رحلة في بلد الإشعاع

رواية على حلقات للأديب أحمد فقيه

الحلقة الثانية (السراب)

لم يلبث أن بدأ الخوف والقلق يتسربان إلى نفس إسماعيل بعد ما شاهده من سلوك رفاقه الجدد، وحتى من أهليهم، وبالأخص بالنسبة لإستخدامهم اللغة الأجنبية في محادثاتهم.. هذه اللغة التي يعتبرها العقبة الكؤود في طريق دراسته.. ولم يطل الأمر به على هذا المنوال، إذ إنتظمت الدراسة في الأسبوع التالي وإنهمك هو في التحضير والإعداد لها.. وبمجرد أن بدأ الدرس الأول، زايله كل خوف وقلق، وحل محله إنفراج وأمل.

دخل التلاميذ إلى فصولهم، وأخذ كل منهم يختار مكانه، حتى إمتلأت جميع قاعات الدرس.. وبات الجميع ينتظرون مجيء مدرسهم فرحين مستبشرين بالعام الجديد، إلّا إسماعيل فقد بدا عليه التهيب والرهبة، وظل صامتاً حائراً لا يدري ماذا يفعل بينما الجميع إنهمكوا في أحاديث ممزوجة بالهزل والمرح، وعدم الإكتراث، وضاق بنفسه ذرعاً، فأراد أن يخرج عن صمته هذا، ويجاري الوضع الذي هو فيه، فإلتفت إلى أقرب التلاميذ إليه وحيّاه قائلاً:

  • صباح الخير!..
  • قالها وهو يتوق لسماع أية كلمة بالعربي.. وفوجيء بالجواب:
  • Bonjour monsieur!.. (بون جور مسيو!)

فخاب أمله وإشتد ضيقه وتبرّمه بالمكان ومَن فيه.. إلّا أنه لاحظ أن زميله هذا لم يمتعض منه أو يزدريه كما يفعل الآخرون.. فلم يجد مانعًا هو الآخر من مجاراته.. إنه بحاجة لأي إنسان يتكلم معه ولو بالإشارة.

  • ما الإسم الكريم؟!..

فإبتسم الزميل عن أسنان بيضاء كاللؤلؤ، وإزداد إحمرار وجهه الذي يغطيه بعض النمش ثم قال:

  • إسمي!.. “جو آتف أسّاف”.

فدهش إسماعيل وسر في آن واحد.. فقد أحس براحة عظيمة عندما سمع كلمة “إسمي” بالعربية.. فمنذ أسبوع وهو يكاد لا يسمع أية كلمة بالعربي، وإذا سمع شيئاً عابراً من هذا القبيل فغالباً ما يكون مهشماً مكسراً يكاد لا يفهم منه شيء.. لذلك إزداد تعلقه بهذا الزميل، ورد عليه في الحال، دون أن يفكر فيما لفظ أمامه من أسماء: “تشرفنا، عاشت الأسامي”.. أنا إسمي “إسماعيل ظاهر الرشيدي”.

  • Bon!.. Bon!..

إسم جميل!./ C’est tres beau..! _ tres beau..!

كيف حالك؟..Comment ca – va?.. /  

  • الحمدلله!.. الحمدلله!.. وأنت إن شاء الله الصحة جيدة؟!..
  • شكراً!.. / Merci!.. / شكراً!.. / ..Je vais bien!ززظvais bien!> وأنت إن شاء الله الصحة جيدة؟!..
  • ، دون أن يفكر فيما لفظ أمامه من أسماء: ” تشرفنا، عاشت الأسامي “..

وإذا بالمدرّس يدخل فجأة فيخيم الهدوء على الصف، وعندها يلقي المدرس تحيته قائلاً:

  • صباح الخير يا أبنائي!.. كيف حالكم بعد هذه العطلة الطويلة؟! أرجو أن تكونوا قد ذاكرتم بعض الشيء، أم أنكم نسيتم كل شيء؟!..
  •  
  • وهنا ترددت إجابات عديدة وغير منتظمة:

 Oui!.. Yes!.. Non!.” لا!.. نعم!.. No!.. كلّا!..”

