“سوا ربينا…” قصة قصيرة على حلقات

🌸الحلقة الخامسة والأخيرة🌸

الشاعرة سناء زين معتوق

مرت الشهور الخمس، وجاء كانون الأول.. قصدت سوريا مع والدتي واصطحبت معي طفلتي التي كانت تبلغ من العمر ثمانية أعوام، عبرنا الحدود إلى الأراضي السورية، توقفت عقارب الساعة وبدأ الوقت يمر ببطء شديد، أسندت رأسي إلى الخلف علني أحتال على الوقت بالنوم، أغمضت عيني ولكن عبثا ماحاولت، كانت الرحلة سهلة، خالية من المشاكل، لكنها ما خلت من أمرين.. خيال ريما الذي سيطر على عقلي طوال الرحلة، وأسئلة طفلتي التي لم تتوقف.. إلى أين نحن ذاهبون؟؟؟ من سينتظرنا؟؟ من هي ريما يا ماما؟؟؟ أسئلة كثيرة ملأت بها رأسي بطفولتها البريئة، وخيالها الواسع…

توجهنا إلى الفندق، ثم طلبت أمي سيارة أجرة وسألته أن يأخذنا إلى مخيم اليرموك، وكان الإتفاق أن أنتظرها بدون أي إشارة لنرى هل سنتعرف على بعضنا بعد كل هذه السنين!!! إتفقنا على المكان… مدخل المخيم، لم يمض وقت طويل، سألت نفسي هل سأعرفها؟؟ لا بد أن ملامحها قد تغيرت، فقد أصبحت أما لولدين… وأثناء حديثي مع نفسي، رأيت سيدة تقترب نحونا بسرعة، كانت تعتريها علامات الدهشة، والذهول والإهتمام لا أعلم ماذا حدث لكني سمعت صوتا مرتفعاً… هذه سناء… للحظات لم أعِ كيف أتصرف، هل أتسمر داخل السيارة؟؟ هل أنزل؟؟ هل أصرخ؟؟ لا أعلم .. هاهي السنوات التي رجوتها أن تعود قد عادت، وريما تقف أمامي الآن، جميلة، مشرقة كما حفظتها في قلبي .

نزلت من السيارة، وكان عناقا طويلاً، إختزل شوقاً وحنيناً عمره سنوات طوال، بكينا وضحكنا وعدنا أطفالاً… شعرت أنني قد وجدت نفسي بعد أن ضاعت في زحمة الحياة والعمل، شعرت أن الشمس قد ضحكت.. كانت أشعتها مختلفة في ذلك النهار، وجوه الناس كانت مختلفة أيضاً، مبتسمة، ضاحكة، تخبرني أن الأمل حقيقي، وأن إحساسنا بالأشخاص لا يخيب أبداً، فريما لم تتغير، عناقها لي أخبرني بذلك، أخبرني أنها لا تزال رفيقتي وأن طفولتنا هي أصدق من كل هذا الرياء الذي يحيط بنا.

يومان وثلاث ليال قضيتها في سوريا قصدت فيهما بيت ريما، نجلس، نتحدث، لم تتغير… هي الطفلة والصبية نفسها التي فرقتني عنها الحرب، أخبرتني أنها بحثت عني أيضاً، وأنها كل عام في عيد ميلادي كانت تضيئ لي شمعة، كم هي جميلة روحك يا ريما وكم أنت نقية، كانت تفكر بي تماماً كما كنت أفكر بها ، وكنت أسكن خيالها كما كانت تسكن خيالي ، كم الترحيب الذي وجدته من ريما وزوجها وأهلها، جعلني أعلم وأتأكد أني لم أفارقها يوماً، وأن المشاعر والصداقة البريئة، هي أسمى وأنبل من كل ما نعيشه من كذب ونفاق إجتماعي .

هي علاقات يعيشها المرء كل يوم، ولكن مع هبوب أول نسمة شمالية حزينة تندثر كل علاقة، ولا يبقى إلا الصادقة منها ، الخالية من كل مصلحة ، في اليوم الأول، عرفتني على عائلة زوجها طبيب الأسنان المهذب والذي يحب ريما ويحترمها، وعلى شقيقته الموظفة في إحدى المكتبات العامة، وفي اليوم الثاني تعرفت إلى أقرباء ريما لوالدتها، عندما دخلنا منزل خالها قوبلنا بترحيب كبير وأمضينا سهرة عائلية بإمتياز ، تخللتها أحاديث سياسية طبعاً فهي ما يميز سهرات المواطن العربي في كل مكان، إلا أن ريما كانت من المستمعين والمؤيدين لي بكل رأي ، من مبدأ أنا لا أحب السياسة ولكن أنا معك لأنني أعلم أنك محقة.

