الاتجاهات الاقتصادية العالمية تفرض مسارات محددة للنمو في 2024

  سعـادة أ.د/ علي محمد صالح الخوري

 

يُقدّم المشهد الاقتصادي العالمي، مع قرب نهاية عام 2023 وبداية عام جديد، صورة بانورامية ذات اتجاهات متنوعة وفوضوية إلى حد ما، تتطلَّب نظرة دقيقة إلى ما هو أبعد من الأحداث القصيرة المدى لفهْم الاتجاهات الأوسع؛ فمن جانب نجد اتجاهًا يشير إلى أن دول الاقتصادات الرئيسية ستشهد انتعاشًا اقتصاديًّا يتجلى في الإنفاق الاستهلاكي المتنامي، والنشاط القوي لقطاع الخدمات، واستمرار انخفاض معدلات البطالة. ومن جانب آخر نجد اتجاهات تشير إلى تزايد وتيرة التحديات في هذه الدول نفسها، وامتدادها إلى الاقتصادات الناشئة والنامية، التي ستجد نفسها محاصرة بالتوترات الجيوسياسية، وسيُفرَض عليها تقبُّل واقع الانكماش التجاري والضغوط التضخمية؛ ما يُبين المهمة المُعقدة التي تنتظر صنَّاع السياسات وقطاعات الأعمال وسط خريطة جيوسياسية متقلبة، وشكوك في قدرة البنوك المركزية على إدارة التحولات الاقتصادية.

وبحسب صندوق النقد الدولي يُتوقع أن يتباطأ الاقتصاد العالمي إلى 2.9 في المئة عام 2024، بعد تسجيله 3.0 في المئة العام الجاري (2023)، و3.5 في المئة عام 2022. ويشير هذا الاتجاه التنازلي إلى المشهد الاقتصادي المتغير، وتزايد التباينات بين الاقتصادات العالمية بين مجموعة ستشهد تباطؤًا في النمو بسبب التأثير التراكمي لأسعار الفائدة المرتفعة، والضغوط التضخمية؛ وأخرى في المقابل قد تشهد مستويات نمو مستقرة، مدفوعة بتسارع الأنشطة المحلية وانتعاش أسواقها. والحقيقة أن ديمومة ذلك من عدمها مرتبطة بمدى قدرة الدول على تجاوز الاضطرابات الاجتماعية والسوقية، الناجمة عن تنامي عدد السكان وحاجاتهم الأساسية، في ظل الارتفاعات الحادة والمستمرة في أسعار الغذاء والوقود والسلع.

وبالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ فستكون هي أيضًا على موعد مع تباطؤ نشاطها الاقتصادي، في ضوء توقعات انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي فيها إلى نحو 3.5 في المئة عامَي 2023 و2024، وانخفاض متوسط نمو مؤشر أسعار المستهلك السنوي إلى 4.0 في المئة عام 2024، مقارنةً بـ7.1 في المئة العام الجاري (2023)، و10.5 في المئة عام 2022.

ويُرجَّح أن تظل معدلات التضخم مصدر القلق العالمي الرئيسي؛ إذ تشير التوقعات إلى انخفاض تدريجي في معدلات التضخم العالمية، ووصولها إلى 5.8 في المئة عام 2024، نزولًا من 6.9 في المئة العام الجاري (2023)، و8.7 في المئة عام 2022. وعلى الرغم من أن الحكومات تُعوّل على السياسات النقدية المُشددة لخفض الأسعار الدولية للسلع الأساسية؛ فإن التقارير تشير إلى أن أسعار الفائدة المرتفعة تمثل مصادر مُغذية للضغوط التضخمية، وتَستبعِد العودة إلى معدلات التضخم المستهدَفة حتى عام 2025 في معظم الحالات؛ ما يتطلب مدَّة طويلة من التكيف الاقتصادي. ويُتوقَّع أن يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة، وضعْف سعر صرف العملات الوطنية، وتباطؤ نمو قيمة الصادرات، إلى مزيد من التدهور في أسعار صرف العملات، ومزيد من التضخم في كثير من البلدان النامية؛ كما يُتوقَّع أن يُحوّل ذلك كله العبء المتزايد لخدمة الديون إلى إعاقة جهود التنمية بحسب ما يؤكده آخر تقرير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) في عام 2023.

ويشير تقرير “أونكتاد” أيضًا إلى توقعات أن تسفر نتائج التجارة العالمية، العام الجاري، عن انكماش بنسبة 5 في المئة، أي بنحو 1.5 تريليون دولار؛ ما يجعل قيمة التجارة العالمية أقل من 31 تريليون دولار. ولا تزال آفاق عام 2024 غير مؤكدة، ومتشائمة عمومًا؛ بسبب العوامل الجيوسياسية، وتصاعد الديون، والهشاشة الاقتصادية.