وقبل أن يتبع أي من مطلقي هذه الألفاظ بأية عبارات أخرى، كان المدرس قد أعاد الصف إلى هدوئه بنقرة خفيفة على الطاولة تمهيداً لبدء الدرس..

نزلت كلمات الأستاذ برداً وسلاماً على إسماعيل.. فقد كانت هذه هي أول كلمات تكوّن جملاً مفيدة باللغة العربية منذ أكثر من عشرة أيام، فشعر عند سماعها براحة نفسية عظيمة، وزال قلقه الذي كان يزداد يوماً بعد يوم حتى كاد أن يكتم أنفاسه..

وما هي إلّا ثوانٍ حتى كتب المدرس على السبورة: “مراجعة عامة لما سبق”، وإلتفت إلى التلاميذ وقال لهم:

  • الآن نعرف الذي راجع ودرس والذي لم يدرس..

ثم تبع هذا بكتابة عنوان درس المراجعة بالخط العريض:

” الفعل الصحيح والفعل المعتل “.

فعرف إسماعيل أن مدرسهم هو مدرس لغة عربية، أما الباقون فيبدو أنهم يعرفونه من السنوات السابقة.. وعندما كتب المدرس عنوان الدرس على السبورة دارت بين التلاميذ همهمات ووشوشات، إلّا أن إسماعيل فقد بدا عليه إرتياح عظيم لأنه ما زال يعرف هذا الفعل ومشتقاته معرفة تامة، وقد راجعه من ضمن ما راجع في الأسبوع الماضي.

ولم يترك المدرس فرصة للتلاميذ كي يتشاوروا، بل وجّه سؤالاً للجميع:

من يذكر ما هو الفعل الصحيح؟

فإرتفعت أصابع عديدة ومن ضمنها إصبع إسماعيل، وقسم كبير، بل القسم الأعظم من التلاميذ بقوا في حالة همهمة ووشوشة، ولم تخلَ وجوههم من إمارات الإرتباك..

إبتدر المدرس واحداً من الذين رفعوا أصابعهم، وأشار له بأن يجيب، فوقف التلميذ والإرتباك باد على محياه، ثم بعد كثير من المأمآت والفأفآت، قال:

  • ال.. ف.. ف.. الفعل الصحيح.. هو ف.. فعل.. س.. سالم.

وتوالت الأجوبة.. فمنهم من قال بأن الفعل الصحيح هو الفعل المكون من ثلاثة أحرف، أو الفعل الذي “يمكن أن نستخدمه في كل مكان” أو “الفعل الصحيح هو فعل غير ناقص” أو”الفعل الصحيح هو الفعل الذي لا نستطيع أن نضيف إليه أو ننقص منه حرفاً واحداً”.. وكان (جو عاطف عسّاف) أو كما يسمي نفسه (جو آتف أساف)، من بين الذين رفعوا أصابعهم، فأشار إليه المدرس بالإجابة، فوقف كالواثق من نفسه تماماً ثم قال:

  • الفئل الصهيه هو فئل مش مؤتل.. 

فشعر المدرس ببعض الضيق من طريقة الإجابة إلّا أنه بنفس الوقت شعر بالراحة إذ وجد تلميذاً كان يقارب الحقيقة في إجابته لذلك أحبّ أن يغتنم الفرصة لإنتزاع مزيداً من الأجوبة قبل أن يعود لتصحيح النطق.. فقال للتلميذ الذي ما زال واقفاً وهو يزهو بإجابته التي لم يجارِهِ فيها أحد:

  • ماذا تقصد بـ “مش معتل”
  • مش مؤتل يعني مفيش “إلَّه”!..
  • –       “إلَّه.. إلَّه!.. ما هذه الإلَّه”؟!
  • ما بتعرف شو “إلَّه” مسيو (Monsieur)؟!.. إلّه.. يعني إلّه.. في شي إسمو “إلّه” بيكون موجود في داخل الفئل مسيو!.. هذا الشيء بيقولولو “فئل مؤتل”.

