“سوا ربينا…” قصة قصيرة على حلقات

🌸 الحلقة الثالثة 🌸

الشاعرة سناء زين معتوق

وصلنا إلى لبنان، وصلنا إلى الأرض التي تجرعت حبها منذ طفولتي، فقد سكن روحي وتجذر عشقه في وقلبي، وقد كنت دائماً أحلم أن أعيش في لبنان، كيف لا؟ وقد سمعت حكايات وحكايات من والدتي عن مقاومة الجنوبيين للعدو، وشممت رائحة زهر الليمون في زفراتها، ولطالما كنت أتوق لرؤية الشجر الذي يزهر قبل أن تورق أغصانه، فقد كانت تلك المعلومة غير منطقية بالنسبة لي، حتى رأيت ذلك لاحقا بأم عيني.
لكن مهلاً….أين أنا؟؟؟ فلقد مررنا بكل الدمار الذي خلفته الحرب الأهلية، بنايات وقد مزق صدرها الرصاص فباتت جثثا، كانت تلك أول صفعة تلقيتها، عند وصولي إلى وطني.
تساؤلات كثيرة دارت في مخيلتي طوال الطريق، ما هي الأسباب التي تجعل إنساناً ينهي حياة آخر بطلقة عمياء تنهي أحلامه وتقتل طموحه؟ ثم أين هي أرض الغار؟ وأين تلك السهريات التي حدثتنا عنها فيروز؟ أنا لا أرى إلا شبه مدينه… حزينة … باكية… اتشحت بالسواد في كل مكان….. أيقظني صوت أمي من صراعي الداخلي قائلة… ها قد وصلنا إلى الجنوب…..
ها هو جنوبي، لم أرَ الكثير، فقد كان الليل قد بسط جناحيه علينا، فلم نستطع رؤية إلا ما كانت تسمح لنا به أضواء السيارة، ولكن رائحة الجنوب مختلفة، على الأقل هذا ما أشعر به، لم أهتم لأن الليل منعني من رؤية شيء، فلقد رأيت جنوبي بقلبي، وشممت رائحة الجنة به…. هو الجنة على الأقل بالنسبة لي.
بانت لنا مشارف ضيعتنا، وكانت بعيدة نوعاً ما عن الشريط الحدودي الذي أنشأه العدو الصهيوني في ذلك الوقت، ولكنها لم تكن بعيدة عن أصوات الطيران الحربي المرعب، وعن القنابل المضيئة التي اختبرناها فيما بعد.
في الأيام الأولى نزلنا في بيت جدتي لأبي، وكانت لا تزال على قيد الحياة، جدتي رحمها الله من الصعب نسيانها، لما كانت تمتاز به من وعي اجتماعي وسياسي، وهذا يعتبر نادرا لإمرأة عاشت في زمن الإقطاعية والجهل… ولكن أكثر ما أذكره من تلك الفترة التي مكثنا بها في ضيافتها، صنارتها التي لم تكن تفارق يديها، تغزل بها مفارش للطاولات، وأغطية مطرزة لأباريق الماء، إذ أن أبريق الماء في لبنان له مواصفات قروية محددة، لذلك لا بد أن يكون محمياً بالغطاء عن الغبار والحشرات، لذلك تجده في كل البيوت وقد وضع عليه غطاء صغير، حيك بالصنارة، كذلك أذكر أغنيتها المفضلة التي كانت دوما تدندنها…. قضينا العمر ولف طل وولف راح، وضاع العمر هجران وغياب… مكثنا في ضيافتها شهر تقريباً أو أقل. أثناء ذلك قامت أمي التي وجدت نفسها الأم والأب في نفس الوقت باستئجار منزل صغير، في الضيعة وتجهيزه بما تسمح به الظروف المادية الضعيفة.

حتى تلك اللحظة، كنت أنا وأخوتي في غاية السعادة، مناظر تسلب العقول، رائحة الأرض مختلفة، خاصة بعد أول شتوة خريفية، ربوع خضراء تسحبك إلى الأحلام، أرض جميلة.. بهية… قد فاق جمالها ما روته لنا أمي شتان ما بينها وبين طبيعة المكان الذي كنا نعيش به.
أيام قليلة، وبدأت رحلة العذاب الثانية، التأقلم مع المنهاج الدراسي اللبناني، كل شيء مختلف، المناهج، طريقة التعامل مع التلميذ، أسلوب طرح الأسئلة في الإمتحان، معاناة حقيقية عشناها على مدار عام دراسي كامل ، ولكن بعد إصرار ومثابرة، استطعنا تجاوز هذه الفترة الصعبة، بالطبع إخوتي كانوا أسرع مني بتجاوز قساوتها، نظراً لصغر أعمارهم وبالتالي هم في صفوف المرحلة الإبتدائية، أما بالنسبة لي فلم أنهِ عامي الدراسي بنجاح واضطررت إلى إعادة السنة الدراسية، خاصة أن الإمتحانات الرسمية التي كنت أسمع بها للمرة الأولى في حياتي، كانت صعبة جداً.
بعد معاناة بالغة، وبعد بكاء وعذاب نفسي متواصل، استطعت الحصول على شهادة الثانوية العامة ، أو كما يسمونها في لبنان، شهادة البكالوريا، وقد كانت الفرحة في المنزل لا توصف، لأنني وطالبة أخرى نجحنا من بين جميع طلبة الضيعة، أذكر يوم النتيجة بالتفصيل، في ذلك الوقت كانت أرقام الناجحين تبث عبر إذاعة لبنان الرسمية، وبالتسلسل وقد كان رقم بطاقتي 41042 و كان علي الإنتظار حتى البدء بذكر الأرقام الناجحة في محافظة الجنوب، مما يجعلني مضطرة إلى سماع كل البرامج الإذاعية وكل نشرات الأخبار، استمرت معاناتي منذ السابعة صباحا، وحتى الثامنة مساء.. بدأت المذيعة بذكر الأرقام الناجحة، وما إن ذكرت رقم بطاقتي حتى انفجر الجميع بالصراخ والبكاء فرحاً.

