الأسلوب الحسن من وحي ولادة الإمام الحسن(ع)

من روائع المحاضرات التي حرَّرتها للسيِّد الأستاذ بمناسبة ولادة سبط رسول الله الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب[ع]تاريخ 5 شباط 1996

السيّد الأستاذ المرجع المجدِّد:
محمد حسين فضل الله.
إعداد وتنسيق:
علي رفعت مهدي.

 

القيم الكبرى :
نحن عندما نطلّ على ذكرى هذا الإمام العظيم، فإننا نلتقي بكل القيم الكبرى التي تتمثّل بالإسلام كلّه، فكراً وروحاً وعاطفة وحركة..
في هذه الأجواء التي نعيشها في منتصف هذا الشهر المبارك، نلتقي بذكرى الإمام الحسن بن علي(ع) .. ونحن عندما نطلّ على ذكرى هذا الإمام العظيم فإننا نلتقي بكل القيم الكبرى التي تتمثّل بالإسلام كلّه، فكرًا وروحًا وعاطفة وحركة لأننا عندما نتذكّر هذا الإمام العظيم فنحن نتنفّس الجنة بكل طيّباتها، وبكل روحانيتها ووداعتها، وبكل رضوان الله فيها لأن من نتذكّره هو أحد سيّديّ شباب أهل الجنة، “الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة”، وفي ذلك، قد نحتاج إلى أن نطلّ في روحانية هذا الشهر المبارك على علاقة هذا الإمام العظيم بالله، فقد كان الحسن(ع) يمارس العطاء الكلّي في حياته باسم الله كما لو كان يتعبّد الله، فقد ورد في سيرته أنه خرج من مالِهِ مرتين، حيثُ أنه كان يتصدّق بكل ماله وشاطر اللهَ ماله (أي أعطى الله النصف وأبقى لنفسه النصف ثلاث مرات) وكان يحجّ إلى مكة من المدينة ماشيًا على قدميه، لخمسة وعشرين مرة، تواضعًا لله وإخلاصاً لهُ، ولم يكن ذلك من خلال حاجة للرّاحلة فقد كانت الإبل والخيول تتحرك بين يديه، بل إنه أراد أن يشهد الله على أنه يرهق جسده في طريق طاعته ليعلّمنا من خلال ذلك أن يعيش في الحياة العطاء للإنسان كلّه باسم الله وأن لا يتعقّد الإنسان من عطاء أو جهدٍ يبذله من أجل الله، فنحن عباد الله في الأرض وقد أرادنا الله أن نتحمّل مسؤولياتنا في طاعته في عباد الله وإعمار الأرض وبنائها وتقويمها وتصحيح مسارها على ما يحبه الله ويرضاه..

الدنيا مسؤولية :
وعلى هذا الأساس فإنَّ علينا عندما ندرس هذه المسؤولية في حياتنا بين يديّ الله أن لا نفكّر بأن الدنيا هي فترة راحة بالنسبة إلينا، أي أن السعادة كل السعادة أن نحصل على الراحة، راحة الجسد، ولكن أن نفكّر أن الحياة دار مسؤولية والسعادة فيها هي أن نعرف كيفية القيام بمسؤولياتنا في ما أوجبه الله علينا.. إنّ الراحة المطلوبة للإنسان المسؤول في الحياة هي راحة الروح لا راحة الجسد وراحة العمل لا راحة الفراغ، وراحة الضمير عندما يتحسس في وجود الإنسان أنه قام بمسؤوليته..

السعادة رضى الله:
وعلى ضوء هذا تكون السعادة كلّها هي أن نحصل على رضى الله تعالى.. فإننا عندما نعيش حياتنا العاطفية ربما يفكّر أي واحد منّا رجالاً ونساءً أنّ السعادة المثلى هي أن يرضى عنه من يحب، ألسنا نفكّر في أن يرضى عنا من نحبهم ونودّهم وأن يرضى عنا من نخلص لهم؟ فأي محبوب أعظم من الله؟ وأي محبوب أحبّ إلينا من الله؟ وأي موجود أعطانا مثل الذي أعطانا إياه الله؟ وأي موجود يملك من عظيم الصفات التي تجذب القلب والعقل والروح كما يملكه الله تعالى؟ فالله هو المحبوب في عظمتِهِ وهو المحبوب في نعمِهِ وهو المحبوب في أسمائه وصفاته الحسنى.. ولذلك أن يحبنا الله ويرضى عنّا فتلك هي السعادة المطلقة. لأن الله كلّما أحبّنا رحمنا وكلّما رحمنا أنعم علينا، وكلما أعطانا من نعمه رزقاً وراحة وأمناً وعافية وصحة وسلامة وطمأنينة.

