الوداع الأخير

بقلم الكاتب اليماني سهيل عثمان سهيل

في مدينة عربية يسودها الحب والسلام،
كانت تعيش أماني مع أسرة مكونة من سبعة أفراد، وما إن بدأت تتنفس الصعداء وجدت نفسها تمشي أزقة المدينة، سجلها “والدها الموظف” في مدرسة الأسودي الابتدائية، وصلت للصف الثالث وتعرفت على صديقة من صفها اسمها أمل،

تطورت صداقتهن وذاع صيتهن بمميزات مشاركتهن في البرنامج الصباحي إذ كانتا تخلقان من الألم آمالاً جمة تفيد الجتمع الذي تأثر بآثار ما خلفته ظروف الأوضاع الراهنة في البلدة الطيبة..

بدأ جوهما يسوده الحب والوئام لكن أوضاع البلد لم تتركهما ليعشا معاً.

في يوم من الأيام كانت أماني تأكل ساندوتش الإفطار أثناء الاستراحة ورأت توأم روحها أمل مُتكئةً على حائط المدرسة، نظرت لشمس الصيف وظلت طريقها إلى أمل.. تتخبط بعينها اللائي اخترقتها أشعة شمس الفصل القاسي، وما إن شارفت على الوصول إذا بعجوزٍ يقود عربيته يقف وسط المشهد قائلاً : تلك هي الشجرة التي ترحمني يومياً من هذه الشمس المحرقة، سقطت من عينيه دمعة الأسى عندما رأى الجذع، وإنه لكذلك حتى سمعا معلماً يهذي كما يهذي هذا العجوز وقد صنفته إدارة المدرسة بالمختل عقلياً بعدما انقطع راتبه الذي كان يقوت به عائلته: “قطع الله يد من حمل فأس الدولة وقطع تلك الشجرة بحجة تزاحم الباعة تحت ظلها”
فقال له العجوز وهو بائع البلح؛ اللهم آمين وأنشد يقول لأمل: كنتِ ستستنشقين نسمة صباحكِ هذا، لأنكِ تقطنين بلداً لم يهتموا بمن يموت داخل هذه المدارس الحكومية.!!
ذهب العجوز والمعلم وصرخت أماني بصوت عالٍ:

  • ميلوووووو ماذا بكِ؟
  • موني إنني أشعر بدوارٍ شديد وصداع نصفي بدأ للتو.

ذهبت أماني إلى إدارة المدرسة تسأل عن أم أمل وهي معلمة بنفس المدرسة فلم تجدها هناك حيث كانت في الطابق العلوي تستحضر دروس حصتها الرابعة، تم إسعافها في الساعة العاشرة والنصف صباحاً بعد أن كادت تصل لحالة الإغماء ورافقتهن أماني التي عاهدت أمل الآن وهما متجهتان لمستشفى الثورة!!

بعد سنتين خانتاهما جائحةٌ وطنية فانقسمت البلدةُ شمالاً وجنوباً، ليس هناك انفصالاً لكنها الحرب تفعل ما لا يشاء الإنسان، وهنا تدهورت الأضاع كلها حتى أصبح التعليم مجرد حبر على ورق ومدارس يسكنها مردة غوغاء الحروب!؛ لم يفترقا فراقاً فجائياً ولم تنزح أسرة إحداهما إلى أي مدينة أجنبية لأن النزوح في هذا البلد يختلف كلياً عن أي بلدٍ عربيٍ آخر!!.

