الاحتجاج الأبديّ: (تابع)

من محاضرة عاشورائية للعلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)

أمَّا إثارة المأساة؛ أن نبكي، وأن نحزن، فإنَّ المسألة لا تتّصل بالبكاء على ما حدث في التاريخ، أو تتّصل بالدّموع الثوريّة ضدّ الّذين صنعوا المأساة، لتنطلق الدّموع الحارّة لتحرق هؤلاء، ولكن من أجل أن نتفاعل مع هذه المأساة، لنحتجّ عليها، حتى لو كانت في التّاريخ ولا علاقة لها بالحاضر إلا من خلال هذه العاطفة الّتي تنفتح بنا على الَّذين عاشوا هذه المأساة، ولأننا إذا كنّا من الذين يرفضون المأساة في التاريخ ضدَّ دعاة الحقّ، وضدَّ الأبرياء، فإنَّ ذلك يؤدّي إلى أن تكون عقيدة رفض المأساة متجذّرةً في وجداننا، وفي نظرتنا إلى كلِّ حركة الصّراع، من أجل أن يتجدَّد رفض المأساة في نفوسنا في كلِّ مأساة الحاضر، وأن نمنع مأساة المستقبل. وعندما تقف موقف اللامبالاة أمام المأساة التاريخيّة، ولا سيّما إذا كانت شخصيّات هذه المأساة تمثّل قيمة روحيّة إنسانيّة، فإنّك قد تواجه اللامبالاة أمام مأساة الإنسان في الحاضر، لأنَّك عندما تجمّد قلبك عن الخفقات الروحيَّة المتعاطفة مع الَّذين عاشوا المأساة، فإنَّ ذلك يحجّر قلبك. ولكن إذا كان قلبك ينبض ويخفق بالعاطفة للمأساة في التّاريخ، ولا سيّما إذا كان هؤلاء يعيشون معك في انفعالاتك الروحيّة، فإنّك بذلك تعيش الرّفض لكلّ الذين يصنعون المأساة في الحاضر.

إنَّ الله تعالى قدّم لنا فرعون في القرآن الكريم، لا لنستغرق في شخصيّة فرعون التاريخيّة، ولكن لنأخذ هذا النّموذج نموذجاً لكلِّ الفراعنة، وقدّم لنا نبيّه موسى(ع)، لنأخذ منه نموذجاً لكلّ الَّذين يسيرون في حركة الرّسالات وحركة النبوّات. قد يعيش إنسان كبير في التّاريخ، وينطلق في غيابات الماضي، ولكنَّه يبقى نموذجاً وقدوةً، ولذلك قدَّم لنا القرآن الكريم المنهج الّذي من خلاله نتحرّك مع النبيّ محمّد(ص)، وهو منهج الاقتداء. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[1].

إنّ تذكّرنا لمأساة (كربلاء)، يجعلنا نرفض مأساة الإنسان في فلسطين، ومأساة الإنسان في العراق، ومأساة الإنسان في كلّ بلد يسقط أحراره وأبرياؤه تحت تأثير الاستكبار العالمي. إنّ شعارات (كربلاء)، كقول الحسين(ع): “إلا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ، قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة!”[2]، أو قوله: “لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد”[3]، ليست شعارات المرحلة، بل هي شعارات للزّمن كلّه، وهي شعاراتٌ نعيش تجربتها أمام الاستكبار العالمي، الّذي يعمل على أن يُسقط كلَّ عنفواننا، وكلَّ حرّيتنا، وكلَّ استقلالنا، وكلّ عزَّتنا، وكلَّ كرامتنا.

إذاً، لنتذكّر في عاشوراء، في مدى الزّمن، كلَّ مستكبرٍ يريد أن نعطيه بأيدينا إعطاء الذّليل، ويريدنا أن نوقّع على شروطه، أو أن نتنازل عن كلّ ما يريده منّا تحت عناوين مختلفة، لكنّ المسألة هي أن نعرف كيف نحرّك كربلاء، ولا نجعل كربلاء مناسبةً يستغرق الإنسان فيها بالبكاء، وإن كان للبكاء دوره، على طريقة ذلك الشّاعر الذي يقول:

تبكيك عيني لا لأجل مثوبة لكنّما عيني لأجلك باكية

إنّ البكاء عاطفة إنسانيّة لا يملك الإنسان أن يمسكها عندما يواجه المأساة، ولكنّ دور كربلاء هو أن نصنع الوعي للأمَّة، وأن نعرف كيف نواجه مشاكلها. والتفاعل بالحزن والبكاء، إنّما هو وسيلة من وسائل تجذير ذلك الوعي وتلك القيم في نفوسنا ….
يتبع 🔚🔚
من محاضرة عاشورائية للعلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) 10 محرم الحرام 1426 هج 19شباط2005 م …
جواهر الفكر الرسالي.

شاهد أيضاً

حاكم الشارقة يوجه بتخصيص 2.5 مليون لتزويد مكتبات الإمارة بأحدث إصدارات “مهرجان الشارقة القرائي للطفل”

الشارقة – من عمر الجروان المكتب الإعلامي لصاحب السمو حاكم الشارقة المكتب الإعلامي لحكومة الشارقة …