الرضيع

بقلم ضحى عبدالرؤوف المل

 

.

تتدفق الحياة من عتمة يصنعها القدر، ليولد الضوء في لحظات ترسم الأمل لظل مطمئن رغم الخوف الداخلي ، فتظهر الأشكال في أبعادها، وكأنها مخلوقات خالدة تحيا أكثر! مما يحيا الفرد البشري، وهي ضمن لوحة تظللها الخطوط،والأشكال الهندسية لتتناغم الكتل والتموجات اللونية، فتعطي الحياة لوجوه نتأملها، ونحاكيها لنرتقي في سمو فكرة ولدت من مخيلة رسام رأى في الظل والضوء! عتمة ساحرة، ليتدرج الضوء من ريشة انطباعية تحدد المفاهيم لفن تشكيلي حمل اسم “جورج دولاتور”

رأيت اللوحة صدفة، بعد أن قرأت عنها في رواية أصابع لوليتا للروائي “واسيني الأعرج” فبناء الرواية المبني على لوحة “المجدلية” لهذا الفنان جعلني أدخل مكتبة العم غوغل وأبحث عن لوحات جورج دولاتورهذا !..لكنني فوجئت بجمال لوحة المجدلية كما بهرتني لوحة الرضيع” التي تأملتها حتى ساعات مع موسيقى بيتهوفن، لأشعر بشريط ذكريات مرّأمامي كأنه فيلم مصور عن كل مراحل أمومة عشتها وحتى احساسي بالرضيعة حفيدتي وهي بين يدي ابنتي..

شفافية، وانعكاسات ضوء على الوجوه يزيل الظلمة عن القلوب القاسية، وكأنه يبرز الحالة النفسية للمرأة الممتلئة بالعاطفة، بل! لون الحقيقة الداخلية التي تنعكس من مشاعر شخوص لوحته في توحد كامل مع كل أركان اللون والقياسات ، والأبعاد في معان يقينية وتفاعل اللون الأبيض، وكأنه يرمز لصدر المرأة المغمور بضوء الحياة بل بنور ينبع من نقاط جمالية محددة بدقة، وفلسفة عالية لتتجسد رؤية الرضيع في خيالنا وتتطور في مفاهيم دينية أو ربما أسطورة وكأن الكف المكوّرة التي تمتد لتمسح وجه الطفل هي كف أ م موسى وهي تلامس طفلها قبل أن ترميه أخته في اليم.

إن نقاء اللون يضفي على النظر جواً نفسياً يبعث الطمأنينة والإحساس بالأمان، وكأن شاعرية الحركة في الأحجام المدروسة تتفاعل مع النظر والإيقاع اللوني أو الشمسي إن صح التعبير، فدرجة السطوع في اللوحة تشبه مراحل الغسق الأولى في توحد تام مع انفعالاته النفسية والحسية التي وصلتنا من داخل وخارج اللوحة! وكأن الذاكرة البصرية تستعيد مراحل رسم الرضيع الجنينية، وحتى الولادة في امتزاج اللون الأشراقي من ثوب الفتاة التي تحمل الطفل وحركة أصابعها لتمتزج القوى الحياتية المنبعثة من ثلاثية العناصر الموجودة، فينبعث النور وكأنه يقول”ليكن نوراً”

إن للفن التشكيلي لغة تؤثر بالحواس التي تتلقى العمل الفني وتوزعه بالتساوي على كل العناصر الحسية، لتندمج مع الرؤية القادرة على إتقان العمل الفني بكل مراحله الإبداعية التي تجعله كقطعة موسيقية أو رواية أو قصة قصيرة أو أسطورة ذهبية  نتأثر بها ونعيش مراحلها، لتبقى في مخزون الذاكرة كضوء في عتمة أو ظل يخترق كل صلب لطيف نموذجي يستطيع تحوير الرؤية ليخلقها مجدداً من ذاكرة الخيال.

يقول بيكاسو:” الطبيعة والفن شيئان مختلفان ولا يمكن أن يكونا الشىء نفسه”. بحثت عن الفراغ في اللوحة لأجد أنني سابحة داخل نظرة الأم التي تنظر إلى وجه ابنتها، أو تلك الراهبة المتتلئة نعمة وحنان، فالتوازنات المدروسة للكتل في الفراغ أظهرت بدقة الفكر الفلسفي لنظرة  الفتاة وتقاسيم وجهها المرسومة بما يناسب عمرها، فالأعمار كالأحجام لكن الأولى حسية زمنية والثانية ملموسة واقعية ، لنشعر بالفرق الزمني بين المراحل الثلاثة في اللوحة بينما هو وضع نقطتين بدأ منهما في رسم لوحته الساحرة.

استهدف جورج دولاتور الروح الطاهرة المحملة بمضامين تستهدف جوهر المرأة ، واللون، والعتمة، والضوء، والظل، ليسطع سطح اللوحة بوهج الحياة، ونشعر بالسكون الداخلي المنبعث من خارج اللوحة إلى داخلها ليعكس المضمون الإنساني، وفي ريشة رسمت أتقنت! أبدعت، وتجردت من كل شوائب اللون  عبر عناصر محددة تولّد انعكاس لوني في تقنيات واقعية معينة اعتمدت على تناقض الضوء والظل ،فنحن نعلم أن الضوء لا يخترق الأجساد لكنه يعكس عتمتها فيحولها ‘لى ظل ليختصر كل التفاصيل الأخرى..

بالإضافة إلى ذلك اهتمامه بمعايير الجودة العالية التي يتقنها لتكوين غموض مُلفت في كل لوحاته لنتساءل ما هذا الجمال؟

فالعناصر البصرية المشدودة كألياف سمعية أو كوتر يعزف أكثر من نغمة، فيخفي أي خلفية حركية لوصف طبيعي لكنه حي في لوحاته رغم بساطة المشهد. إلا أنه حاد على حدقة العين وعلى الطفل الحديث الولادة في أسلوب أبرز قدراته في قوة درجات اللون المعتم، والمضاء لأن الطفل المقمط يضىء وجهه النورمن طاقة تعكسها الشمعة المخفية خلف كف السيدة،  وكانها لوحة دينية تمثل العذراء وابنها مع قديسةهي الأم الحنون التي استطاع تجسيد مخاوفها وتسليط الضوء على الأنف والفم المفتوح ، لنشعر بمخاوفها على وليدها، فالشعلة!… كخفقان القلب المخفي مع الألوان ! الأحمر، الأبيض، الأرجواني، وخليط مركب من البني الغير ظاهر تقريبا ألا بنسبة مدروسة ليستعمل اللون الأبيض في رمزية الطهارة التي تغلف الرؤية كلها لتتفاعل يديها في ايحاء أ مومي إ لهي يبدو اكثر وضوحاً لو نظرنا إليها من مراحل مختلفة.

لوحة جورج دولاتور “الرضيع

بقلم ضحى عبدالرؤوف المل

شاهد أيضاً

إيران تفرض عقوبات على شخصيات ومؤسسات أميركية وبريطانية بسبب دعمها لكيان الاحتلال

علنت إيران، اليوم الأربعاء، فرض عقوبات على شخصيات ومؤسسات أميركية وبريطانية، وفقاً لمبدأ التعامل بالمثل. …