لازالتا في المدينة نفسها حيث انتقلا من مدرسة الأسودي إلى أخرى وهي الأعدادية وبدلاً من مجيء طائرات مروحية تهبط على سطح المدرسة لتغيثهما بمعلبات ثلجية أو بسكويت آيسكريم تساقطت غاراتٌ جوية لكن لا أثر للهولوكبتر الحكومية التي ساعدت طالبات أفغانستان حينذآك، ذلك المشهد لم تشاهده أمل إلا في شاشة التلفاز وهو مشهدٌ مؤثر منقول من فيلم مفبرك أمريكي الانتاج، وهذه الغارات هي من نصيب مدينة عروس البحر العربي،

بينما كانت الغارات تتساقط لم تتحرك أماني من مكانها، تحولت أول غارة للمبنى الملتصق بالمدرسة والأخرى بوسط الشارع، ازداد ركض الفارين من الفصول وركضت أمل وصاحت بأعلى صوتها:

  • أماااااااااااني لا تفارقيني…

حجب بينهما غبار غضب الأرض وبراعة اختراع ذرية آدم وحواء، احتضنتها بطريقة الخائفة من هول الفاجعة ثم قالت لها:

  • لقد عاهدتكِ عندما ذهبنا للمشفى قبل سنوات فلا تقلقي وإذا كان للفراق قدرٌ آتٍ فلابد من ملاقاة بعضنا بعضاً ولو عبر الشوسل ميديا.

كانت تحلم بالسفر للخارج لتفوقها وعدم مراعاة ظرف عائلتها
سألتها: لماذا لا تخافين من الطائرات؟!

ردّت:
مما أخاف يا أمل والألمُ قد أصاب كل من يحمل فصيلة دم اليمن؟!

احتضنتا بعضهما بعضاً وكانت هناك معلمتان يعرفن صداقة أماني بأمل ابنة المعلمة المثالية، تلك التي لم تتغيب يوماً من أداء واجبها تجاه فلذات كبدها الطالبات !! وما إن جففتا بأيدي بعضهما عيونهما المنهمرة بدموع الخوفِ والرُعبِ من هذه الحرب العالمية يمنياً!؟
جاءت إليهما إحداهن على استياءٍ مما جرى، قالت لهن: لم يبق من الزميلات غيركن هنا فالكل قد عاد إلى بيته ليختبؤوا هناك، حيث يوجد الأمان والطعام والحنان فمنازلنا هي مخيمات اللاجئين من حكم غوغاء هذا الوطن ومن بشاعة جرم من استباح دماؤنا!!

  • هيا يا بناتي لنرحل من هنا حيث كان لنا ها هنا قبل قليل درسٌ لم نكمله بعد، كان في مادة الجغرافيا وتاريخ إسلامنا العريق ، توقفنا عند قدوم جيش طارق بن زياد على مشارف الأندلس!!

بعد تلك الغارات على من امتهنوا المدارس فراراً من الطائرات، توقفت الدراسة من قِبل وزارة التربية
أعني من أرباب كل الأسر اليمانية
وكان قد استفحل داء الرُعب قلبي أمل وأماني،،

وددتُ لو كانتا تتبادلان زيارة بعضهما بعضاً من وإلى منازلهما أو بالأحرى لمخيمات اللجوء المحلي..!!
لكن ليس للأماني سوى ما تمنيته الآن وانا أستمع إلى حكاية هاته القتيلة ليلاً!!

في شهر حزيران سنة ٢٠١٦م بدأ الدوام للفصل الدراسي الثاني وكلاهما في الصف نفسه (أول ثانوي)..
في نفس اليوم مذ بدءا يلتقيان بزميلاتهما في مدرسة (عثمان بن عفان)الثانوية حصل ما لم تتوقعه أمل من مشهدٍ مؤثرٍ جداً حيث انتهت الحصة الأخيرة وبعد أن عادت الطالبات وخلِصن من أكلهن لساندوتش الإفطار المدرسي، واجتمعن ليتصافحن ويستودعن بعضهما بعضاً
كونه اليوم الأول بعد غيابٍ طال لمدة شهرٍ وبضعة أيامٍ ، لم تمض تلك الأيام دون معاناة بل من أشد الأيام مرارةً أن تقترب امتحانات آخر الترم ولم يدرسن إلا وريقاتٍ تُعَدُ بالأصابع!!
كانت الطالبات في ازدحامٍ مدهشٍ على أفضل طالبة في المدرسة وهي حبيبة الكل، وعندما جاء دور حبيبتها المفضلة أمل،
احتضنتها حتى خلت ساحة المدرسة وغلقت الإدارةُ أبوابُها وقالت لها أماني:

