أدباء وشعراء

إعداد وحوار الشاعرة رانية مرعي

الخوري مخائيل قنبر، خادم رعيّة مار يوسف الحجة – جنوب لبنان. حائز على دكتوراه في العلوم الدينية من جامعة القديس يوسف في بيروت. أستاذ جامعي علّم  في أكثر من جامعة لبنانيّة، ويدرّس الآن مواد تاريخ لبنان، وتاريخ الكنيسة، وتاريخ الكنائس الشرقيّة، والمجامع الكنسيّة في جامعة الحكمة – بيروت. كما يدرّس مواد تاريخ الكتابة، واللغة العبريّة، وتاريخ الفنون، وفنون عصر النهضة، وآثار الجزيرة العربيّة، ومسائل في الفنون الكلاسيكيّة، وحرف وصناعات في قسم الآثار التابع لكليّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة في الفرع الخامس في صيدا. أعدّ وقدّم وثائقيّات عدّة حول موضوعات تاريخيّة وأثريّة،

ناشط في مجال الحوار بين الأديان، وله مداخلات عدّة في هذا المجال. مؤرّخ وباحث، وقد نشر له العديد من المقالات اللاهوتّية والتاريخيّة والأدبيّة في مجلّات دينيّة وعلميّة متنوّعة. وهو كاتب في مجال الأدب والنقد. ألقى العديد من المحاضرات في مجالات مختلفة

له إصدارات عدّة منها في مجال تاريخ الكنيسة:

  • يوسف الخوري الحبر المتعدّد الأبعاد 1919 – 1992 ، بيروت: دار المشرق، 2013
  • رزق جزين… رزقة عين ورقة ولبنان، بيروت: مطابع معوشي وزكريا، 2015
  • سبحة اللآلئ، دير الزهراني – لبنان: دار البنان 2017
  • المطران يوسف رزق (1780 – 1865) تلميذ مدرسة عين ورقة سيرة حياة وإنجازات، بيروت – لبنان: منشورات الجامعة اليسوعيّة  2018
    وفي مجال الروحانيات:
  • في ستر الإنجيل، بيروت: المجموعة المحترفة للطباعة، 2014
    وفي مجال كتابة السيرة:
  • السيّدة البعيدة الآفاق، محطّات في مسيرة السيّدة الفاضلة سلوى غدّار يونس، بيروت – لبنان: رعيدي برينتنغ غروب 2019
    وفي مجال الأدب:
  • الأجنحة البيضاء، دير الزهراني – لبنان: دار البنان 2020
     الكلمة الوازنة التي تضيء على الحقيقة وتنير العقول والقلوب.

الخوري ميخائيل قنبر:

إنّ استمرار نبضِ الحياة في جغرافيا الكون، إنّما هو نتيجة دورة التاريخ

*يقول هيربرت آدمز”: تطوّر التاريخ من حاضنة للعقائد، إلى مختبر للحقائق العلمية”
ما هو سر علاقتك بالتاريخ؟


