هل يدرك الانسان ما وهبه الله في ذاته؟!!!

 

هل يعرف الإنسان قدر نفسه؟…

و

ما هي العاقبة؟

 

أحمد فقيه

 

    إن من يراقب الناس مع بعضهم البعض، يتأكد له أن الانسان لا يعرف عن مثيله الانسان إلا القليل القليل، وبالتالي فهو لا يدري عن ذاته هو إلا ذلك المقدار القليل القليل، إذ لو كان الانسان يدرك ما تخبؤه ذاته من كنوز وما هي قيمة تلك الكنوز الإعجازية لما أقدم على ما يقوم به تجاه الآخرين من بني جنسه.. فما نسمعه، وما نشاهده بخصوص معاملة الانسان لأخيه الانسان، يغلب عليه طابع الوحشية و الأنانيه المصبوغة بالهمجية المطلقة. وإلا كيف نفسر عمل مجموعة من البشر تقتحم ديار مجموعة أخرى أضعف منها سلاحاً، فتدمر منازلها، وتقتل أطفالها ونساءها وشيوخها، وكل من يقع أمامها، وتطرد من تبقى من الأهالي من أراضيهم وتشردهم في الآفاق.. وكيف نفسر عمل شخص يقتحم منزلاً أو متجراً، ويسرق ما يجده ويقتل كل من يعترض سبيله. ومن ذلك ما نسمع عن قُطَّاع الطرق، وقراصنة البحر الذين سيطروا على معظم أنحاء العالم، وبلغت مملكتهم من الاشاع بحيث لا تغيب عنها الشمس شرقاً وغرباً، وطبعاً بفضل أعمال القرصنة والسطو المسلح.

    فهل أمثال هؤلاء القراصنة وغيرهم من اللصوص وقطاع الطرق يدركون تماماً قدر أمثالهم من البشر ممن يغيرون  عليهم ويسلبونهم حياتهم وكل ما يدور في فلكهم؟ هل يدركون تماماً قدر تلك الروح التي أزهقوها لقاء أمور تافهة أمامها والتي يمكنهم الوصول إليها بطرق أخرى أكثر وعياً وتفهماً وادراكا وتنسيقاً.

وفي أنفسكم افلا تبصرون

    إن من ينظر إلى ما حوله نظرة تأمل وتبصر، يصاب بالانبهار لما يرى من عوالم متكاملة منسجمة بصورة لا يحدها خيال أو ادراك، فكل حركة فيها عبارة عن إعجاز ليس له حدود، وفوق إدراك البشر. وهذا الاعجاز، يشمل الكائنات بأكملها من أصغر ذرة في هذا الكون إلى اكبر كيان، سواء أكان نجماً أو كوكباً أو حيواناً أو إنساناً أو ميكروباً فلكل، كبر أم صغر، يسلك طريقه المرسوم  له غير آبه بشيء. ولإلقاء الضوء على بعض تلك الاعجازات نأخذ مثالاً على ذلك الكائن البشري_الانسان كفرد.

    هذا الانسان الذي وجد نفسه فجأة في هذه الدنيا وهو لا يعرف كيف ولا من أين، وانما وُجد، وأحسَّ أن لديه ميولاً للأكل، فيأكل مما هُيّء له أيضاً، وميولاً نحو متطلبات أخرى، ونفوراً من أمور أخرى، وهكذا أي أنه شعر أن هناك من يقوده أو يدفعه من داخله لعمل ما يجب عمله مما يُيَسّرْ له سبل العيش والتعامل مع الحياة. كما يشعر، في لحظات خاطفه، أن لديه قدرات خاصة تمكنه من القيام بأمور قد لا تكون متاحه لغيره مما يجعله ينسى حقيقه نفسه وأنه لا فضل له في كل ما هو فيه، ويعتقد أنه هو صاحب تلك المآثر، وقد يكون هو سلطان زمانه أو فرعون عصره، أو حتى النمرود، وغيره من البشر هم دونه مرتبة، ويحق له أن يخضعهم لسلطانه وجبروته.