وهنا إشتد الضيق بالمدرس، وشعر بأنه لو سأله سؤالاً آخر، لأخذ نصف الحصة وهو يلف ويدور بدون فائدة، لذلك قال له:

  • شرَف إجلس، ولكن لا تقول “مؤتل”، تعوّد بأن تقول “معتل”، أقل ما فيه أن نتكلم “عربي”!..
  • Je ne peux pas monsieur.. Je ne peux pas!..

أنا أحاول كتيرمسيو، أكثر من هيك لا أقدر /  Non!.. Non!.. لا أقدر!.. لا أقدر!..

وجلس جو، ولكن المدرس شعر بأنه سيختنق.. ونظر مليا في الوجوه التي أمامه، وإذا به يلمح وجهاً لم يذكر بأنه شاهده سابقاً، فسأله:

  • هل أنت جديد هنا؟
  • نعم.
  • ما إسمك؟..
  • إسماعيل ظاهر الرشيدي
  • أهلاً وسهلاً.. ماذا تعرف عن “الفعل الصحيح والفعل المعتل”؟
  • الفعل الصحيح هو ما خلت أصوله من أحرف العلّة، وهو ثلاثة أنواع: مهموز ومضعف وسالم.

فدهش المدرس، إذ لم يكن يتوقع مثل هذه الإجابة، وسر سروراً عظيماً، فقال له: “أحسنت.. أحسنت.. شيء عظيم!”.

وعاد للتلاميذ فقال لهم: تعودوا أن تجيبوا بهذه الصورة.. هذه هي الإجابة الصحيحة التي تليق بأمثالكم!..

وهنا علت الهتافات من التلاميذ:

” براڤو.. زاهر.. براڤو.. زاهر.. ممتاز.. عزيم.. براڤو.. براڤو! “

وعندما هدأوا، عاد المدرس ليسألهم:

  • من منكم يعرف ما هو “المهموز” وما هو “المضعّف”، وما هو “السالم”؟
  •  

فعادت الهمهمات من جديد، ثم بدأت الإجابات، وكل من إستطاع الكلام بهذا الموضوع تكلم، ولكن جميع الإجابات لم تكن لتفي بالغرض المطلوب من قريب أو بعيد سوى أن “جو” قال:

  • إن الفئل السالم هو فئل مش مهموز، والفئل المهموز هو فئل مش سالم، أما الفئل “المُدأَّف” هو الفئل اللي بيكون فيه إثنين حرف متل بأدْ..

ولم يستطع المزيد.. فعاد المدرس إلى إسماعيل يسأله:

  • هل عندك إجابة أفضل يا إسماعيل؟
  • نعم.. المهموز هو ما كان أحد حروفه همزة مثل: أخذ.. نشأ.. والمضعّف هو ما كان حرفه الأخير من نوع الحرف الذي قبله ومدغما فيه، مثل شدّ..

والسالم هو ما كان خالياً من الهمزات والتضعيف، مثل: سهر..

وهكذا كان إسماعيل يجيب على كل سؤال يعجز عنه زملاؤه مما أبرزه أمامهم وبدأوا ينظرون إليه بكل إهتمام بعد أن كانوا لا يلتفتون إليه، ولا يعتبرونه. ومما زاد من إعتباره في نظرهم ثناء المدرس عليه بعد أن بشّره بمستقبل زاهر، لما يتمتع به من ذهن وقاد وإستجابة سريعة تكاد تكون نادرة..

والدرس الثاني كان لغة فرنسية، الهم الأكبر بالنسبة لإسماعيل.. إلّا أنه عزم على أن يتخطى هذه العقبة بشتّى الوسائل، وأنه سيبذل مزيداً من الجهد والدراسة لكي يستطيع مجاراتها، ومجاراة زملائه في نفس الوقت.. وكان يدون كل شيء، ويضع ملاحظات تحت الجمل والعبارات التي لا يعرف معناها، حتى عندما يذهب إلى البيت يستعين على فهمها بالقاموس، أو بأية وسيلة أخرى حتى لو لزم الأمر أن يستعين بأحد زملائه، وخاصة “جو” الذي بدا له أنه يمكنه أن يتفاهم معه، ويتخذ منه صديقاً.

وبعد الدرس الفرنسي، كان هناك فترة إستراحة قصيرة، أعقبها درس في الجغرافيا. وإنتهت الدراسة في ذلك اليوم عند هذا القدر، إذ لم تكن عملية الدراسة قد إكتملت بعد.

ولم يكن حظ إسماعيل بالجغرافيا بأقل منه في العربي. فقد كانت إجاباته ممتازة لدرجة أنها سحرت كُلاً من مدرّسِه وزملائه على حد سواء. أما بالنسبة له فقد خرج من المدرسة في ذلك اليوم وهو بحالة من السعادة والنشوة لم يكن ليتصورها قط، أو حتى يحلم بها بعد حالة الإنقباض التي رافقه خلال الأيام الماضية التي سبقت بدء الدراسة.. لقد أزيح عنه اليوم كابوس من الهم والغم لدرجة أنه أصبح يشعر وكأنه عصفور يحلّق في أجواء السماء العليا وهو يغرد أناشيد الحب والفرح والسعادة.

وعندما إنتهى الدرس، وقبل أن يتفرق التلاميذ، أخذ عنوان زميله “جو”، وسأله إن كان بإمكانه أن يراجع الدروس معه في بيت أي منهما، فكان “جو” لطيفاً للغاية ودعاه إلى بيته بكل ترحاب..

في البيت تعرّف إسماعيل على والد “جو” إلّا أنه لاحظ أن أم “جو” لا تتكلم العربية إطلاقاً، والأب على العكس تماماً.. كما أنه لاحظ بأن الوالد ينادي إبنه بإسم “يوسف” أما الأم فهي التي تناديه بإسم “جو”. وعندما إستفسر عن هذا من “جو” نفسه قال له:

  • ” يوسف “يعني” جوزيف “بالفرنسي.. منشان هذا بابا بيناديني “يوسف” لأنو هو لبناني.. أما ماما بتناديني “جوزيف” لأنها فرنسية.. ولكن ماما بتحب تدلعني كتير علشان هيك هي بتحبني كتير.. ومنشان هذا هي بتناديني “جو”.
  • –        إذن أنت يوسف!.. و “جو” هذا إسم الدلع، هه!..
  • –        تمام.. تمام..
  • إذن سوف لا أناديك إلّا “يوسف” مفهوم؟!..
  • مفهوم.. مفهوم.. ca ne fait rien ( سنفريان ).. كلّو واحد..
  •  

حلم عابر

كانت سعادة إسماعيل في ذلك اليوم لا تقدر. فقد أفعم الأمل صدره، وأسكرته النشوة، فجلس إلى طاولته في مسكنه وأخذ ورقة وقلماً ليكتب إلى والديه أول رسالة بعد بدء الدراسة. إلّا أن النشوة تغلبت على تفكيره وشعوره، وأخذ يحلّق في آفاق بعيدة، يتخيل ماذا يمكن أن يعمل عندما ينهي دراسته الجامعية، وتمنى أن يكون مديراً أو مسؤولاً في وزارة التربية ليتسنى له وضع الأمور في نصابها، وعندها يجد الفرصة لرد الجميل إلى مدرسته هذه التي يطلق عليها إسم مدرسة “الصنوبر”، والتي سيكون لها أكبر الأثر في وصوله إلى مبتغاه وتحقيق أحلامه لما يمتاز به مدرسوها،  وبالأخص مدرس اللغة العربية ومدرس الجغرافيا، من دماثة في الخلق ومقدرة على الشرح وتبسيط المعلومات.