بداية شكرًا للاستضافة. وتحيّة من القلب لأسرة مجلّتكم الغالية على قلبي، وبالأخص السيدة فاطمة. وتحيّة لقرّائكم.
علاقتي بالتاريخ هي علاقة شغف قبل كلّ شيء. شغف بكلّ ما يخصّ هذا العلم، وهذا الفن، لأنّ التاريخ علم وفنّ. بدأ شغفي بالتاريخ منذ أيّام المراهقة، حين كنت طالبًا في المدرسة الإكليريكيّة في غزير، حيث كنت أمضي أوقات فراغي في المكتبة أساعد في ترتيب الكتب وتصنيفها، وطبعًا في القراءة. وفي المرحلة الثانويّة رأيت نفسي منجذبًا إلى الأدب العربي، وكنت أجد متعة كبيرة بالتعرّف على سير الأدباء لفهم كتاباتهم وقصائدهم بشكل أفضل. ورويدًا رويدًا وجدت متعة كبرى بقراءة الروايات التاريخيّة العالميّة. كانت القراءة هوايتي الأحبّ إلى قلبي. فأنا مثلًا كنت أقرأ الروايات والشعر عندما أشعر بالتعب من الدرس، والآن عندما أشعر بتعب من البحث والتمحيص والتعليم، ألجأ للقراءة لأرتاح. وبالعودة إلى سؤالك عمّا قاله هيربرت باكستر آدمز Herbert Baxter Adams المؤرّخ الأميريكي الذي توفي سنة 1901– لأنّه يوجد كاتب وسيناريست بريطاني بهذا الاسم Herbert Adams توفي سنة 1958 – فلقد قال ما قاله من أنّ التاريخ ” تطوّر من حاضنة للعقائد، إلى مختبر للحقائق العلميّة” بعد أن تمّ إدخال علم التاريخ إلى الجامعات الأوروبية كتخصص مستقل بذاته، وذلك على أثر ظهور تقنية دراسة الوثائق وألفاظها على يد المؤرخ الألماني ليوبولد فون رانكه Leopold von Ranke (1886)، وتشديده على التفريق بين المصادر والمراجع ما أدّى إلى اعتبار علم التاريخ علمًا تطبيقيًا كسائر العلوم التطبيقية. في هذا الإطار، نعم التاريخ مختبر للحقائق العلميّة، لأنّ دراسته بشكّل متجرّد وعلميّ أبعده نوعًا ما عن الحاضنة العقائديّة التي أسرته لعقود مديدة من الزمن. فالتاريخ الذي كتبه “المنتصرون” في أي مجال كان، كان تاريخًا استنسابيًّا عقائديًا لأنّه يسوّق لأفكار الكاتب، الذي هو من طرف المنتصر وليس المهزوم. بدأ التاريخ يتدرّج نحو الإطار العلمي حين بدأ تسجيل الوقائع والأحداث بترتيب زمني دقيق حسب السنوات وهو ما يعرف بالتاريخ الحولي، بعد ذلك ظهرت مدارس عدّة لكتابة التاريخ كالتاريخ الإنتقادي، والأخلاقي، والسياسي، والفلسفي… إنّما ما أشرت إليه في السؤال هو ما أحاول كتابته من خلال العودة إلى المصادر التاريخيّة، أي الوثائق والمخطوطات المخفيّة في الجوارير العتيقة.


 
*نبش وثائق الزَمَنِ الغابر من التاريخ، كيف يصوغ علاقة الماضي بالحاضر؟


للجواب على هذا السؤال أحيلك إلى التمهيد الذي كتبته في كتاب “رزق جزّين رزقة عين ورقة ولبنان” الذي صدر سنة 2015 وهو سيرة حياة المطران يوسف رزق الجزيني الذي كان رئيس مدرسة عين ورقة لمدّة خمسين سنة. وطلّاب مدرسة عين ورقة والمطران رزق هم الذين أطلقوا قطار النهضة العربية في القرن التاسع عشر وبداية العشرين. وفي بداية التمهيد أقول: “قال أمير البيان، الأمير شكيب أرسلان: “انه لا يُتصوّر على وجه الكرة وجود أمّة تشعر بذاتها، تعرف نفسها قائمة بنفسها، إلا إذا كانت حافظة تاريخها، واعية ماضيها، متذكرة أولوياتها ومبادئها، مقيدة لوقائعها مسلسلة لأنسابها، خازنة لآدابها مما لا يقوم به إلا علم التاريخ الذي هو الوصل بين الماضي والمستقبل، والرابط بين الآنف والمستأنف.”
شُغفت منذ صباي بالوصل بين الماضي والمستقبل، واستهواني الربط بين الآنف والمستأنف. فوجدتني، من دون الارتكاز على اختصاص علميّ في التاريخ، منكبًّا على مطالعة الكتب العتيقة. جذبتني دومًا الأوراق الصفراء الحاوية قصص الأقدمين، واستهواني البحث في حنايا جوارير التاريخ القديم. استنتجت أن التاريخ كناعورة الماء، يتكرّر فيها المشهد باستمرار، فينقل ذاك الدولاب الكبير الماء من الأعماق إلى المجاري، فتخضرّ حوله مساحات الأرض، يرتوي العطاش، وتزدهر الأعمال. نعم، إنّ استمرار نبضِ الحياة في جغرافيا الكون، إنّما هو نتيجة دورة التاريخ، الذي يغرف من أعماق الماضي السحيق صورًا وأحداثًا، يُصعدها إلى الأعلى، ليعود ويصُبّها في مجاري حياة الشعوب، فيخضرُّ المستقبل أمام الأجيال؛ ويتعلّم الأبناء من مدرسة الاختبارات الغابرة.

