في يوم المسرح العالمي (27 آذار/ مارس)

ننشر هناً نصاً بقلم منسق قسم المسرح ــ سابقاً ــ في كلية التربية علي أحمد يونس الذي يفنّد ما يراه ــ من وجهة نظره ــ مشكلة أبي الفنون في منطقتنا، خصوصاً لبنان

تصعب الكتاب عن المسرح ودوره، في وطن تتوالى فيه الأزمات والنكبات. بدءاً من الإنيهار الاقتصادي إلى ظهور جائحة كورونا والحجر المنزلي إلى إنفجار مرفأ بيروت، وصولاً إلى التدهور في سعر صرف العملة الوطنية، وإنشاء مظاهر الفقر المدقع إلى درجة التقاتل والتدافش على أبسط حقوق الناس في تحصيل قوتها اليومي. إزاء هذا الوضع القلق، والاضطرابات النفسية والجسدية، وحالة الضياع والحيرة والخوف من المستقبل والتظاهرات وقطع الطرقات والاعتداءات هنا وهناك، مَن تراه يولي أهمية للمسرح والفنون الجميلة؟ ومَن مِن مجانين الفن وعروض الفرجة، يستطيع أن يبدع مشهداً مؤثراً أكثر مما هو على أرض الواقع؟!.
بعد في لبنان مجنون فن – فدائي – يرمي نفسه في لهب نيران المسرح، ليدقّ مسامير خشباته وديكوراته ويعلي منصته، ويرفع الصوت مندداً بالفساد، منادياً بالإصلاح وصوت الضمير؟ (مع الإعتذار من الفنان قاسم إسطنبولي وفريقه الذي يحتفل اليوم بالذكرى الثالثة لتأسيس المسرح الوطني اللبناني – المجاني -، في صور في جنوب لبنان). يقول سعد الله ونّوس: «إن مشكلتنا أننا ربطنا أنفسنا بالمفهوم الأكاديمي للمسرح، وقيّدنا حركتنا بقوالبه الجامدة. لقد استوردنا مسرحاً جاهزاً وغرسناه في تربة بلادنا فنبت هجيناً». ويكمل: «كانت لدينا سذاجة الاعتقاد بأنّ الشكل ليس إلا وعاء محايداً ومرناً يمكننا أن نضع فيه المحتوى الذي يتلاءم مع حاجاتنا وقضايانا، وتلك واحدة من الخدع الأكاديمية». وبناءً عليه، فنحن لم نهتدِ بعد إلى مسرحنا الذي يشبهنا.
فقد قلدنا طويلاً شكل المسرح الغربي الذي يعاني سكرات الموت في بلاد المنشأ ذاته، لذلك يجب الإنطلاق من أن هناك مفاهيم ومضامين وأشكالاً متعددة للمسرح، بحيث لا يبقى لدينا عنوان وتعريف عام سوى أنه «ممثل ومتفرج» – قضية ومشكلة. ومن هذه النقطة فإن أشكالاً وقيوداً كثيرة تتكسر وتصبح المسألة الجوهرية، «من هو المتفرج» – الذي نتوجه اليه – ما هي موروثاته؟ ما هي تقاليده؟ ما هي مفاهيمه؟ وما هي حاجاته الحاضرة وما هي قضاياه؟؟ وكيف يمكن أن نتفاعل معه في احتفال حكواتي، أو فرجة، أو سهرة فنية ممتعة في سياق حركة المجتمع نحو التقدم؟!.. وبذلك ننقل التجربة من المجال الذي قلّدناه إلى المجال الحقيقي الذي يجيب على حاجاتنا، نستولده على أيدينا من خلال «المسرح التجريبي» الذي نستطيع أن نهتدي بواسطته إلى خصوصيتنا، ويجيب على حاجاتنا في ميدان الثقافة والإبداع، ويتجاوز التبعية، بحيث يكون مسرحاً عربياً له خصوصيته الفكرية والاجتماعية والسياسية، وفي الأشكال الفنية والاحتفالية والمناسبات الإجتماعية والطقوسية بكل مستوياتها، مع الانفتاح الواعي المستنير على العصر والحداثة.. وسنهتدي بذلك إلى هوية المسرح العربي المتميزة التي تجعل معه احتفالاً اجتماعياً يحقق التفاعل المنشود بين الممثل والمتفرج، والغاية المرجوّة من دور المسرح والفنون عامة، في المجتمع! ولأن أزمة المسرح من أزمة المجتمع وأزمة الحياة المعاصرة، فالثقافة ــ culture أي الحراثة في اللغات الأجنبية – هي عبارة تنمّ عن الرغبة في تخطّي هبات الفطرة… تماماً كما الحراثة في الأرض، فهي لا تكتفي بما تهبه الأرض من ذاتها لذاتها.. بل أننا نحرث التراب ونقلبه لنضاعف من عطائه، فيأتي بنتاج أغزر وأفضل.. فالثقافة ليست هي التراث ولا هي حالة استقرارية، بل هي حالة من التجرّد والتمرّد والإنفتاع والحرية واستيلاد الأبطال والثوار والمفكرين والفلاسفة والفنانين، بل والقديسيين! نعم، الفنانون والقديسون لأن الظاهرة الجميلة