وقد إحتدمت التصورات في مخيلته لدرجة أنه تخيل نفسه مديراً بالفعل، يخطّط، يرقي هذا، يفصل ذاك، إلى أن أخذته رعشة، فإستفاق من أحلامه، وأخذ نفساً طويلاً. ثم تنبه إلى نفسه، وتذكر والديه والورقة التي أمامه وأن عليه أن يرسل لهما رسالة يطمئنهما بها على حياته الجديدة.. وهكذا بدأ بالكتابة معبراً لهما عن مشاعره وآماله وثقته بنفسه وبالمستقبل الذي ينتظره.. ومما قاله في رسالته:

“لا أكتمكما يا والديّ العزيزين بأنني مسرور جداً في مدرستي الجديدة، فكل ما فيها ممتع ورائع، وهذا بالطبع يرجع إلى حسن إختيار الوالد.. إنه فنّان بحق!.. فقد عرف كيف، وماذا، يختار.. إنه لفضل عظيم منه.. إني لأتوجه إليه بالشكر الجزيل، وأقدر ذلك الجهد الذي بذله في سبيل الوصول إلى ما كان يعتقد بأنه الأفضل والأصلح، وأنه لكذلك فعلاً!.. فمن ناحية الموقع فإن المدرسة والسكن لا يعلو عليهما شيء، فكل ما حولهما جميل يبعث على الهدوء والراحة والمتعة.. وأما من ناحية طريقة التعليم فلا شك بأنها ستكون أفضل من الطريقة التي تعودنا عليها في مدرستنا السابقة في القرية.. فما بان لي حتى الآن من أسلوب التدريس ممتاز جدّاً، فالمدرّس يتّبع أسلوب المناقشة وحثّ الطلّاب على تكوين الأسئلة وإيجاد الأجوبة، ثم يعمد في النهاية إلى تلخيص الدرس ببضع نقاط مبسطة يسهل علينا العودة إليها وإسترجاع كل ما سبق من خلالها.. وهذا بالطبع أفضل بكثير من طريقة الحفظ “الصم” لكل ما يمر أمامنا من كلام حسب ما تعودنا في مدرستنا السابقة وبالأخص بالنسبة للغة الفرنسية، التي كنّا نحفظ كل مفرداتها وتصاريف أفعالها كما تحفظ الأناشيد، ولكن دون أن نفقه شيئاً مما نحفظ. وهنا يمكننا أن نسأل المدرس ونناقشه بل هو يحثنا على هذا، بينما في مدرستنا السابقة لم نكن نجرؤ حتى على رفع أصابعنا مهما بلغت درجة جهلنا بأمور دروسنا.. وعلى أية حال، لا بد أن يكون لكل وضع محاسنه ومساوئه، ونرجو أن تستمر الدراسة هنا على هذا النحو.. وفي القريب العاجل سأزودكما إن شاء الله برسالة أخرى لأطلعكما على ما يستجد من أمور عندما نستكمل برنامجنا الدراسي..

وهكذا أنهى إسماعيل رسالته إلى والديه وهو يكاد يطير فرحاً، إذ إستطاع أن يبعث لهما بما يسرّهما ويفرحهما، وهو يعلم بأن لا شيء في الدنيا يمكن أن يسعدهما مثل هذه الأخبار التي تتعلق به وبدراسته.. وهذا جعله ينام تلك الليلة هادئ البال قرير العين يحلم بما سيسفر عنه المستقبل الباسم المشرق الذي بشّره به مدرّسوه الجدد..

تحوّل مفاجئ

في صبيحة اليوم التالي إستيقظ إسماعيل على زقزقة العصافير المغردة التي كانت تتراقص على أغصان الأشجار المحيطة بمسكنه، فنهض مستبشراً سعيداً، ثم خرج إلى الشرفة ليستمتع بهدوء الصباح ونسيمه العليل المشبع بتلك الرائحة الصنوبرية المقبلة من السفوح والأودية المجاورة.. وسرح نظره في الأفق البعيد حيث الجبال العالية المكللة بالثلوج البيضاء، فشاهد خيوطاً ذهبية تشع من خلف تلك الجبال وتنتشر فيما حوله من وديان وأشجار وبيوت وحدائق فتزيدها روعة وجمالاً.. ونظر إلى السماء فإذا هي زرقاء صافية كصفاء النفس المؤمنة المتعبدة.. أحسّ عندها بغبطة ونشوة لم يشعر بمثلهما من قبل، فشكر الله على حسن صنيعه، وبديع خلقه، ثم أخذ مكانه على كرسي هناك ليمعن النظر فيما حوله ويعب من محاسن الطبيعة وجمال الكون ما إستطاع إلى ذلك سبيلاً..