*كيف ساهم حوار الأديان في تخفيف وطأة الحوار الهجومي وفي تطوير التفاهم المشترك حول المواضيع التي تثير الانقسام؟


لن أتكلّم عن النظريّات. لن أتطرّق إلى حوار الأديان الذي يعود في القدم إلى عصر بداية الديانات، ولا إلى أطروحة «صامويل هننتغتون» عن صدام الحضارات وما أثارته من جدل، وطرح مقابل لفكرة حوار الحضارات والأديان. إنما سأتوقّف عند ثلاثة أمور عمليّة عاشها ويعيشها أبناء عصرنا: أمر أوّل يعود إلى ستينات وسبعينات القرن الماضي عاشه أهل منطقتي في جنوب لبنان، وأمران حاضران يعود الأوّل منهما إلى ما أوردته في كتابي “السيّدة البعيدة الآفاق محطّات في مسيرة السيّدة الفاضلة سلوى غدّار يونس”، عن الرسالة التي تقوم بها السفيرة الأمميّة في مجال حوار الأديان، والثاني إلى حركة البابا فرنسيس مع الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيّب، ومع المرجعيّة الشيعيّة آية الله علي السيستاني.
أمّا ما يختصّ بما عاشه الجنوب اللبناني في سيتينيات وسبعينيات القرن الماضي من تخفيف وطأة الحوار الهجومي بين الأديان، وتطوير التفاهم المشترك حول المواضيع التي تثير الانقسام، فأحيلك إلى كتابي “الحبر المتعدّد الأبعاد” الذي صدر عن دار المشرق سنة 2013. وفيه أفرزت فصلًا كاملًا للعلاقة النديّة التي ربطت بين الإمام موسى الصدر والمطران يوسف الخوري رئيس أساقفة أبرشيّة صور المارونيّة. هذه العلاقة التي تخطّت مفهوم “العيش المشترك” إلى مفهوم “الحياة المشتركة” بين مكوّنات الوطن الواحد جعلت من الجنوب اللبناني نموذجًا لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين المسيحي والمسلم. فهما إبنين لديانتين سماويّتين تشتركان في عبادة الإله الواحد وإكرام أنبياء مشتركين بينهما، وفي تكريم خاص لمريم العذراء “أصفى نساء العالمين” ولابنها السيّد المسيح. بالإضافة إلى تعزيز ما يجمع هاتين الديانتين على هذا الصعيد، فقد عمل الحبر والإمام المذكورين على تعزيز الحياة الاجتماعيّة المشتركة على الأصعدة كافة.
أما بالنسبة لإسهام السفيرة الأمميّة الدكتورة سلوى غدّار يونس في حوار الأديان فقد ذكرت ذلك في كتابي عنها تحت عنوان “جوهر الحوار بين الأديان” وذلك في مناسبة إعلان بيروت عاصمة لحوار الأديان والثقافات في العالم سنة 2012، وتعيين الدكتورة سلوى سفيرة فخريّة للأويسكو في لبنان. والأويسكو هي المنظّمة العالمية لحوار الأديان والحضارات في العالم. لنستمع إلى ما قالته هذه السيّدة الفاضلة وهو نابع من صميم عقلها وفكرها وقلبها، لأنّها تعيش ما تقول، وتقول بصدق ما تفكّر به. “بعد تعيينها في هذا المنصب الرفيع كسفيرة للأويسكو، قالت الدكتورة سلوى غدّار يونس إنها اكتسبت هذه المكانة، بسبب دعمها مسيرة تعايش الأديان والحضارات حول العالم. وفي حوار لها مع جريدة البيان، تحدثت عن الدوافع التي دفعت الأويسكو لاختيارها لهذا المنصب، فقالت: “التقيت وتحاورت في مرحلة سابقة مع العديد من علماء الدين، من مختلف الأديان والأطياف. وقد جرت تلك الحوارات في إطار السعي لنشر ثقافة التآلف، وعدم التفرقة بين الأديان. ساعدتني تربيتي منذ طفولتي، على إغناء وتوسيع معرفتي بها”. أما فيما يتعلق بالدور الجديد الذي تلعبه في المنظّمة الدوليّة، فقالت: “ما يفوق سعادتي بهذا اللقب، هو المسؤوليّة الجديدة التي تحتم عليّ الإسهام في حوار أوسع وأشمل. بالأخص في الظروف الحاليّة التي يعيشها الكثير من البلدان العربيّة، والتي يمكن حلّها، وحل الكثير من الإشكاليّات والخلافات الأخرى في العالم، من خلال الحوار. وفي ظلّ التحديات التي يواجهها الإسلام، يجب السعي، أكثر من أيّ وقت مضى، لتطبيق ثقافة الحوار الحقيقي، لأنّه كفيل بحلّ العديد من الخلافات، وبوقف نزيف الدماء. فالحوار يساعدنا على فهم أفكار الآخر، ويساعد الآخر على فهم أفكارنا وتقبّلها، وبالتالي ينقذنا من الخراب والتخلّف والعودة إلى الوراء.” كما أكّدت السفيرة سلوى أن “بُلداننا وثقافتنا الحاليّة بحاجة إلى فتح أبواب الحوار والاجتهاد، ومواكبة التطور، وفهم جوهر الأديان، التي تعتمد على ارتقاء الإنسان بأخلاقه وسلوكه.” وتطرّقت كذلك إلى خصوصيّة الدين الإسلامي قائلة: ” إن أغلب اجتهاداتنا في المرحلة الأخيرة تمَحورت حول الشعائر والفتاوى، بينما غاب جوهر ديننا الذي يُعلي من شأن القيم الحميدة، والأخلاق، والعلم، والتسامح، والرحمة، والمحبة، والتآلف، وليس قيم القتل الوحشي، كالبرابرة. الإسلام حضارة للإنسانيّة، فلطالما استقطبت حضارتنا في مرحلة ازدهارها العديد من الملوك والعظماء عبر التاريخ، لينهلوا من معارفها وعلومها وشريعتها.” (قنبر 2019: 160)
أمّا فيما يختص بما يقوم به البابا فرنسيس من مبادرات حوار مع المرجعيّات الإسلاميّة السنيّة والشيعيّة، إنّما يندرج في إطار ما تعلّم به الكنيسة المقدّسة في مجمعها الفاتيكاني الثاني من خلال البيان حول “علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية” Nostra Aetate، وفيه أنّ “كل الشعوب جماعة واحدة ولها اصل واحد لأن الله هو الذي أسكن الجنس البشري بأسره على وجه الأرض كلها؛ ولهم غاية أخيرة واحدة وهي الله الذي يشمل الجميع بعنايته وشهادة جودته وتصاميم خلاصه الى أن يتحد المختارون في المدينة المقدسة التي سينيرها مجد الله وستمشي الامم هناك في نوره”. إنطلاقًا من هذا التعليم بالذات يسعى حوار الأديان الذي تجريه الكنيسة اليوم بشخص البابا فرنسيس إلى تخفيف وطأة الحوار الهجومي بين الأديان. هذا البابا الذي تسمّى باسم أكبر القديسين “فرنسيس الأسيزي”. أخذ منه العديد من الصفات، وأهمّها الانفتاح على الديانة الاسلاميّة. ففي العام 1219 ، وبالرغم من الحرب التي كانت تدور رحاها بين جيوش الفَرنجة وجيوش المُسلمين. وبالرغم من احتدام المعارك، ذهب القديس فرنسيس مع رفيق دربه، المُنوّر، لِمقابلة السلطان الأيوبي الكامل مُتسلِّحًا بإيمانه وحاملًا كلمة المسيح. لقد طبّق القديس فرنسيس في حواره مع السلطان عددًا من المبادئ شَدَّد عليها في ما بعد في قانونه الرهباني، فذهب إلى السلطان وهو ابن أخ صلاح الدين الأيوبي، وناقشه في الدين بمحبّة وتواضع ولكن بصلابة الإيمان كذلك، دون مجاملة وخطاب محاباة، كالكثير ممّا يُمارس حاليًا. حدّثه دون عنف أو شجار ولا تعالٍ، فالمسيح علّمنا التواضع أيضًا، والصليب هو رمز التضحية، وقد لَقِيَ بدوره لدى القائد المُسلِم كلّ انفتاح وتسامح. وبذلك كان هذا القديس أوّل العاملين على الحوار بين الديانتين وعلى تطوير التفاهم المشترك حول المواضيع التي تثير الانقسام. وهذا ما يتابعه اليوم البابا فرنسيس.