الطاووس.. يختال بما وهبه الله وينفش ريشه متباهياً

 

    الا أن هذا الانسان لو فكر ملياً، لأدرك تماماً أن ما يقوم به هو نتيجة لما منحه الله من هبات خافية، لا يد له هو فيها. وعليه ألاَّ يغترَّ بما منحه الله، بل يحمده ويشكره ويتواضع، ويُسخّر قدراته تلك للخير والتعاون مع الآخرين، وليس لقتلهم واستعبادهم والتسلط عليهم. والمدهش حقاً فيما يتعلق بتلك الأجهزة أن بعضها يعمل وفق إرادة ومطلب الشخص، وبعضها الآخر يعمل من تلقاء ذاته. وأعمال الجميع تتظافر وتتكامل من أجل الحفاظ على الكيان وتزويده بكل ما يلزم للقيام بدوره على أكمل وجه. فلو أدرك الانسان كل هذا لأدرك أهمية تلك الأجهزه وأهمية عملها، وبذلك يدرك فضل الله عليه وعلى غيره. وقد قال الله سبحانه وتعالى : « وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون »( الذاريات/ 19_  20 ).

    وإذا أردنا فنُبصر  في أنفسنا، فلننظر إلى أقرب الأعضاء لتناولنا، وهو اليد_ فلنرى كيف تم تكوين كل جزء من هذه اليد وإلى ما تؤدي جميعاً معاً. نرى الأصابع الخمس، كل أصبع مكون من سلاميات حسب الحاجة المطلوبة تماماً، وطول كل منها يتناسب تماماً مع ما تتطلبها وظيفتها التي تقوم أو ستقوم بها، ووضع كل منها بالنسبة للأخريات، وتقابلها مع بعضها البعض مما ييسر حمل القلم للكتابة، أو حمل الملعقه أو السكين، أو المعول، أو غير ذلك من الحاجات الأخرى. تم لننظر في المفصل المرن، ثم الزند، والذراع، وارتباطها بالكتف مع ما يتحلى به هذا الكتف من مرونه وقوة تحمل. كل ذلك مما يعطي حرية وقدرة على العمل مع مرونة في الحركة والانتقال.

    وهنا يأتي السؤال : من الذي أوجد هذا التكامل بهذه الصورة المبهرة؟ هل هو الشخص نفسه، أم أن هذا الشخص وجد هذه الكنوز تعمل وفق إرادته، وما عليه هو إلا أن يأمرها، فتنصاع لتلبية مطالبه بكل سلاسة ومرونة ويسر. وهذا بالضبط ما يجري مع جميع الأعضاء والأجهزة ذات الطابع الحركي، مثل الشفاه، اللسان، الأجفان، العيون، وغيرها.

نبضات القلب

وسر الحياة…..

    أما الأجهزة اللإرادية التي تعمل بدافع من ذاتها دون إدارة الفرد، فهي متعددة جداً وتكاد لا تحصى، وقد يكون بعضها غير مدرك لدى الانسان حتى الآن. ومن هذه الأجهزة القلب، ولا أريد القول أنه أهمها لأن جميعها مهم، وكل في موقعه هام جداً، وقد تتوقف حياة الفرد على حركة منه. فالقلب الذي لا يتجاوز حجمه حجم قبضة اليد، يبدأ الاعجاز المبهر في تصميمه وما يتفرع منه_ فالبطين والأذين الأيمن والأيسر، وما بهما من صمامات تسمح بدخول الدم، وتمنع عودته من نفس الطريق، والأوردة والشرايين الناقلة للدم من وإلى الرئتين اللتين تزوداه بالأوكسجين، ومن ثم العودة والاندفاع نحو أجزاء الجسم المختلفة لتزويدها بالغذاء والأوكسجين.

    ومن الاجهزه الأخرى، الجهاز الهضمي الذي يعمل على تحويل الطعام إلى مادة مغذية للجسم قابلة للامتصاص. ويبدأ هذا الجهاز بالفم وما يضم من شفاه ولسان وأسنان وما يحيط بها من غدد لعابية للمساعدة في الهضم، ثم البلعوم والمريء، فالمعدة والامعاء الدقيقه والغليظة، وما يرافقها من غدد تفرز الانزيمات الهاضمة، ثم المستقيم لدفع ما تبقى من فضلات إلى الخارج.. وهناك أيضاً الكبد الذي يساهم في عمليه الهضم ويختزن المواد الغذائية والإحتفاظ بها للطوارىء، والكليتان، والحاليان، والجهاز البولي لاخراج السوائل والسموم من الجسم.