وبينما هو جالس وإذا به يشعر برغبة ملحّة في المطالعة والدراسة.. فعاد ليقلب كتبه ويختار منها ما يستطيع دراسته، فعادت الكلمات الفرنسية تتراءى أمامه من خلال الصفحات التي يقلبها فينتابه شعور غامض، فلا يلبث أن يلقي بتلك الكتب من يده قبل أن يتغلغل فيه ذلك الشعور الذي لم يكن يريد له أن يتمكن منه.. وهو كذلك فإذا به يلمح كلمات عربية تومض أمامه كالبرق، فيقف عندها، ويأخذ ذلك الكتاب الذي يحويها ويعود به إلى الشرفة، ويستعيد جلسته ثم يبدأ بتصفح ذلك الكتاب.. كان ذلك هو كتاب “التاريخ”، هو الوحيد باللغة العربية الذي لم يأتِ دوره بعد بالنسبة للبرنامج الدراسي في المدرسة؛ وأما هو فقد سبق له أن تعرّف عليه كما تعرّف على أخويه الآخرين كتابي “الجغرافيا” و “اللغة العربية” عندما إشتراها قبل أن تبدأ الدراسة. فقد تصفحهما وقرأ منهما الكثير أثناء تلك المدّة التي سبقت بداية الدراسة، وكان يشعر بإستمتاع بالغ عند قراءتهما. ولم يدرِ هو سبب شغفه بهذه الكتب مع إنه كان يكره مثيلاتها في مدرسته السابقة..

وقرأ في الكتاب، وقرأ، وقرأ، ثم رفع رأسه وهو ما زال يريد الإستزادة..

أرادَ أن يُفسّح نظره قليلاً فصوبه بإتجاه الغرب حيث يجثم البحر باسطاً ذراعيه شمالاً وجنوباً كأنه يحتضن هذه البقعة من العالم كما تحتضن الأم الرؤوم وليدها وتزوده بالحب والحنان والرعاية. فشكر الله مجدداً على ما حبا هذا البلد من كرم عطائه..

وبينما كان يتفكر مأخوذاً مشدوها بسر هذا الكون وإعجاز الله سبحانه وتعالى، وإذا بهاجس يتسلل إلى نفسه فيصيبه برعشة خفيفة، فيحاول أن يصرفه عنه بالنظر في الأفق، فيقع نظره على سحابتين تصعدان وتسرعان الخطو بإتجاه القبة الصافية فتكدران صفاءها بعض الشيء..

ولم تلبث أن لحقت بهاتين السحابتين سحابات أخرى شرعت بالسباق لإحتلال مراكز لها في أعالي تلك القبة التي تغير لونها المحبب إلى نفسه بفعل هذه الغمامات، وتحوّل إلى لون باهت مغبر..

وفجأة سرى هذا التحول في السماء إلى نفس إسماعيل، فأخذ الإنقباض يتسلل إلى نفسه وهو لا يدري السبب، فنهض متثاقلاً، وأعاد الكتب إلى أماكنها إذ لم يعد يشعر برغبة في القراءة.. ماذا يفعل إذن؟.. ما زال هناك وقت ليذهب إلى المدرسة.. فيعرج على المطبخ الملحق بغرفته، ويجهز فنجاناً من القهوة، ويعود إلى الشرفة.. شعر ببعض الراحة أثناء تناول القهوة.. ولكن ما إن إنتهى من شربها حتى عاد إلى وساوسه التي أخذت تزداد شيئاً فشيئاً حتى قاربت الساعة السابعة فنهض وهيأ نفسه للذهاب إلى المدرسة والخروج مما هو فيه..

إلى اللقاء في الحلقة الثالثة (المخاض العسير)

شاهد أيضاً

8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة

تؤثر خيارات نمط حياتنا بشكل كبير على صحتنا، حيث يمكن أن تؤثر بشكل إيجابي أو …