إنه الحب

قصة قصيرة للكاتبة ناديا كمال

أضاء الشموع قبل أن يطفئ النور الكهربائي ثم بدأ يوزعها فى أماكن متفرقة محاولًا إضفاء نوع من الإضاءة الحالمة على المكان..

تأكد من إغلاق الستائر.. ألقى نظرة سريعة مطمئنة حوله ثم أتجه نحو المقعد الوثير وجلس عليه بإسترخاء مادًا قدميه على الأرض وأغمض عينيه وهو يشعل سيجارته..

حاول أن يعرف سبب تأخرها.. خامره الشك للحظة من أنها لن تأتى.. مرّ طيفها أمامه.. أخذ يتخيل أسباب تأخرها فتمتم: ترى هل نسيت؟.. مستحيل.. ربما شعر أحد أبنائها بمرض ما فجأة فبقيت إلى جانبه، نعم أنا أعرفها فقلبها أرق من أن يتحمل رؤية شخص بحاجة إليها.. لكن لو حدث هذا لإعتذرت عن موعدنا.. إذن ربما تعطلت بها السيارة فى الطريق. ما أرقها كيف ستتصرف.. بالتأكيد ستحسن التصرف فهي أفضل من يتخلص من المواقف المحرجة.. إذن لماذا تأخرت؟.. ربما رآها شخص يعرفها وهى تصعد إلى المنزل ففضلت الدخول إلى عيادة أحد الأطباء حتى لا يكتشف سرنا..إذن فهى لن تأتي اليوم..

وتضايق أيمن كثيرًا لإستنتاجه الأخير وإعتدل فى جلسته ثم أطفأ سيجارته بعصبية، لكنه سمع صوت مفتاح يدور فى الباب ثم وقع خطواتها الحالمة يصل إلى أذنيه. بلهفة إتجه نحو مصدر الوقع القادم.. التقيا فى منتصف الطريق هي بجسدها الملفوف الطويل وبشرتها العاجية يحيط بوجهها شعرها الليلي الطويل وحول عينيها الواثقتين بدت ظلال عمرها التى سرقها الزمن.. نظرت إليه بحنان وإعتذار قائلة: أسفة لأنني تأخرت عليك يا حبيبى..

ألقت بجسدها فى أحضانه لفها بذراعيه.. بدا بطوله الفارع ووسامة أعوامه الخمسين كأحد فرسان الأساطير.. احتضنها بقوة وغمرها بقبلاته الحانية وهو يقول: “ماذا كانت حجتك للخروج ؟”.. رفعت رأسها من على صدره.. نظرت إليه وكان يبدو فى عينيها أنها تتذكر ما دار بينها وبين الأبناء قبل خروجها، بدا أيضا أنها كانت عاجزة عن اختراع أسباب منطقية تقنع من فى البيت بخروجها المنتظم.. لدرجة أن صغيرتها سلوى إبنة الستة عشر ربيعًا.. لازمتها قبل أن تتأهب للخروج بساعة وظلت تنقل بصرها بينها وبين الساعة التي فى معصمها وهي تقول بطريقة ساخرة.. باقي من الزمن ستون دقيقة.. ثم أخذت فى العد التنازلى إلى أن نهرتها فهربت سلوى من الغرفة متبرمة وهى تتفوه بكلمات غير مفهومة..

ابتسمت حنان عندما تذكرت ذلك وأحست بأصابعه تداعب وجنتيها وأنفاسه تحيط بها فسألها هامسًا عما تفكر به.. قالت: يجب أن نقلل من لقاءتنا.. ما رأيك لو إلتقينا مرة كل اسبوعين بدلًا من لقائنا الاسبوعي.. توقف عن تقبيلها قائلًا بغضب: ماذا؟!!.. مستحيل.. إذن انتِ لا تعرفين قيمة هذه اللقاءات.. ثم هامسًا.. إنها تعيدنى إلى الحياة.

تحرك إلى مقعده بخطى هادئة.. وضع سيجارته فى فمه فأشعلتها له ثم اخذت كفه بين راحتيها واخذت تقبله بحنان وهى تقول: صدقنى سأكون أكثر إقناعًا عند اختراع المبررات للقائك.. وأردفت بحنان وستكون أكثر شوقا للقائي.. سألها معاتبًا: وهل خف شوقى فى يوم ما؟.

وضعت رأسها على كتفه وأغمضت عينيها وقالت هامسة مؤكدة: ولا أنا.. لكن مصلحتنا تتطلب ذلك حتى لا نضطر إلى الغاء هذه اللقاءات لو انكشف أمرنا.

فجأة هبت واقفة وسألته ما رأيك فى فنجان قهوة أصنعه بيدى؟!!.. إبتسم وجذبها بحنان نحوه قائلًا: ما رأيك أن تتذوقى فنجانًا من القهوة من صنع يدى أنا؟!!