هو طعم النجاح الذي يبعث بالقلب نشوة لا يعادلها شيء، هم كبير شعرت أن هذه الشهادة قد أزاحته عن كاهلي، شعور كبير بالاعتداد بالنفس رافقني، لأني استطعت أن أتغلب على كل الصعوبات التعليمية التي واجهتني خلال عامين، بالإضافة إلى تحقيق غايتي بإرضاء والديّ ولن أخفي أنني شعرت بشيء من الغرور…
لكن هماً جديداً قد بدأ، ورحلة طبيعية في كل دول العالم إلا في لبنان، أعني بذلك الدراسة الجامعية، في ذلك الوقت لم تكن الدراسة الجامعية متاحة للجميع، ولم تكن المواصلات متوفرة بسهولة، كوننا من الجنوب اللبناني، فقد كان التلميذ الذي يرغب بمتابعة دراسته الجامعية، أمام خيارين، إما الالتحاق بجامعة خاصة وهو بذلك يستطيع متابعة دراسته بسهولة، ودون التعرض لضغوط الجامعة الوطنية على اختلافها، وهذا يستلزم الكثير من الأموال، وأما أن يختار التلميذ الجامعة اللبنانية (جامعة الفقير) وبذلك يكون قد ارتضى لنفسه أعقد المناهج التعليمية، أصعب الإمتحانات هذا بالإضافة لاحتمالية إضراب الهيئة التعليمية لأسباب مختلفة ومحقة في بعض الأحيان أما مدة الإضراب تبقى في طي المجهول… وفوق كل ذلك، لا يوجد جامعات في منطقة الجنوب سواء خاصة أو رسمية، وبالطبع ونتيجة الظروف، اخترت الخيار الثاني ، ولم أشعر ولو للحظة بالغبن، فقط شعرت أن دولتي تظلمني وتحرم مواطنيها من أبسط حقوقهم، وهو التعليم.
وبالفعل بدأ مشواري الثاني، واستمرت الحياة، وقد بدأنا جميعا بالتأقلم بل وعشق الواقع اللبناني المعقد، ورفضنا رفضاً قاطعاً العودة إلى الكويت فلقد شعرنا بالإنتماء والمواطنة وهذا ما كنا نفتقده، وبعد فترة قرر والدي ترك الكويت والإستقرار في لبنان وبين أهله ومع عائلته، من مبدأ أنه لم يعد يحتمل الغربة، وقد شجعناه جميعاً على ذلك.
في كل تلك الأحداث، لم تغب ريما عن بالي، لم أعد أعرف أي شيء عنها، أين أصبحت!! كنت أتابع أخبار العراق باهتمام بالغ، وأنتظر (محمد سعيد الصحاف) بفارغ الصبر، كنت أصدقه بسذاجة بريئة أن قوات التحالف لن تستطيع إجتياح العراق، وأن أسود الرافدين، سيسحقونهم … تمنيت كثيراً أن يحملني شوقي لريما على جناح السرعة، لأطمئنها أنها ستكون بخير… لكن للأسف، سقط العراق، وشن عليه عدوان بشع، خلف مئات آلاف الشهداء، وملايين الجرحى، للحظة مر في خيالي ، أن تكون قد ذهبت مع من ذهبوا، لكني لم أيأس، طلبت من أحد أقاربي، وكان سوريا أن يسأل عنها في مخيم للفلسطينيين في سوريا، كان يسمى مخيم اليرموك، أعتقدت أنه من الممكن أن تكون قد انتقلت للعيش في سوريا، خاصة وأن أقرباء والدتها كانوا يعيشون هناك، ولكن كل محاولاتي باءت بالفشل.

لا أثر لريما أبداً، في نفس الوقت لم ينقطع تفكيري بها ، هاجس وحيد كان يقلقني، وكنت أطرده من فكري ، كلما مر في خيالي، كنت أخاف أن تكون قد قتلت في حرب العراق ، سنوات مرت ، أحداث قد مرت خلال ذلك الوقت ، سقط نظام صدام حسين في العراق.. وسواء كنت مؤيداً أم معارضا لنظام صدام حسين فإنك لن تستطيع أن تنكر الإهانة التي شعر بها كل مواطن عربي ، من المحيط إلى الخليج صبيحة يوم إعدامه.
تحررت الكويت، ومن قام بتحريرها هم أنفسهم من دفعوا صدام حسين لاحتلالها، تمثيلية سياسية سخيفة ، ضحيتها الشعبان الكويتي، والعراقي، هي السياسة الحمقاء، ومصالح الدول الكبرى مرة أخرى .
إلا أن حدثا تاريخيا، قد غير مجرى تاريخ الصراع العربي – الصهيوني، وأسس لمرحلة جديدة، قلبت المعادلة من ذل وقهر واحتلال، إلى قوة وعنفوان وكرامة، يستحيل التقليل من شأنها.

(يتبع الإثنين القادم)

شاهد أيضاً

الحجة علا حسن بيطار في ذمة الله

إنتقلت إلى رحمة ربها تعالى الحجة علا حسن بيطار والدها المرحوم الحج حسن علي بيطار …