صـــورة …. وذكــــرى


علي رفعت مهدي


دخلتُ رحاب الثانيةِ والخمسين من العمر ، وكلَّما عاد الثلج الى ربوعنا من جديد _ في كلِّ عامٍ _ هطلت سحائب ذاكرتي بعضًا من الجمالات الطفولية ، على روابي نفسي المشتاقة الى المقاعد الخشبية في صفوف المرحلة الابتدائيَّة ، الى معلِّمةٍ كانت تنشدُ القصيدةَ ترتيلًا ودندنةً ، ومعلِّمٍ كانَ الأدبُ يدفـــقُ خيرًا ، وسنابلَ وجدٍ من شفتيه !!! وكنتُ _ ولا ازالُ وســـأبقى _ استرجِعُ تلك اللحظات الهانئة الـــوادعة من ( أيـــَّام ومشاهـــد وأيَّــــام ودروب وأيَّــــام وجنى ) وهي اسماء كتب القراءة ، ذلك الـــزمن الجميل الذي لم نعرف فيه حقدًا أو غلًا أو حســـدًا او عنجهيَّةً او خبثًا او لـــؤمًا …. ولم نتعلَّم فيه سوى (سواد العينِ يا وطني فداكا )و(النهر المتجمِّد) و(نشيد الصباح) و( سقف بيتي حديد) و(سكن الليل) و(طفولتي) والكثير الكثير ممَّا يحفرُ عميقًا جدًّا في ذاكرتي والذي حين استرجعه يفيضُ دمع العينِ حنينًا وشوقًا ولهفةً ولوعةً واغترابًا وغربةً ونأيًا وبعادًا وبعدًا وسقيًا لتلك الأيام الخوالي الغوالي …. ولعلَّ مشاهد الثلج السنويَّة تعيدنا الى صبوات وأحلام الطفولة المستلبة المكبوتة المأســـورة داخل كلِّ نفس شفافةٍ من نفوسنا التوَّاقة في زمن الاوبئة والموت والأمراض والجوع والقهر والحرمان والألم والمعاناة الى التَّأمـــل قليلًا في واقع الحال الذي انتهت حياتنا اليه …. والى الركونِ قليلًا والهدوء حيثُ ذكريات الماضي الجميل الذي علينا ان نتعلَّم منه كلّ ما يجعلنا نأملُ بغدٍ مشرقٍ لاولادنا واحفادنا ممَّن لم يعرفوا او يقرؤوا الرابطة القلمية والعصبة الاندلسية وشعر الحنين وادب القرية والضيعة اللبنانية ، ولم يطَّلِعوا على العادات والتقالـــيد والقيم التي غرسها اجدادنا المباركون غراس وعيٍ وسلامٍ ومحبةٍ وطمأنينة ٍ قبلَ رحــيلهم الى العالم الملكوتيّ الذي يليقُ بجهادهم وعطاءاتهم وتضحياتهم وهم الذين حوَّلوا وعر الارضِ الى حدائقَ غنَّاء تموجُ بالورد والعطرِ والنَّورِ والشجر الذي يرتدي ثلج الشتاء يزورنا من كلِّ عامٍ فتستعيدُ ذاكرتي من المحفوظات التي لا تزالُ في ذاكرتنا المدرسيّة منذ العام 1978 نشيدَ الشاعر المهجريّ رشيد ايُّــوب “يا ثلجُ قد هيّجتَ أشجاني ” ونحن الذين زرعنا اخوةً لنا وأحبَّةً من لبناننا وقرانا وبلداتنا غربة وهجرةً في رحابِ محيطات وقارات هذا الكون الواسع … هذا النشيد الذي اردتُ انْ يكونَ استراحةَ وئامٍ وحبٍّ وسلامٍ في ازمنةِ الوبـــاءِ والموتِ الزؤام :
يـا ثـلجُ قـد هـيّـجـتَ أشـجـاني
ذكَــرتــنــي أهــلي بــلُبــنَــانِ
بــاللهِ عَــنّــي قُــل لإخـوانـي
مـا زالَ يـرعـى حـرمـةَ العـهد
يـا ثـلجُ قـد ذكّـرتني الوادي
مُــتَــنَـصّـتـاً لِغَـذيـرِه الشّـادي
كـم قـد جَـلَسـتُ بحضنه الهادي
فَــكــأنّــنــي فـي جَـنّـةِ الخُـلدِ
يــا ثــلجُ قــد ذكِـرتـنـي أمّـي
أيّـامَ تـقـضـي الليلَ في همتي
مـشـغــوفـةً تــحَارُ فـي ضَـمّـي
تــحــنـو عـليّ مَـخـافَـةَ البـردِ
يـا ثـلجُ قـد ذكّـرتني الموقِدْ
أيــامَ كُــنــا حَــولهُ نُــنــشِــدِ
نـعـنـو لَدَيـهِ كـأنّهُ المـسـجِـد
وكـأنّـنَـا النُّسـّاكُ فـي الزُّهـدِ
يـا ثـلجُ أنت بثوبكَ الباهرْ
ونــقــائهِ كــطــويّــةِ الشـاعِـرْ
لَو كنتَ تدري الناس يا طاهر
لبــعــدتَ عــنـهـم أيّـمـا بُـعـدِ
لَو لم تـذُب مـن زفـرَة القـلبِ
أو دمـعـيَ المـنـهـال كـالسُّحبِ
لبَــنَـيـتُ مـنـكَ هـيـاكـلَ الحـبِّ
وحــفَـرتُ فـي أركـانـهـا لحـدي
يا ما أُحَيلى النجم إن لاحا
والثـلج يـكسو الأرض أشباحا
والشّـاعـر المـسـكـيـن نَـوّاحَـا
يـقـضـي اللّيـالي فاقدَ الرّشدِ
إن كـنـتَ تـجـهـلُ أنـتَ في يسرِ
أو كـنـتَ تـعـلمُ أنـتَ فـي عسر
أنــا لا أظُـنّ روايـةَ العـمـرِ
أدوارهــــا هــــزلٌ بـــلا جـــدّ
يا نـفـس نـادي صـاحب العرشِ
يــا رازق النـعّـاب فـي العـشِّ
وتـدرّعـي بـالصّـبـرِ ثـم امـشـي
لا بــدّ بَــعـدَ الجَـزرِ مـن مـدِّ
سقى الله تعالى تلك الأيَّـــــام صلوات الحنين وسلامات الشوق ولهفة الإيـــاب !!!!


20 شباط 2021

شاهد أيضاً

مرحلة ” هيهات منّا الذلة ” والرسالة التي وصلت واضحةً :《راياتنا لن تسقط !》

  بينما يحاول العدوّ الإسرائيلي الضغط عبر التهديد والوعيد بإحتلال رفح ليُقنع محورنا المقدّس ” …