التفكير بالله :
لقد كان الإمام الحسن(ع) كجدّه وأبيه وأخيه دائم التفكير بالله قبل أن يفكر بالناس وكان يقول: “من أراد عزّاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته”، فالعزّ هو في طاعة الله أكثر والذلّ هو بمعصية الله أكثر. ففي الدنيا يشعر الإنسان بالعزّة عندما يشعر أنه مع الله كما كان يشعر رسول الله بالعزّة والدنيا تقف ضده فيقول الرسول: “إن لم يكن بك غضب عليّ (يا رب) فلا أبالي” ويقول لصاحبه في الغار مطمئناً له: “لا تحزن إن الله معنا” وكذا المسلمون من صحابة الرسول الذين قيل لهم إن الناس قد جمعوا لكم فخافوهم واخشوهم فزادهم الله إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. وهكذا نجد زين العابدين(ع) وهو يلتفت إلى ما عند الناس من قيم كاعتبارهم أنَّ الشريف هو من يملك الجاه والثروة والسلطة، وأن الحقير الوضيع من لا يملك ذلك، يقول مناجياً ربه: “واعصمني من أن أظن بذي عدمٍ خساسة أو أظن بصاحب ثروة فضلاً فإن الشريف من شرّفته طاعتك والعزيز من أعزّته عبادتك”.

الألم في حركة المسؤوليَّة :
إننا نستوحي من ذلك كلّه أن لا نتألّم ولا نجزع ولا نشعر بالإحباط عندما تدفعنا مسؤولياتنا إلى أن نعاني بعض الآلام ونواجه بعض المشاكل لأن الإنسان المسؤول يستمدّ طعم الألم في حركة مسؤوليته لأنه يشعر أن الله يراه وهو يتألم، فلا تحدّقوا في عيون الناس كيف تلمع لنجاحاتكم في مسؤولياتكم ولكن انظروا إلى الله تعالى الذي يتقبل منكم أعمالكم، في خط مسؤولياتكم حيث عليكم في هذه الأعمال أن تعتبروا أنفسكم في صلاة وعبادة. فما هو موقفكم في الصلاة؟ أليس همّكم رضى الله تعالى؟ وأن يتقبل منكم؟ إن العمل في تربية الجيل صلاة، والعمل في تثقيف الجيل صلاة، والعمل في رفع مستوى الجيل صلاة. لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتقرّب الإنسان إلى الله، والله يريد للجيل أن يبتعد عن الفحشاء والمنكر، ويريد للجيل أن يحب الله ويريده أن يكون قريبًا منه لهذا كلما علّمنا الجيل أكثر ربّيناه أكثر وفتحنا قلبه للمسؤولية أكثر، وعقله على الله أكثر. وكلّما جعلناه يحب الإنسان أكثر كلّما كان جيلاً يحبه الله. لهذا لا تعتبروا عملكم في هذه المؤسسة أو غيرها من المؤسسات مجرد مهنة للعيش ولكن اعتبروها رسالة للحياة ورسالة للإنسان، ورسالة في سبيل الله.. حتى يكون عطاؤكم عطاءاً روحيًّا بالإضافة إلى ما فيه من عناصر ثقافية وتربوية.