وعلى صعيد آخر نجد أن التصدع الجيوسياسي وارتفاع تكلفة الطاقة أصبحا من المحاور التي ترفع درجة تعقيد المشهد الاقتصادي؛ إذ أصبحت ديناميكيات السياسة النفطية مُتشابكة مع مختلف أهداف السياسة الخارجية؛ ما يجعل أسعار الطاقة أكثر عُرضة للتحولات الجيوسياسية. وقد أدى هذا الوضع إلى مواقف أقل مرونة من مجموعة دول “أوبك بلس” والولايات المتحدة الأمريكية بشأن ارتفاع أسعار الطاقة؛ كما أن العلاقة بين الدولار الأمريكي وأسعار النفط، ومحاولات تقويض هيمنته في المعاملات التجارية الدولية، أصبحت لهما آثار كبيرة في إمدادات النفط العالمية وأسعاره، وفي المستوردين والمصدرين على حد سواء. ويمكن أن تمثّل الاحتكاكات الجيوسياسية المستمرة -ولا سيَّما بين الولايات المتحدة والصين، والحرب الدائرة في أوكرانيا، والصراعات الأخرى الناشئة منها والمحتملة، مثل التوترات المحيطة بتايوان- مصدرَ قلقٍ مُربكًا للاقتصاد العالمي. وينبغي ألا ننسى الجداول الزمنية للانتخابات على مستوى العالم في عام 2024، ومنها الانتخابات في الولايات المتحدة التي قد تحدد مدى ضراوة الاضطرابات الجيوسياسية.

ويجدُر الانتباه إلى المصطلح الجديد الذي أعلنته الولايات المتحدة، في عام 2022، باسم “دعم الأصدقاء” (Friend-Shoring) بصفته نهجًا لإعادة توجيه سلاسل التوريد والإنتاج إلى البُلدان التي تُصنَّف حلفاء جيوسياسيين، وتقليل الاعتماد على الدول التي لا تُصنَّف كذلك؛ ما يسهم في تعقيد مشهد التجارة العالمية. ولا تقتصر المخاوف هنا على ارتفاع أسعار المستهلك بسبب الابتعاد عن البلدان ذات تكاليف الإنتاج المنخفضة، أو انخفاض كفاءة الشركات بسبب الاعتماد على السياسات الصناعية المُكلفة، مثل الإعانات والإعفاءات الضريبية؛ بل تشمل الأضرار السلبية الواضحة على التجارة الدولية، ولا سيَّما التأثير في البلدان النامية “غير المنحازة”، التي قد تفضّل التجارة بنطاقها الواسع، وربما تُستبعَد من دائرة “الأصدقاء”؛ ما يعني خسارتها الفرص التجارية والاقتصادية بتعبير آخر. وفعلًا تشير تقديرات منظمة التجارة العالمية إلى أن الإنتاج العالمي قد ينخفض بنسبة 5 في المئة إذا أدى دعم الأصدقاء إلى انقسام بين الكتل التجارية الشرقية والغربية، مع احتمالات أعلى للانكماش الاقتصادي، وتفاقم التوترات الدولية.

وفي هذه البيئة الاقتصادية العالمية المتشابكة والمُعقدة يواجه صنَّاع السياسات مُهمة شاقة تتمثل في الكيفية التي يمكن بها توجيه اقتصاداتهم نحو الاستقرار والنمو المستدام. وقد لا تكون هناك حلول سريعة لتجاوز هذه التحديات؛ ولكنْ تبقى مجموعة عوامل ينبغي الالتفات إليها على المستوى الوطني، من بينها إيجاد توازن بين السياسات النقدية والغاية المنشودة لإدارة التضخم؛ بهدف الحدّ من مخاطر الركود، وكبح الارتفاعات المستمرة والمفاجئة للأسعار وتكاليف المعيشة، وتعزيز الثقة بالأسواق المحلية. وبالتوازي لا بدَّ من إعادة تقييم الاستراتيجيات المالية، وإعطاء الإنفاق المُحفز للنمو الأولوية، مثل الاستثمارات في البنية التحتية، ورأس المال البشري، والانتباه إلى البؤر التي قد تفاقِم الاتجاهات التضخمية. ومن الأهمية بمكان أن تُعالِج السياسات الاقتصادية محور التنمية الشاملة، وتتيح الاستفادة العامة لجميع شرائح المجتمع؛ ما يتطلَّب معالجة التفاوت في الدخل، وتوفير فرص متساوية، وبناء شبكات أمان اجتماعي.