  • وداعاً ياحبيبتي لربما هذا آخر لقاءٍ لنا..؛؟

جثت أمل على ركبتيها، انصدمت من كلامها وساعدتها على النهوض كما اعتادت على فعل ذلك في صدماتٍ مُسبقة، لم يبق أحد غيرهما عدا تلك المعلمتين اللتين يعجبا بهما أو بلحظات “الوداع الأخير” بينهما كالعادة..
جاءت الاثنتان وقالت أماني وهي تجر بيد أمل :

  • هيا يامعلمتينا لنرحل من هنا لعلنا نلتقي غداً ونكمل درس مادة الفيزياء ونبرع أنا وأمل في وحدة كيفية إطلاق الصاروخ النووي!!
  • لعلنا يا أماني نجد حلاً لنحطم ترسانات الجيش اليمني وترسانة الجيش المعادي.

طابت نفسا معلمتي الكيمياء والجغرافيا من هذه الكلمات التي رادفت صراحة وداعهما الأخير ذاك ، وكانت معلمة الفيزياء قد دخلت مع طالبات صفهن منافسة قوية لكنها لم تعرف مما يحدث الآن أي شيء؛
إنها كلماتٌ تشفي غليل كل معتلٍ وتَحُثُّ الطلبة على الاجتهاد والمثابرة فلولا العلمُ ما وصل بنا الحال لحالٍ سيءٍ ولولاه ما ارتقت الأمم من حالٍ إلى آخر!!!

وقفتا عند الباب الشرقي للمدرسة وهو الذي يؤديَّ بهما لطرفي الشارع العام وقالت إحدى المعلمتين: يا بناتي إن الحرب يمنية وكل المتحاربين يمنيون عدا السلاح مستورد.
قالت الُأخرى: يكفينا فخراً أن اليمن مقبرة الغزاة.

في مساء ذلك اليوم كان الطقس حارا جداً ومن عادة أبناء مدينة الحديدة التي آلم بها ومن فيها بارود البنادق وكُتبَ على دوابها الدعس على ألغام التصدي للعدو أن يستنشقا نسمات البحر يومياً بعد أن يتناولون وجبة العشاء،
وبينما كانت أماني وأهلها على سطح المنزل،
كادت تأتيها شظيةٌ طائشةٌ ترديها قتيلة الليل المدرسي، وكأنها تدرك أنها لن تدفع ثمن الحرب القائمة من حساب بنكنوت حضارتنا العريقة بل ستكون ثمناً للإنسانية ، وأهلها حاضري المذاكرة ،كانوا يتحدثون عن تغير الزمن وكيف صارت اليمن ، بقيت لوحدها تتذكر آخر لحظاتها في تلك المدرسة وتهدي آلات الحرب آهاتٍ تهاميةٍ تتشكل كجبال صنعاء وحضرموت إذ أنها تشعل شمعةً كل ليلة بقيمة مئة ريال يمني وهي نصف مصروفها المدرسي وتلتهم دروسها كما هو حال زميلاتها الآن على أسطح المنازل…

أحياناً يطلُ القمرَ وهي لازالت تُسامِرُ النجمَ وتسألُهُ: متى يا أيها النجمُ اليمانيُ، متى يعودُ تاريخُكَ الغيرُ دموي…؟!
في هذه الليلة كانت أماني تنتظر إطلالة القمر لكنه لم يكتمل نموه بعد.. لذا ظلت تنتظره وراح عن بالها مراجعة التاريخ الهجري لتتأكد من احتمال قدومه قبل أن تخلد للنوم كعادتها
وسائدُها من كُتبٍ وصدى المعارك أنشودة ما قبل النوم!!

سمعت شَحيج غربان صناعة الإنسان.. كادت تختبئ تحت لوح الطاقة البديلة(الشمسية)
لَعِنت الحرب وهي تدري أن للراء مسألةُ حذفٍ حتى يصبح كل الحب؛ للعلمِ للوطنِ للدينِ للأخلاقِ للحبِ ذاته …
ازدادت أصوات المدافع من جهة شارع المطار وعلا صوت الفارين من منازلهم ليلاً تاركين من مات ومن لايزال قاب قوسين أو أدنى يستودع الحياة ويمتطى صهوة فراشه عله ينتقل من عالم الحرب القذرة إلى عالم الغيب !!
وبينما كان لأهل أماني رحلة نوم جماعي أسلف منها بسنتمترات سقفاً ، دخلت الشظية من تحت بطئها الأيمن، ولم يصدر منها زفرة موتٍ مرتقب كونها تتأمل مجرات السماء، وتنتظر هديل حمامة السلام عند شروق الشمس .. لكنها تتفاجأ بقطرات سماء عينيها كل يوم قبل أن تستيقظ فتحاول أن لو يأتي الليل قبل أن تواجه صباح يومها الجديد باستقرار المخاوف وازدياد خفقات قلبها جراء سماعها لأخبار العالم من راديو جدتها صباح كل يوم، وهي الأخبار وحدها التي تتحدث عن جرائم حربٍ مشتعلةٍ في وطنها الحزين!!
ماتت المسكينة وشرقت الشمس قبل موعدها حزناً على تلك التي نامت وبيدها اليمنى ذلك القلم الذي أهدتهُ لها أمل في عيد ميلادها السابع عشر، أرادت أن تمحو آثار الحرب بممحاة كراسها الأبيض، لكنها فارقت الحياة وهي متشبثةٌ بيدها اليسرى ذلك الكراس الذي تبلل بالعرق جراء “انطفاء الكهرباء وانقطاع راتب والدها الموظف” منذ بدأت الحرب(٢٠١٥م)
تبللت عرقاً ودماً ثم ملئت مناهجها وتلك الدفاتر باللون الأحمر الداكن لوناً دموياً تفوح منه رائحة المسك والبارود والعنبر.

بعد ظهيرة ذلك اليوم اتصلت أم أماني بأم أمل قائلةً لها هذه بنيتي تريد ابنتكِ؛

  • أمل كيف حالك؟
  • الحمدلله
  • أختي أماني تسلم عليك وعظم الله أجرنا.

كانت أم أمل تخيط ثوب الصلاة وإذ بصوتٍ يقلب البيت رأساً على عقب؛

  • لااااااااااااا مسسسستحيييل مستحيل مستحيل.

ضربت بجهاز أمها الأرض فتطاير رذاذاً، أُغميَّ على أمل وظلت أسبوعا لم تذق أكلاً ولا شربة ماءٍ،
ماتت أماني وماتت معها كل الأماني حتى أنها لا تعرف منزل زميلتها أمل إلا عنواناً سجلته في مخيلتها بعد أن أعادت النظر إلى مفكرتها قبل أن تودع الحياة ليلتها ، إذ كانتا على موعدٍ لزيارة بعضهنا البعض، ففي ليلةٍ من ليالي الربيع طلبت أمل عنوانها لكن أماني أبت إلا أن تكون هي أول من تفاجئها بالزيارة ، ليتها تزورها الآن ولو شبحاً من أشباح عروس البحر الأحمر، ماتت وأهلها لا يعرفون أي شيء عن مصير صديقتها أمل بعد تلك المكالمة ، فتم فقدان رقم أم شهيدة المذاكرة، ثم انقطعت أخبارها فور إطلاق صرختها ورميها بالجهاز أرضاً.

أمل تقول بعد أن مضت خمس سنوات من ذكرى وداعها الأخير ذاك؛

  • أشظيةٌ تفعل بتلك البريئة كل هذا بي.؟!

بقلم الكاتب اليماني سهيل عثمان سهيل 2021/6/25م
جميع الحقوق محفوظة لموقع مجلة كواليس

شاهد أيضاً

​​”كيكة الشكولا الغنية..🤎🍫”

  #المقادير #للكيك 3 بيضات كوب شاي سكر 2 ملاعق كبيرة من الماء الساخن نصف …