قد نشأت أولاً في أحضان المعبد le temple «ففي المعبد ظهرت أقدم الفنون البشرية من خلال فن العمارة، ثم ظهرت الحاجة إلى تزيين جدران المعابد بالنقوش والتماثيل فظهر فن النحت، ثم زينت تلك التماثيل وطُليت بالألوان فظهر فن التصوير، ولمّا كانت طقوس العبادة تستلزم بالضرورة إقامة الإحتفالات الدينية (مسرح)، فقد ظهرت على التعاقب فنون الرقص والتمايل المرنح والموسيقى والغناء والتراتيل.. وكل ذلك بأجواء طقوسية أُصبغت بنوع من القداسة، حتى يومنا هذا. هذه الإحتفالية الجماعية فجرت في وعي المسرحيين كل الأسئلة الجوهرية لتحقيق ما ينشرونه في حركة وعي وتنوير ثقافي واجتماعي، خارج فضاء المعابد، لكي يكونوا هم بالذات أداعة الفعل بتحويل البنية التقليدية الرّاكدة في المعبد، إلى حدث توعوي فاعل في ساحة أخرى ومكان عام آخر، مستندين إلى جرأة المسرح على تحطيم البنية الداخلية لتلك الإحتفالات الطقوسية، مع توفير مناخ ديمقراطي حقيقي يتمتع بكامل الحرية في التعبير واختيار الموضوع!
أين موقع المسرح اليوم؟ أين دوره المرتجى؟ وأين ساحاته في بلادنا؟؟ انه محاصر بالقمع والمنع والتستّر على التناقضات الإجتماعية وجوهر تحركها السياسي.. إنه يتيم الأبوين: فلا معدات تقدم لانعاشه وإحيائه بحريته، ولا قاعات مسرحية تحتضنه.. إنه يتعرض لأقسى ألوان الوحدة والإغتراب، وليس هذا بغريب في غياب الحرية والديمقراطية، وإغتراب المواطن في وطنه!..
أضف إلى ذلك، الإبتعاد عن التفاعل المباشر مع المجتمع، وحتى الأصدقاء والأقارب وأفراد العائلة داخل المنزل بالذات بسبب التقدم التكنولوجي الهائل وإلتصاق كل فرد في أوقات فراغه وراحته بموبايله الذي لا يفارقه، متنقلاً به من تطبيق الى آخر، ومن رابط إلى رابط آخر، ثم إلى منوعات لا تعدّ ولا تحصى… وبذلك يكون إنسان اليوم، بطبيعته، بعيداً عن قاعة المسرح وعروضه الحيّة المباشرة، فليس هو بالمتفرج ولا بالشخص المتجاوب مع طروحات ومناقشات فكرية رفيعة لأحداث وأوضاع بلده، وخاصة في ظروف أمنية وصحية واقتصادية صعبة بل خطرة كما أسلفنا، ولا بد من التذكير ببعض العوامل الاخرى الأساسية، التي أسهمت كثيراً في إعاقة الحركة المسرحية الجادة، ونذكر منها:
1 – إن المسرح بشكل عام، والمسرح التربوي بشكل خاص، لم يذرع في نفوس الأجيال الجديدة خلال مراحل التعليم بكافة مستوياته.
2 – إن معظم العاملين في الحقل المسرحي، استهدفوا «المهنة» ولم يستهدفوا «الرسالة». فالمسرح كما يقول رواده: «ما بطعمي خبز».
3 – إن فن الدراما يحدّ ذاته يعرف بأنه «فن الصراع»، الصراع مع آغات المجتمع وخزعبلات السياسة، يلزمه جو من الحرية والديمقراطية غير متوافر في المجتمع العربي. فالعقل الدرامي يفهم أن الصراع هو سمة الوجود، والتقدم وليد هذا الصراع بين الاضداد، ذلك هو الديالكتيك النّقي الذي يكشف عنه، ويشكله، ويشكل به العقل الدرامي.. فالعلاقة بين فن الدراما والحرية، علاقة تلازم. والفنون الجميلة تشبع فينا حاسة الحرية، والعقّاد (عباس محمود) جعل من الجمال والحرية شيئاً واحداً.. إذ ربط الفن بالحياة عبر وسيط أساسي هو الحرية التي هي أغلى ما فيه الحياة، ومنصة المسرح هي المعادل الفني للبرلمان السياسي.. حيث حلبة المصارعة مصارعة ليست مادية بين إنسان وثور.. إنما هي مصارعة بين الخير والشر بين الأفكار والقيم الإنسانية النبية، مقابل الظلم والإستبداد والفساد.. كل ذلك في قالب تمثيلي حواري، يتقمص القضايا الانسانية الكبرى لتعبّر عن رحلة الإنسان عبر الحق والباطل، والشكل واليقين، والمتغيّر والقدر، والحياة والموت!

شاهد أيضاً

“دولة المُغتربين”… هل يتحقَّق الوعد؟

مُغتربون أكبر من الدّولة. عبارةٌ تُترجم بالفعل والأرقام أيضاً. فمُساهمة المُغتربين اللبنانيّين بإنقاذ وطنهم على …