*العالم العربي هو موطن واحدة من أقدم الجامعات في العالم هي جامعة الأزهر التي تأسست في القرن العاشر الميلادي. ومع ذلك، لا تزال الجامعات العربية تتلقى تقييمات سيئة نسبيًا من أنظمة تصنيف الجامعات العالميّة الكبرى.
أين يكمن الخلل برأيك ؟


صحيح أنّ جامعة الأزهر هي المؤسسة الدينية العلميّة الإسلاميّة العالميّة الأكبر في العالم وثالث أقدم جامعة في العالم (حوالي سنة 970 م.)، بعد جامعتي الزيتونة بمدينة تونس (حوالي سنة 737م.)، والقرويين في مدينة فاس، بالمغرب (حوالي سنة 859 م.)، وهي توجد في القاهرة في مصر. إلّا أنّ القدم وحده لا يرفع من نسبة التقيمات. صحيح أنّه يلعب دورًا أساسيًّا، إلّا أنّ العبرة هي في التقدّم ومواكبة العلوم الحديثة، والتطوّر على كافة الأصعدة . باعتقادي أنّ مشكلة عالمنا العربي تكمن في أنّنا صدّرنا للغرب العلوم كافة، واعتقدنا أنّنا قمنا بعمل ما علينا. في حين أنّ الغرب الذي تعلّم منّا، طوّر معارفه، وسبقنا في العلوم كافّة. ونحن بقينا في مكاننا. ومن يقف مكانه على خطّ سير الزمن، يسبقه القطار، ويتراجع القهقرى. وهذا ما حلّ بنا.


 
*النقد هو دراسة معمّقة للنص بهدف التصويب،
ما لنا اليوم نرى بعضه تحوّل إلى مؤامرات كيدية وانحياز ومحسوبيات؟


أنا لا أمتلك مَلَكَة النقد، لأنّ النقد الأدبيّ والفنيّ هو دراسة ونقاش وتقييم وتفسير الأعمال الأدبيّة والفنيّة، مع مراعاة مقاييس علميّة معيّنة، ويشترك في هذه العمليّة ذوق الناقد وفكره، للكشف عن مواطن الجمال أو القبح في هذه الأعمال. ويجب أن يكون الناقد ملمًّا بمفاتيح النقد العلميّة، وأن يكون واسع الاطلاع في المادة التي هي مجال دراساته النقديّة. أنا أمارس النقد العلمي في الإختصاصات التي أعلّمها في الجامعة كأستاذ قارئ لأعمال الطلّاب. أمّا في مجال الأدب فمداخلاتي حول أعمال بعض الأدباء والشعراء أتت في إطار انطباعاتي الشخصيّة كقارئ شغوف بالشعر والأدب، وليس في إطار النقد. أمّا ما تتحدّثين عنه من مؤامرات وانحياز ومحسوبيّات فيندرج في إطار الاستهلاك الصحافي وليس في الإطار الثقافي. وأفضّل ألّا أدخل في بازاراته.