إنفتاح القلب :
إن مَن أحبّ الله، أحبَّ عباده، وكلما أحببنا الناس أكثر استطعنا أن ننفعهم أكثر.. والقلوب المغلقة عن الناس لا تستطيع أن تفتح قلوب الناس عليها، وعقول الناس، فالقلب المفتوح هو الذي يفتح القلوب الأخرى بانفتاحه.. وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين(ع): “أحصدِ الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك” فعندما نقتلع الشرّ من صدورنا تنفتح قلوبنا على الناس وعلى الخير للناس والقلب الإنساني ودود وعطوف وهو ينفتح على القلب الآخر عندما ينفتح عليه.. ولن نستطيع أن نفتح عقول الناس علينا إلاّ إذا استطعنا أن نفتح قلوب الناس علينا، لأن أقرب طريق إلى العقل هو القلب.. فإذا استطعنا أن نربح قلوب الناس كانت الطريق إلى العقل أقرب الطرق.
فلنحاول ونحن مع هذه البراعم الصغيرة التي تتفتّح بكلماتنا وابتساماتنا وبلمساتنا وتنفتح بكل نبضات قلوبنا أن نجعل هذه البراعم تتفتّح بنا كما تتفتح براعم الزهر مع الربيع.. ولنكن في إنسانيتنا ربيع هذه البراعم الصغيرة التي لن تنتج عطراً وعبيراً فقط، بل ستنتج للحياة قادتها وروّادها ومسؤوليها وإنسانيتها.. ولنحاول أن نكون ربيعاً تخضرّ فيه قلوبنا ونفوسنا أن نعطيهم من كل عواطفنا وأحاسيسنا هذا العشب الإنساني. فكيف هي الجلسة على العشب الأخضر في أيام الربيع؟ أليس هو الإحساس بالراحة في ذلك ؟ فلنصنع لهؤلاء عشباً أخضر يرتاحون عليه، فيه خضرة الأمل والحلم والإنسانية في إنسانيتنا.

سعة الصدر :
ولنستوحِ من ميزة الإمام الحسن سعة الصدر، وكيف يمكن لسعة الصدر أن تجتذب الأعداء. حيثُ يُروى أن الإمام الحسن(ع) وهو يسير في شوارع المدينة وحوله أولاده وأخوته وأصحابه، يمتطي جواده، مرّ بهم شاميّ وفي قلبه كل الحقد على عليّ وبنيه، وفي عقله كل النظرة الخاطئة في تقويم عليّ وبنيه (ع) ، يسأل وهو يشير للحسن مَن هذا؟ قيل له هذا الحسن بن عليّ بن أبي طالب، فثارت ثائرته، وفي صدره كل الحقد، ثم أعقب يسبّ عليّاً والحسن وهو يشعر بالقوة لأنه من جماعة السلطة.. مما جعل القوم حول الإمام الحسن(ع) يثورون، ويحاولون ضربه وقتله، لكن الحسن أشار لهم بألاّ يفعلوا ذلك.. والتفت للشاميّ، وفي عينيه كلّ الحب والتسامح وفي شفتيه ابتسامة الرفق والوداعة. وقال له: أراك غريباً فإن كنتَ جائعاً أطعمناك، وإن كنتَ عرياناً كسوناك، وإن كنتَ فقيرًا أغنيناك، ثم نادى أصحابه أن اذهبوا بالشاميّ إلى البيت وأحسنوا مطعمه ومشربه ومسكنه. ففوجئ الشامي بردّ فعل الإمام، الذي توقّع منه أن يبادله السبّ بالسبّ والضرب بسبّ.. ولكنه واجه رفقاً ومحبة ووداعة وعطاءً وانفتاحًا وضيافة.. وحين تلفتّ الشاميّ في بيت الإمام مقارِنًا بين ما قيلَ لهُ عن أبناء عليّ والواقع، إذا به يخرج مردِّدًا: “اللهُ أعلمُ حيث يجعل رسالته”. وكانت القضية أن ربح الإمام إنسانًا صديقًا لا عدوًّا. وهكذا مثّل الإمام مصداق الآية الكريمة: (إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم) وهو ما ينبغي لنا أن نعيشه في حياتنا كلّها وفي كل علاقاتنا الإنسانية. أن نربح أصدقاءنا من خلال الأسلوب الذي يتعبنا شعوريًّا ولكنه يريحنا إنسانيًّا ويحقق لنا النتائج الإيجابية إجتماعياً.
فلنحاول أن نوسّع صدورنا وليكن شعارنا قول عليّ(ع): “آلة الرئاسة سعة الصدر” وليست الرئاسة تعبيراً عن موقع ذاتيّ ولكنها تعبير عن الموقع المسؤول الذي تنفتح القلوب عليه.
عرش السلطة والقلب :
إن هناك فرقًا بين أن يجلس الإنسان على عرش من سلطة وبين أن يجلس الإنسان على عرش من القلوب.. لنعمل أن نعيش في هذه العروش التي هي قلوب الناس من حولنا.. ولعل أكثر ما ينبغي لنا أن نواجهه في هذا المجال هو أن ندخل إلى قلوب أطفالِنا، لا أطفال النسب بل أطفال الروح.. الذين يتعلّمون بالعاطفة ويتربّون بالعاطفة، وتكبر عقولهم بالعاطفة وتقوى شخصياتهم، وتتحرّك خطواتهم بقوة العاطفة.. وإنني أعتقد أن الأمهات يفهمن هذا الموضوع جيداً.. فكلما احتضنت الأم وليدها بحنان تبتسم فيه العين والشفتان والضمّة التي تضمّ الأم فيها ولدها وتحتضنه، كلما استطاع الولد أن يتقبّل التعليمات أكثر وأن يتربّى أكثر وأن يشعر بالأمن والطمأنينة أكثر.. وإننا حين نقسو على الأطفال فإننا نرهق الأرواح الطريّة، وربما نعقّدها ونخلق لها مشاكل لا تقوى على مواجهتها.