ومن جانب آخر أصبح من البديهي عَدّ العلاقات التجارية والشراكات المُشجعة للاستثمار أدوات محورية في مواجهة الديناميكيات التجارية المتغيرة والتوترات الجيوسياسية، وهو ما يستدعي انتباه صنَّاع السياسات إلى تنويع الشركاء التجاريين، وإبرام اتفاقيات تجارية مُتعددة الأطراف في مصادر سلاسل التوريد؛ من أجل تقليص الحواجز التجارية، وتجاوز تقلبات التجارة العالمية. وكما هو الأمر دائمًا يُعد عامل الوقت أكثر حسمًا في عقد الشراكات، وتأهيل هياكل العلاقات والشبكات التجارية البديلة التي يبدو أن العالم مضطر إلى إعادة بنائها نظرًا إلى الضبابية الحالية في ظل دوام التعقيدات الجيوسياسية؛ ولذا يجب على صنَّاع السياسات أن يدركوا أن السرعة في الإنجاز سيكون لها دور حاسم في تخفيف الأعباء الاقتصادية التي ستواجهها دولهم، وأن البيروقراطية التقليدية والهياكل الإدارية التقليدية قد تكونان من العوامل المُعرقلة لهذا التحرك وسرعته.

وبلا شك يُعد الاستثمار الممنهج في البنية التحتية الرقمية، والتكنولوجيات المستدامة، من بين الوسائل المحورية لفتح آفاق جديدة للنشاط الاقتصادي والكفاءة والابتكار. وتزيد التحديات الكبيرة، التي يواجهها قطاع الصناعة والصناعات التحويلية في سلاسل التوريد، الأهمية الاستراتيجية لتوطين التصنيع في الداخل الوطني، ولا سيَّما أنه يُؤمّن سلاسل توريد أكثر مرونة، وينشِئ فرص عمل جديدة على المستوى المحلي. وفي السياق نفسه، ومع تغير ديناميكيات أسواق العمل، لا بدَّ من تصميم السياسات الداعمة لتنمية المهارات، وإعادة تعليم القوى العاملة وتدريبها بهدف التكيُّف مع المشهد الوظيفي المتطور، وضمان الانتقال السلِس إلى القطاعات الناشئة.

ولا تُمكن المبالغة في تأكيد الحاجة المُلحة إلى دمج محور الاستدامة في السياسات الاقتصادية؛ ذلك أن التحول العالمي نحو التصدي للتغير المناخي يتيح فرصًا للابتكار، وإنشاء وظائف في قطاعات جديدة؛ والاستثمار في التكنولوجيا الخضراء لم يعُد ممكنًا عَدّه موضوعًا جانبيًّا أو خيارًا من الخيارات؛ بل يجب النظر إليه بصفته أمرًا يجعل المتخلّفين في عزلة عن محيطهم. وستبقى هناك حاجة مُلحة إلى المواءمة بين السياسات الاقتصادية الوطنية والممارسات المستدامة، وتشجيع الاستثمارات في الطاقة الخضراء، والزراعة المستدامة، ودعم الصناعات الصديقة للبيئة.

وتُظهِر مواصلة نمو قطاع الخدمات العالمي حجم الطلب الاستهلاكي المتزايد، وتضغط باتجاه التحول الرقمي؛ ما يؤكد ضرورة دعم السياسات الوطنية لنمو هذا القطاع وتمكينها، بتوجيه الاستثمارات نحو تطوير البنية التحتية الرقمية للخدمات والرعاية الصحية والتعليم. ويمكن أن يستفيد قطاع التجارة والخدمات اللوجستية من هذه الاستثمارات أيضًا، وخاصةً في تحسين البنية التحتية، وإدخال التقنيات الرقمية للتخفيف من الاضطرابات المستقبلية في سلاسل التوريد، وضمان التدفقات التجارية للبضائع والسلع عبر البدائل المُمكنة.

وما بين التحديات والفرص يبدو أن عام 2024 سيكون مملوءًا بالأحداث التي تتطلَّب سياسات وتدابير وطنية متعددة الأوجه، ومتسقة مع المتغيرات العالمية للتغلب على أوجُه عدم اليقين، التي لا تزال تعزل الاقتصادات الوطنية عن الأسواق العالمية بسبب الضغوط المالية. وستسعى الدول التي تخطط لتجاوز هذه التحديات -بعقلية وبصيرة معتمدَتين على الابتكار والسرعة الاستراتيجية- إلى بناء بيئات وطنية داعمة للنمو المستدام، وإحداث تنمية عادلة واقتصادات مرنة، وهو المسار الذي سيسهل اقتناص الفرص، وفتح آفاق لنماذج تنموية مستقبلية جديدة

شاهد أيضاً

*تيار الفكر الشعبي* في لبنان يشارك في لقاء حواري.

احيا “الائتلاف اللبناني الفلسطيني لحملة حق العمل للاجئين الفلسطينيين في البقاع ” مناسبة عيد العمال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *