سيكولوجيّة الكآبة وعلاجها في لوحة الرسّام والنحّات العالمي بابلو بيكاسو

بقلم الدكتورة بهيّة أحمد الطشم

تتدخل اتجاهات متباينة في صناعة السّعادة أو الكآبة,ومن البديهي أن نتحوّل بتحوّلاتها وأن نركّز الضبط المنظّم أو غير المنظّم المُحكم وغير المُحكم على أنفسنا.

فالكآبة هي منحى نفسي متعدد الأبعاد يمكن أن يأخذ شكل الثورة أو الكبت,ذلك أنّ الكآبة الثائرة الى أبعد الحدود غالباً ما تتحوّل الى عُصاب nevrose

امّا الكبت فهو السبب الكامن وراء ظهور أهم المشكلات النفسية التي تعترض الانسان وتُعيق تقدّمه على كل صعيد…

ويتمثّل ذلك في جُملة من العُقد ,كونه مركز اللاشعور ,والذي يُخفي وجوه الانفعالات النفسية ,كما وتسقط النظرةالسّوداوية ذاتها على شكل اسقاطات على كل شيء ويسِمها اللااكتراث ,وبالأجلى أنّها المسؤولة عن بقائنا خلف أي صورة ايجابية ,وتسبغ الشعور العدميّ على النفوس.

والأخطر هو تحوّل الكآبة الى رغبة بالموت عندما يشتدّ هولها.

ولعلّ لوحة ( التراجيديا) للرسّام والنحّات العالمي بابلو بيكاسو ,والتي نسلّط الضوء السّاطع عليها ترخي بظلالها على أرجاء الكآبة.

وتجدر الاشارة الى أنّ صاحب اللوحة ( بيكاسو) هو أكثر الرسّامين  شًهرة وتأثيراً في القرن العشرين,وما زال يحظى بتقدير مرموق نظراً لمهارته في العمل الفني وابداعه البصري.

وكان والده قد بدأ بتعليمه الرسم والتصوير عندما كان طفلاً,والمُلفت في خضمّ  سيرته الذاتية : أنّه كان يرسم ببراعة فائقة منذ نعومة أظفاره ,فكانت لوحته الأولى وهو في التاسعة من عُمره.

ثمّ تجاوز مستوى مهارة والده في الرّسم وهو في سِن الثالثة عشرة.

وبالعودة الى الأيقونة ,يبرز أبطال اللوحة بحالة عارمة من الكآبة,اذ ترسم معالم الشّقاء نفسها بقوة على ملامحهموتطغى السّوداوية على لغة جسدهم.

يقف كل من الأب والأم وابنهم على شاطىء البحر,حيث  يسيطر عليهم الأسى وتُثقلهم الهموم بالأفكار المريرة ويمشون حُفاة على درب الحياة كما على الشّاطىء, يرتدون ملابس رثّة للغاية,ويحاولون لفّ أنفسهم في خِرِقهم للاختباء من رياح البحر الباردة.

كما يلوّن الأزرق معظم حنايا اللوحة,وكذلك وجوهم وأصابعهم ,حيث توحدّهم المعاناة.

تتحدّث لغة أجسادهم عن التوتر ,وعدم القدرة على مساعدة بعضهم لتجاوز الحُزن ,ولا يستطيعون الاقتراب من بعضهم أكثر.

ولعلّ أكثر التفاصيل المُحبطة, تكمن في وجه الطفل الحزين,الذي يحاول أن يفهم لدُن وعمق ما حدثَ من الكبار ,ولا يجد ازاء ذلك أي تفسير.

تلمس يد الطفل  الأب  لتكون دلالة وعلامة  صارخة على الحُب أو محاولة جذب الانتباه,أو طلب أي شيء.

لقد تأثّر صاحب الأيقونة بعبارة لوالدته:” اذا أصبحتَ جندياً ستكون مشهوراً.”,ولكنني بدلاً من ذلك أصبحت رسّاماً  وكنت بيكاسو.”

