التدّجيل… والحمل الثقيل

في أحد الأيـّام ، وبينما كنت أتجوّل في منطقة زراعيّة ، لفت إنتباهي مجموعة من القرويين ، يصرخون على حمار ٍ بارك ٍ تحت وطأة حمله الثقيل ، ينهق ويئن من الإرهاق والتعب ، وهم يحثـّونه على النهوض ، منهم مَنْ كان مـُمسكا ً بذنبه يشدّه الى فوق ، ومنهم مَنْ كان قابضا ًعلى أذنيه مـُحاولا ً رفع رقبته ، وأحدهم كان يجرّه من رسنه بقوّة ٍ الى الأمام ، وآخر كان يضربه بعصا غليظة على مؤخرته من الخلف ، وكان الحمار المسكين ، ما أن يـُحاول النهوض حتى يتعثـّر ثانية ً فيقع على الأرض جاثما ً على ركبتيّه الأماميتين ، فتقدمت بإتجاه مَنْ بدا لي بأنه صاحبه ، فحييـّتهوسألته : لماذا كل هذا العذاب ؟ يكفيكم أن تـنزعوا حمولته ، أو جزءا ً منها فقط ، لكي ينهض  ويقف على قوائمه من جديد ؟ ، فإبتسم صاحبنا وقال لي : يا بـُنيّ إن لم يتمكـّن هذا الحمار من الوقوف بالحمل الذي على ظهره ، فإنـّه سوف لن يـُجديني نفعا ً في المستقبل  إضافة الى أنـّه سيعتاد الوقوع والكبو في كل مرّة ٍ يشعر فيها بثقل ِ المركوب عليه .

حضر ذهني في تلك اللحظة ، جماعة السياسيّين اللبنانيّين بإستثناء القليل القليل منهم ، ذوو الأحمال الثقيلة ، ممّا تتضمّنه من أصناف وضروب الصفقات والمحرمات  والخيانات ، الضاغطة على كاهلهم ، وممّا تنؤ به بواطن ضمائرهم الميـّتة ، الذين لو قـُدّر للعدالة أن تطالهم وتفضح أفعالهم وتجاوزاتهم وإرتكاباتهم ، بحق شعبهم ووطنهم ، لكان من الصعب ، إن لم نقل من المستحيل عليهم ، أن ينهضوا من جديد ويتعاطون الشأن العام ، قبل أن يتحمـّلوا مسؤولية آثامهم وسوءأدائهم ، وذلك بمحاكمتهم ، وتجريمهم ، وإنزال أشد العقوبات المعنويّة والجزائيّة بحقهم ، ومن ثمّ بمنعهم ،من تعاطي أي عمل له صلة بالأعمال الإداريّة والسياسيّة .

والغريب في الأمر ، إنّ ما هو حاصل معهم في الواقع ، يسير بعكس المنطق ، فبدل أن نجبرهم لأن يتحمـّلواهم ، مسؤوليّة إنحرافاتهم  وأخطائهم ، وبدل أن نـُطالب بمحاسبتهم ومـُعاقبتهم ، نقوم نحن أبناء هذا الشعب الطيّب والأعمى ، بمُساعدتهم  ومُسامحتهم وبتناسي ماضيهم ومآثرهم الغير مـُشرّفة ، والوقوف ورائهم كالغنم ، مـُهللين مـُطبّلين  ومُصفـّقين لهم ، ولأنجازاتهم الوهميّة ، ووعودهم الكاذبة ، التي نـُخدعبها على الدوام ، وتنطلي علينا المرّة تلو الأخرى ، في مسلسل طويل قد يـُنهينا قبل أن ينتهي . 

والحقيقة تـُقال ، اننا ، مواطنون وسياسيّون ، ندجـّل ، نكذ ّب ، ونضحك على بعضنا البعض ، فلا مبرّر لنا كشعب ، يـُعفينا من تحمّل مسؤولية التبعات والنتائجالمـُدمّرة التي يجلبونها على مجتمعنا ، كوننا سبق لنا أن عرفناهم جيدا ً وخبرناهم وجرّبناهم مرارا ً وتكرارا ً ، ومع ذلك فقد دأبنا على تنزيل الأحمال الثقيلة عن كواهلهم ومن ضمائرهم ، في كل مرّة ننتخبهم فيها ،بعكس ما قام به القرويون مع ذاك الحمار ، فنعطيهم براءة ذمّة ، لنسهـّل لهم الوقوف والثبات على أرجلهم ، ليطلـّوا علينا من جديد ، ومن جديد نعود وندخلهم من الباب العريض الى حياتنا ويومياتنا ، ونسلـّمهم رقابناورقاب أولادنا ، ونوليهم أمرنا وحالنا ، يـُحدّدوا لنا حاضرنا ويتلاعبوا بمصيرنا وبمستقبلنا  .            

 وهكذا وبتقصير ٍ منـّا يجعلوننا ضحيّة دائمة  لهذا النمط ــ العقيم ــ المتدنـّي ، في التـّعامل والتعاطي مع الشؤون العامّة ، فتـُصيبنا ونحن في القرن الواحد والعشرين القهقرى ، وتجتاحنا الفوضى ، ونغرق في وحول بحر التخلـّف والجهل والفساد ، وبدل أن نرتقي مصاف دول العالم الثاني ، كما كان مـُقدّرا ً لنا ، قبل أن نبتلي بأطقم هؤلاء السياسيّين المـُحدثين الفاشلين ،فإننا حتما ًسنسقط في نهاية المطاف ، وعلى أيديهم ، الى مستوى أشباه الدول في العالم الرابع وما دون … !!  

شاهد أيضاً

علامة عرض اوضاع لبنان والمنطقة مع سفير هنغاريا

استقبل رئيس لجنة الشؤون الخارجية والمغتربين النائب الدكتور فادي فخري علامة سفير هنغاريا في لبنان …