مر اليومان بسرعة وحان وقت العودة، استيقظنا صباحاً أنا وأمي وابنتي، كانت الوجهة ريما كي أودعها، لم أكن حزينة ولم أبكِ، بل كنت في غاية السعادة لأن ريما بخير ، ولأنني رأيتها بعد أن اقتربت من فقدان الأمل، هي أيضاً لم تبكِ وأعتقد لنفس السبب، وصلنا وكانت ريما وزوجها بانتظارنا. لم يظهر على أي منا حزن ولم نتأثر لدرجة البكاء، ولكن سؤالاً واحداً كان يقرع رأسي، وأعلم أن ريما كانت تفكر بنفس السؤال، متى سنلتقي مرة أخرى؟؟؟ سأعود أنا إلى لبنان ، أستأنف حياتي وعملي، وستعود هي إلى القسم الآخر من الأرض، ولا نعلم إن كنا سنلتقي مرة أخرى أم لا…

في طريق العودة بكيت وشعرت أنني مجدداو عدت وحيدة، عندما وصلنا إلى لبنان أحسست أن جزءاً مني بقي مع ريما، طفولتي التي وجدتها تركتها هناك مع صديقتي وأعلم أنها ستحفظها لي مهما طال فراقنا هذه المرة….

ومنذ ذلك اليوم لم تنقطع علاقتي بصديقة الطفولة والصبا، نحن على تواصل مستمر وأعلم جيداً متى تكون ريما حزينة، أو متى يثقل كاهلها وجع تود أن ترميه بين يدي، كذلك بالنسبة لي فهي تشعر بي، وإن لم أفصح عما بداخلي .

فالصداقة أعمق و أرقى من العتاب، أو الرسائل المتواصلة، ريما لم تتغير رغم المسافات والظروف الصعبة، لقد وجدتها كما تركتها منذ زمن طويل، لم تتزعزع ثقتها بي وإن كان بيننا بعد أو مسافات، إلتقينا ففتحنا قلبينا على مصراعيهما وهي تعي تماماً أن مكانها في قلبي مختلف عن الآخرين، لذلك هي لا تعتب إن غبت عن التواصل معها…. تلك هي صديقتي التي لم أندم يوماً على صداقتها، ولم أشعر في يوم من الأيام أنها بعيدة عني، فقط شعوري بالغضب كان يزداد يوماً بعد يوم على من يفتعل الحروب، ويمزق أحلام الأطفال، ولا شيء يبرر ذلك، فقط غايات سياسية وأطماع بالسيطرة على العالم، وإن كان الثمن أرواحاً بريئة عشرات أومئات أو حتى عشرات الآلف … لا يستحقون حتى مجرد السؤال… بأي ذنب يُقتلون. … معادلة مقيتة ولكنها السائدة للأسف.

ريما الآن تعيش حياة هادئة في نيوزلاند مع زوجها وولديها، الذي أصبح أحدهما طالبا جامعياً، والآخر في المرحلة الثانوية، هي فقدت والدها منذ بضعة أيام، حزنت وبكت كثيراً، تمنيت أن أكون بقربها علني أستطيع أن أخفف عنها، ولكن للأسف ما كل ما يتمناه المرء يدركه. . .

أنا أيضاً فقدت عمو خليل، فأنا لم أدرك يوماً أن يكون شبح الموت قريباً مني حتى يخطف من كنت أعتقد أنه لن يرحل، لكنه قدر أحمق مضى به بعيداً، إلى العالم الآخر…ربما يكون ذلك العالم أكثر سلاماً وحباً من عالمنا الدنيء، وقد بكى والدي على رفيق العمر، وبموته قد وضع نهاية مفجعة لصداقة استمرت خمسين عاماً… يصعب علينا جميعاً أن تمضي بنا الأيام دون أن ننتظره في الآحاد، أو أن نقصده نحن في عيناثا، البلدة الهادئة الجميلة في أقصى الجنوب، والتي بدت باهتة، حزينة، بعد أن فارقها وفارقنا إلى الأبد… سنفتقد تلك الصباحات الجميلة التي كانت تجمعنا به حول فنجان القهوة، وصوت جارتنا إلى القمر يحملنا عبر أثيره نحو النقاء….


أما أنا فأعيش مع وحيدتي التي وصلت إلى الصف الثاني عشر ، وزوجي وهما فاكهة حياتي، منذ عدة أيام أرسلت مسودة هذه القصة إلى ريما أسألها عن رأيها، أجابتني أن هناك شيئاً واحداً يحز في نفسها، وهو أنني لم أذكر إسمها الحقيقي، فوعدتها أن أعالج الموضوع، وها أنا أفي بوعدي… إسم صديقة طفولتي ورفيقة مراهقتي وصباي، هو ماجدولين…. لماذا أسميتها ريما؟؟؟ لا أعلم ربما لأنني كنت أغني لإخوتي الصغار… يلا تنام ريما.. يلا يجيها النوم، ربما كنت أرى ماجدولين بتلك الطفلة ريما.. لا أعلم.. ربما…


أما الآن، فإنني لا أمارس أي عمل .. أجلس .. أنتظر أملا آخر وأمني النفس به، أستطيع بصعوبة أن أطبع أفكاري على جهاز الحاسوب فقط…. ربما سأستطيع في يوم من الأيام أن أبوح بوجع آخر… وتلك حكاية أخرى …..

(تمت)

21/7/2019

شاهد أيضاً

شاب تركي من اصل كردي يقتل عبدالعزيز الأب الأول لبني سعود .

  عن كتاب ( الربيع والآبار والدمار ) للكاتب الباحث سعيد فارس السعيد : في …