وبالفعل,فقد أصبح بيكاسو من أكثر الرسّامين والنحّاتين شُهرةً على الاطلاق,وكان رائد المدرسة التكعيبية وابتكر بذلك نمطاً استثنائياً في فنّ الرسم.

اذاً, يسود الصّمت الميتافيزيقي العميق على أبعاد اللوحة,ويطغى اللون الأزرق على حناياها,حيث سافر الرسّام نحو الداخل الانساني,وسافرنا معه لمُقاربة أو اختبار الاحساس بالمأساة والتراجيديا المقترنة بالوجود الانساني منذ غابر الزّمان.

وفي سِياق استقرائنا  للخلفيّة السيكولوجية للرسّام,ذلك أنّ الأحداث العظيمة والانفعالات الكبيرة قد حرّكت ريشته بقوّة وحثّته على ابداع أعظم اللوحات.

فقد حدَثَ أن تعرّض بيكاسو الى عدّة صدمات نفسية بدءاً بوفاة شقيقته التي أحبّها كثيراً و(هو في التاسعة من عُمره),ثمّ وفاة صديقه الشاعر الفرنسي “كاسيجماس” ,حيث تركت فيه (حادثة الوفاة) عظيم الأثر ودفعته الى رسم لوحة “التراجيديا” مع لوحات أخرى متصلة بالسّياق ذاته.

وفي الاطارعينه, لا بدّ من الاشارة الى أنّ صاحب اللوحة قد عاش فقراً مدقعاً الى الحدّ الذي اضطر فيه للتدفئة على العديد من أعماله بعد حرقها.

ونستذكر حِيال فكرتي الموت الجسدي والموت المعنوي (الكآبة)أسطورة جلجامش الشّهيرة التي جعلت بطلها يبحث عن دواء ناجع ضدّ الموت ويبحث عن سرّ الخلود بعدما فقد صديق عمره أنكيدو,ولكنه في النهاية اقتنع بأن الخلود مستحيل والفناء حتميّ.

والجدير بالذّكر أنّ شعور الحُب وحده كان بمثابة العلاج الناجع للكآبة المُستشرية في نفس بيكاسو,حيث وضع الرسّام اللامع نهاية حاسمة لارهاصة الكآبة وخرج من سجن الحزن ليدخل القفص الوردي,بعد أن عاش قصّة حُب أسطوري مع الفنانة الفرنسيّة فرناند اوليفيه,والتي كان لها دور كبير في اعادة السّلام والسرور الى قلبه والى أعماله ولوحاته, فسادت الألوان المُبهجة على رسومه وانعكست أصداؤها الرومنسية  في الخطوط والالوان الزّاهية  للوحاته.

وفي الخلاصة,نستلهم حكمة ساطعةألا وهي :

أنّه من الحريّ بنا توجيه اهتمامنا الى قمع الكآبة,والتأكيد على التفاؤل كضرورة للتحرر من فائض التشاؤم كي لا نخضع لقسره وجبره.

ويصحّ أن يكون دوام حال الكآبة من المُحال لكي نمرّ بالحُزن أو الكآبة كحالة عابرة,ويبقى الأهم أن تكون مرحلة الكآبة العابرة بمثابة مرحلة تأسيسية  وزاخرة بالقيِم المجرّدة من اللاتجانس الفكري,ولا تصل الى حدّ التحكّم بسلامناالنفسي,فيتناغم ذلك مع ما قاله جبران خليل جبران في دمعته وابتساماته :”الحزن حلقة ذهبيّة في سلسلة الحياة,تمنحنا الحكمة والموعظة.”

شاهد أيضاً

ذلك السيب لا بمثل عمري

أحمد أبو زيد كاذب ذلك الشيب الذي يزحف مسرعاً ليغطي سواد شعري لا يمثل عمري …