    أما جهازي التناسل الانثوي والذكري وما يحملان من معجزات وما ينبثق عن « تَوادّهما وتراحُمهما»  وسعيهما الدؤوب للتواصل مع بعضهما، فحدث ولا حرج، إذ من خلال الخط المرسوم لهما تنبلج السلالات البشرية أجيالا بعد أجيال وتزدهر الحياة بكل ما تحمل من ألوان وصور وأحداث.

    وغير هذه الأجهزه هناك العديد من العناصر الأخرى التي قد يصعب حصرها، فمنها المدرك ومنها ما هو غير مدرك، من غدد وشرايين وأورده وشعيرات وأنسجة، وكريات وصفائح دمويه وعناصر معدنيه. وغير ذلك الكثير ولا نريد الغوص في شرح تفصيلي لجهازي السمع والبصر، فالحديث عنهما يحتاج المجلدات، ولكن مجرد التأمل بما يقومان به يكفي. وما يخص العقل المدبر الذي يقود هذه الجيوش بأكملها، فلا حاجة لنا للحديث عنه، فهو قادر على التحدث عن ذاته. أما فيما يتعلق بالنفس والروح، فقل علمهما عند ربي.

    والآن، وبعد هذه الجولة التأملية، هل نرى أن هذه الأعضاء والأجهزه والعناصر هي من صنع الانسان نفسه، هل له أي يد في وجودها أو في سير عملها؟ وهل، إذا أصيب أي عضو من هذه الأعضاء بخلل ما، أو أنه لم يوجد أصلاً، يستطيع الانسان أن يوجدها أو يصلحها؟.. أسئلة يجب أن تداول فكر كل إنسان ليدرك أنه لولا القدرة الإلهية، التي وهبته كل هذه الكنوز التي لا حدود لقدرتها وعظمتها، لما استطاع أن يفتح عينيه ليرى ما أمامه، ولا يجد له أذنين ليسمع ما يدور حوله ولا استطاع أن يحرك اصبعاً من أصابعه إذا وجدت. وهنا على الانسان أن يحمد الله سبحانه وتعالى على ما وهبه، وأن يتواضع ويكرس حياته وإمكاناته لخدمة الخير الذي منحه الله للكون بأكمله. لأن ما ينطبق على الانسان وما حياه الله من مكرمات ينطبق كذلك على باقي مخلوقاته ولكن بأشكال وصور مختلفة تتلاءم مع أوضاع كل من تلك المخلوقات، سواء أكانت حيوانات، أو حشرات أو طيوراً، أو ميكروباتأو نباتات وحتى مختلف عناصر الجماد. فكل منها يؤدي دوره في الحياة كما رسم له تماماً، ولا نستهين بأي منها إطلاقاً. فالخلية، كما شاهدنا سابقاً لها دورها الدقيق المرسوم، لا يمكن الاستغناء عنه، فالخلية الواحدة التي لا يتجاوز حجمها 1000/1 مم فإذا تم تكبيرها، كما أشارت الدراسات، تظهر تحت المجهر بحجم مدينة مثل نيويورك. وهنا يبدو واضحاً داخل الخلية ورشة عمل قائمه على قدم وساق، فهناك عناصر تحمل مواداً غذائية تنقلها من خلال بوابات خاصة، وعناصر أخرى تحمل مواداً مستهلكة تحملها للتخلص منها عبر بوابات أخرى. وعلى كل بوابه يوجد حرس يختبر المواد القادمة، فإن كانت صالحه يسمح لها بالعبور وإذا كانت غير صالحه لا يسمح لها بالمرور.* سبحان الخالق المبدع.

*عن تحقيق عبر قناة المنار، برنامج “عجائب الخلق“.      

والذرَّةَ كذلك لها مسيرتها الخاصه في الحياة، فتركيبتها المكونه من بروتوتات، ونيوترونات، وأليكتروفات مع النواة تمثل عالماً خاصاً بها يتكامل مع ذرات اخرى لتكتمل المسيرة.