نسيا القهوة فافارت مع انفاسهما الملتهبة وهي بين أحضانه وفجأة سألته.. ماذا فعلت فى العياذة اليوم؟.. رد معاتبًا وقائلًا: ألم نتفق على عدم ذكر العمل وأخباره هنا.. وأنا معك هنا أشعر أننى فى عالم آخر غير الواقع الذي أعيشه.. نظرت له بحنان وهى تقول وددت لو عرفت كل لحظة تمر بك وأنا بعيدة عنك.. ثم أردفت بإبتسامة ماكرة: عادة سيئة أليس كذلك.. أجابها وهو يداعب شعرها باسمًا بل قولي عادة زوجية سيئة.

إستمر الاثنان يتناجيان.. تارة يرقصان وطورًا ينزويان فى أركان البيت المختلفة يتعانقان ويتهامسان.. وفجأة انتبه أيمن أن الوقت سرقهما وقد حان موعد الانصراف.. بضيق قالت حنان أن الوقت مر سريعًا وتمنت لو بقيا قليلًا سألها أيمن ضاحكًا وماذا عن رغبتك فى الإقلال من اللقاءات.. ابتسمت وهى تقبله قائلة: “لا تصدق عاشقة تتمنع”..

غادرت حنان المكان مسرعة ثم بعدها بدقائق غادر أيمن وعند باب البناية فوجئ بولده طارق يدخل فارتبك وسأله مندهشًا: طارق ما الذى أتى بك إلى هنا؟!

يا للمصادفة السعيدة..أخيرًا رأيت والدى..أجاب طارق، ثم أردف قائلًا: طبعًا لولا أن ضرسى يؤلمنى وجئت للكشف عند الطبيب ما كنت رأيتك ثم متهكمًا،أخيرًا يا أبى العزيز أكتشف أن آلام الأسنان اللعينة هى أروع ألم.. إبتسم ايمن لكنه سريعًا ما استعاد مظهره الجاد أمام إبنه حين سأله طارق: “لكن ما الذى أتى بك يا أبى هنا؟.. بإرتباك قال أيمن كنت فى زيارة لأحد الزملاء عنده علاج جديد أحببت الإطلاع عليه وبسرعة قبل أن يحاصره إبنه قال: حسنًا إلى اللقاء فى المساء..

ابتسم طارق محدثًا نفسه، أي مساء يا أبى، وهل نلتقى فى أي مساء.. مسرعًا غادر أيمن وصعد طارق لطبيبه..

بعد أن انتهى طارق من الكشف وأثناء مغادرته  البناية استوقفه البواب قائلا: يا سيدى رأيتك تتحدث مع الدكتور أيمن وفاتنى أن اعطيه وصل الكهرباء.. لو تكرمت هل تستطيع إيصاله إليه لأنه لا يأتى هنا إلا مرة فى الاسبوع.. سأل طارق مندهشًا: “ولماذا يأتى الدكتور أيمن هنا”، قال البواب: “يأتى لشقته.”

شقته!!! سأل طارق .. مع من؟!!.. رفض البواب فى البداية الإجابة وبعد مبلغ محترم قال انه يأتى ومعه إمرأة تخفى عينيها بنظارة سوداء كبيرة، وأضاف عمومًا الدكتور رجل طيب وسخي أرجوك لا تورطني.

أنصرف طارق والغضب يقتله.. كيف يفعل والده ذلك وهو الرجل العاقل الهادئ المتزن الذى لا يراه كثيرا نتيجة لإنشغاله الدائم.. يفني عمره فى عيادته وعمله وقراءاته.. لماذا يخون أمه المسكينة المتفانية.. أخذ يفكر فى رعايتها لهم وتحملها لكل المسؤوليات ودفاعها الدائم عنه حين يثورون من افتقادهم له.. شعر لحظتها بغضب لإستسلامها وتنازلها عن حقها الضائع وإصرارها على منح والده الحنان والحب دائما بينما هو يخونها مع أخرى .

لم يجد طارق سوى شقيقته سلوى ليحكى لها ما عرفه عن أبيه.. بكت كثيرًا وشعرت انها من تم خيانتها، كيف يفعل والدها  ذلك إستحالة، ربما طارق يخدعها بإحدى دعاباته السخيفة.. أقنعها طارق أن ما يقوله حقيقي وانهم فى ورطة ويجب انقاذ والدهم من تلك النزوة إكرامًا لأمهم..الحيرة قتلتهم وهما يفكران فى الحل.. فجأة قال طارق لنذهب ونسأل البواب عن موعد وصول بابا.. سلوى كانت دموعها تنساب لأجل أمها وكيف ستتحمل الموقف إضافة إلى انها شعرت أن مثلها الأعلى  تم تدميره..عند  باب العمارة وقف طارق وسلوى بعد ان أكد لهما البواب أن الدكتور موجود مع السيدة ذات الرداء الأزرق والنضارة السوداء، وانه قد حان موعد إنصرافهم وستنزل السيدة فى البداية.. إتجه طارق وشقيقته نحو المصعد الذى استقر وفُتح الباب وظهرت منه المرأة الأخرى.. صرخ طارق وشقيقته مشدوهين :

ماما!!!…

شاهد أيضاً

طرابلس عاصمة للثقافة العربية

المُرتَضى في ريسيتال الفرنسيسكان في الميناء: الموسيقى اغتسال روحي وواجبنا في لبنان أن نعكس أجمل …