* “ثقافة الفرد من جودة المادة التي تقدّم له”
هل تؤيد هذا الرأي؟ وكيف تصف علاقتك بقرائك؟


بالطبع لأنّ لجودة المادّة دورٌ أساسيّ في الثقافة ونكهتها وطعمها. دعيني أبسّط الموضوع. تخيّلي أمامك إسفنجة. أسكبي عليها مادة ما، من أي نوع كانت، رائحتها ذكيّة طيبة أو بالعكس. ماذا ستتشرّب هذه الإسفنجة؟ ستتشرّب المادة المسكوبة عليه، بغض النظر عن رائحتها، ونكهتها، ولونها، وسماكتها، ولزوجتها… هكذا هي العلاقة بين المادة والثقافة. فالقارئ الذي يأخذ بين يديه “مادة معيّنة” ليقرأها هو كالإسفنجة، سيتأثّر بالتأكيد بنوعيّة المادة وطعمها ونكهتها.
أنا شخص أحترم قرّائي، فعندما أكتب في التاريخ أسعى لأن تكون كتابتي علميّة، موثّقة بإتقان، ومصاغة بأسلوب سهل ممتع، لأنّي أؤمن أن من حقّ محبّي التاريخ أن يتمتّعوا في قراءته. من أجل ذلك أصيغ كتابتي بنفحة أدبيّة، وأحرص على نوعيّة إخراج الكتب بطريقة جميلة. أمّا عن علاقتي بقرّائي فأعرفها من خلال علاقتي بطلّابي. فكوني أستاذ جامعي أدرّس في أكثر من جامعة تواريخ الكنيسة ولبنان الفنون وغيرها من المواد، ولأنّي أسعى أن تكون مواد التدريس متقنة كالكتب التي أنشرها، أستطيع من خلال ردّات فعل الطلّاب معرفة وقع أسلوبي عليهم. وهو – والحمد لله – جيّد.
 


*أترك لك الختام مع فقرة تهديها لقراء كواليس


في الختام أختار نصًا من كتابي الجديد الصادر عن دار البنان في حزيران سنة 2020 تحت عنوان “الأجنحة البيضاء”، وهو كتاب وصف وجداني. والنص الذي أختاره هو النص الذي أعطى للكتاب اسمه، وهو وصف لقائي بشريكة حياتي، زوجتي حبوبة كنعان وفيه أقول:

“يوم التقيتها على وقع هديل “الحمامة البيضاء”، أدركت أن الحكمة الإلهيّة وضعتها في طريقي لتكون هديّة حياتي. أثارت ابتسامتها في قلبي اهتزازات مغناطيسيّة. أيقظ سحرها في كياني الآدم المنتظر حواءه منذ الأزل. كستناء شعرها أعادني إلى عدنٍ، وزمرّد عينيها أغرقني في يمّها، غير أنّ حوت يونان الحبّ كان لي بالمرصاد.
سرقتها من أصدقائها، راقصتها، غازلتها، حمَلتها روحي على أجنحة بيضاء، فطارت إلى عالمي، وحلّقتُ في عالمها، من “النظرة الأولى”. صدحَ الأقارب والخلّان بأناشيد الفرح وأهازيج الغبطة، فإذا بالضلع الذي استلّه الخالق من جنب الجدّ العتيق يأخذ مكانه من جديد في صدري، فتتسارع نبضات قلبي، مؤذنة بدء قصّة جديدة من قصص التلاقي الأزليّة بين الآدميين وحواءاتهم.
قطفت حواء جدّي، في الأيام الغابرة، من الثمرة الممنوعة، فكان ما كان. أمّا حوائي فقطفت من شجرة الحياة التي فرزها الباري لبراياه بعد الفداء، فكان أن أسبغ الله على حبّنا بالثمر. ومنذ عام 1996 وحوائي “حبيبة”.

شاهد أيضاً

جماهير المقاومة في فلسطين ولبنان وكامل قِوَى المِحوَر مجاهدين وصابرين ومحتسبين قرروا السير مع قيادتهم على مبدأ الشهادة أو النص

*كَتَبَ إسماعيل النجار* ر، إنها كربلاء العظيمة مدرسة أتباع آل البيت من المسلمين كل المسلمين …