    والتساؤل الذي يفرض نفسه لدى كل من يفكر ويتفكر في ذاته وفي غيره هو:

إذا كان الانسان، بصفته أرقى المخلوقات ( على الأرض) واكثرها إدراكا وتفكراً، وإذا كان يدرك كل هذه المعطيات في ذاته، على الأقل، هل تطاوعه نفسه على أن يعمل على قتل أو القضاء على أي من تلك الهبات الاعجازية في كيانه أو كيان أحد آخر من بني جلدته.. فإذا كنا نتصور هذا القلب الذي لا يكل ولا يهدأ منذ ولادتنا ويستمر حتى نهاية حياتنا وهو يعمل ويزودنا بالحياة، فهل تطاوعنا أنفسنا على أن نقضي عليه بضربة حمقاء مجردة من أي شعور أو إحساس أو إدراك.. فبالتأكيد أن من يقوم بذلك في ساعات من الغضب أو عدم الوعي، يستفيق بعد ذلك على هول ما فعل، ويبقى شبح فعلته يلاحقه مدى حياته في ليله ونهاره.

    وإذا كان الأمر كذلك، فكيف ولماذا تنشب تلك الحروب بين البشر الذين يقتلون بعضهم بعضاً متخذين حججاً واهية، تارة الفكر المغاير، وتارة العقيدة، وأخرى بهدف الاصلاح، وغير ذلك من الحجج الواهيه والأعذار السفيهة، وإن كنت لا أرى من دافع سوى حب الذات والتسلط والسيطرة والانسانيه المهووسة والجشع المريض.

    فإلى هؤلاء الذين يحبون ذواتهم أقول:

يا غواة، افيقوا، افيقوا من سباتكم إنكم لا تقتلون إلا ذواتكم، فبئس ما تخيلتم وبئس ما فعلتهم. إن خيالكم لسقيم وعملكم لعقيم.

    ولكي نسلط الضوء على فظاعة ما يرتكبه الانسان في حق نفسه وحقوق غيره، أود أن أسوق المثل التالي:

    لنفترض أن شخصاً وجد نفسه في غابة نائية وليس لديه ما يسد رمته ولا ما يدافع به عن نفسه اذا ما تعرض لخطر ما، وخاصة أن الوحوش الضارية تملأ الغابة. وفجأة وجد في غمرة حيرته وتخبطه يلمح عن بعد قصراً شامخاً مترامي الأطراف، تحيط به الاسوار والحدائق والشاليهات من كل جانب. يتقدم نحو القصر، فيستقبله صاحب الدار ويرحب به ويقدم له الطعام والشراب ويهيء له فراشاً خاصاً لينام ويرتاح من عناء الضياع. وفي صباح اليوم التالي يستيقظ الضيف سعيداً نشيطاً منشرح الصدر، مرتاح البال، فيهُّم بالخروج، فيزوده صاحب الدار بالمال والسلاح وما يكفيه من الزاد. وعلى بعد بضعة أمتار من القصر تلوح التفاثة من الرجل نحو إحدى الشاليهات، فتبدو منها إبنة صاحب الدار وهي غاية في الجمال،فتدفعه نفسه الأمارة بالسوء نحو تلك الشاليه.. حاولت الفتاة أن تقدم له ما يريد من مساعدة، فأبي إلا أن يعتدي عليها مهدداً بالسلاح الذي زوده به أبوها، واستولى على كل ما وقعت يده عليه. وعندما حاولت الفتاة المقاومة، قضى عليها وعلى كل من أسرع لنجدتها عند سماع صراخها. وفر المجرم هارباً، تاركا وراءه كل ما سطرته وما يمكن أن تسطره الأقلام عن الوحشية والاجرام والهمجية المقيتة.

    هذا مثال يحكي حال إنساننا مع ربه الذي خلقه وخلق غيره وأنعم عليه وعليهم فيما أنعم، والجميع هم بمثابة أبنائه ورعاياه سبحانه وتعالى. وإذا كان الله قد أنعم علينا جميعاً  بما أنعم، فكيف يخطر ببال أحدنا أن يكافىء هذا العطاء بالاعتداء على أي من رعايا مَنْ أنعم علينا بالوجود والصحة والماء والهواء والغذاء وكل شيء.

    فإذا وعى كل منا هذه الحقائق الساطعه عاش الجميع بسلام ووئام وطمأنينة، وزالت من النفوس كل مظاهر الجشع والطمع والأنانية.

هدانا الله جميعاً إلى طريق الصواب

وجنَّبَنَا سبل المهالك وإغراءات الدمار.

   

شاهد أيضاً

شباب لبنان …شباب العلم

/ابراهيم ديب أسعد شبابٌ إلى العلياءِ شدّوا وأوثقوا وطاروا بأسبابِ العلومِ وحلّقوا وقد ضمّهم لبنانُ …