا تجد المبلغ الكافي لتعطيه للطبيب وأحياناً كانت لا تجد شيئاً البتة فتحتار في أمرها، ويلاحظ الطبيب ما عليها من إرتباك، فيسامحها بشيء مما له، وأحياناً كان يضطر لمسامحتها بكل شيء. وحتى الدواء كان يضطر لإعطائها إياه بدون ثمن..

إلا أن أمراً مثل هذا من الصعب أن يدوم إلى ما لا نهاية.. فكف الطبيب عن زيارة مريضه مكتفياً ببعض النصائح قائلاً: اإذا شعر المريض بكذا فإعملوا كذا.. وإذا أحس بكذا فإعملوا كذا.. وإذا بدا عليه كذا أو كذا فإفعلوا كذا.. وإذا فعلتم كذا وكذا وكذا ولم تتحسن حالته أرسلوا إلي، فآتيكم إن شاء الله..

فهزت المرأة المسكينة رأسها موافقة على ما لا تستطيع الإعتراض عليه. وإستمرت على كذا وكذا وكذا لعدة أشهر. بل أحياناً كانت تضطر لإضافة أمور أخرى من عندها لم تدخل ضمن لائحة نصائح الطبيب.. فبدا تحسن ملحوظ على صحة المريض، وعادت الحيوية تدب فيه من جديد، وإنحلت عقدة لسانه بعد أقل من شهر من بداية المحنة، ولكنه بقي على إنطوائه وتجهمه لا يكلم أحداً، كمن فعل نكراً ثم أفاق من غفوته ليرى ما فعل بنفسه وبغيره، مما أدى به إلى التخفي والهروب حتى من نفسه..

على أي حال، شعر أهل المريض وأقاربه بالفرحة والسعادة عندما شاهدوا تحسن حاله آملين أن يعود إلى سابق عهده في القريب العاجل..

ولكن كثيراً ما تخدعنا الأقدار، فتبدي غير ما تخفي،ساخرة منا، مستهزئة بمشاعرنا وبآمالنا وآلامنا.

ففي ليلة مقمرة من ليالي حزيران الهادئة، إستيقظت أم إسماعيل مذعورة على صوت سعال شديد لا يكاد يخمد حتى يثور من جديد. فأسرعت إلى زوجها تقدم له كل ما تعودت أن تقدم من علاج وبخور، وتهابيل وغيره، ولكن دون فائدة. كانت النوبة حادة، ولم يكن في مقدرة المرأة بكل ما لديها من وسائل أن تسيطر عليها. فأسرعت إلى إبنتها توقظها، فوجدتها قد أفاقت هي الأخرى لتوها، فطلبت منها الذهاب بسرعة إلى بيت الراعي “ضرغام” وإصطحابه إلى منزل الدكتور المقيم في القرية المجاورة، ثم يعودان وهو معهما بأسرع ما يمكن.

وضرغام شاب في مقتبل العمر، يعيش مع والدته بعد وفاة والده، وهو يقوم برعي أغنام البلدة لقاء أجر سنوي متفق عليه. وقد عرف عنه المروءة والشهامة لدرجة أن كل أسرة كانت تنظر إليه وكأنه أحد أفرادها، ولا تجد حرجاً في طلب مساعدته في بعض الأمور إذا لزم الأمر. هذا علاوة على أنه كان يخص بيت أبي إسماعيل بعناية خاصة بعد تلك المحنة التي ألمت به.

إلى اللقاء في الحلقة السابعة (الرسالة الأولى)

شاهد أيضاً

في أجواء سورة الجمعة

✒️ المرجع الراحل السيِّد محمد حسين فضل الله. 📖 تفسير من وحي القرآن . _________ …