رحمة الاطفال :
أيها الأحبة:
إذا أردنا أن يرحمنا الله فلنرحم هؤلاء الأطفال، بسعة الصدر، وسعة العقل والأسلوب، ومختلف الوسائل التي نستطيع من خلالها أن نضم عقولهم إلى عقولنا وأن نحتضن قلوبهم في أحضان قلوبنا وأن يشعروا أننا نحدثهم بقلوبنا قبل أن نحدثهم بكلماتنا.
إنه لا بد لنا – حين نكون جزءًا من مؤسسة – من أن نعيش هذا الإنفتاح الرّوحي وهذه المحبة مع كل الناس الذين يتحرّكون في داخل المؤسسة لنشعر في المؤسسة وإن اختلفنا أنسابًا ومواقع أننا عائلة واحدة. وكلّ مؤسسة لا يعيش أفرادها روحية العائلة لن تنجح. فعندما يعيش كل فرد مع نفسه لنفسه لا للآخر، ونشعر بالعقد تتآكلنا سوف تسقط المؤسسةُ فوق رؤوسنا جميعًا.. وسوف نكون مشكلة للمؤسسة لا مشكلة نحلّها.. وحين نريد أن نرعى الأطفال ونرعى المؤسسة علينا أن نرعى كل الناس الذين نلتقي بهم من آباء وأمهات أطفالنا، ومن الذين يعولونهم ويهتمون بشؤونهم، كي يجدوا في المؤسسة صدرًا رحباً وأفقًا واسعاً وعاطفة ودودة. فالمؤسسة ليست لوحًا أو سبّورة أو قلمًا بل هي إنسان يعيش إنسانيته داخل كلّ موقع من مواقعه وكل عضو من أعضائه.

الجو الرمضاني :
في هذا الجوّ الرمضانيّ، العابق بالروح، والمنفتح على المحبة، المنطلق إلى الله في عروج الروح إليه تعالوا من أجل أن نفتح قلوبنا على الله تعالى لنفتحها على الإنسان كلّه، وعلى الحياة كلّها.. فقيمة الحياة هي بما نصنعه من ابتسامة في فم حزين، ومن لهفة نردّها في قلب مجروح ومن حنان وعاطفة وعلم وتوجيه وتربية نضعها في القلوب. ولندرك أننا سنموت كما يموت الآخرون، بعد أن يأكل كل واحد منّا عمرَه فعلينا أن نبقى بعد موتنا في الذين نربّيهم ونعلّمهم ونوجّههم ونرشدهم ونحلّ لهم مشكلاتهم وفي الذين نمنحهم الحب والأمل بالحياة وبالأمل يتجدد نشاط الإنسان، وبالأمل تكبر طاقة الإنسان، وبالأمل يمكن للإنسان أن يبدع الحياة شيئاً جديدًا وينبوعًا دافقًا بالخير.

تعالوا لننطلق في رحلة الحياة من موقع المسؤولية كي يرضى الله عنّا، ولا شيء إلاّ رضاه، و”رضوانٌ من الله أكبر”.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين ….

السيّد الأستاذ المرجع المجدِّد:
محمد حسين فضل الله.
إعداد وتنسيق:
علي رفعت مهدي.

شاهد أيضاً

شباب لبنان …شباب العلم

/ابراهيم ديب أسعد شبابٌ إلى العلياءِ شدّوا وأوثقوا وطاروا بأسبابِ العلومِ وحلّقوا وقد ضمّهم لبنانُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *