عبداتي بوشعاب

المسلسل التلفزيوني “أولاد الحلال”

قفزة على الأنماط الدرامية السائدة في الجزائر والبلدان المغاربية…

بإخراج تونسي وأداء جزائري بمشاركة مغربية شرفية، تقدم الدراما الجزائرية مسلسلاً تلفزيونياً اجتماعياً واقعياً فريداً، لا شك أنه سيشكل طفرةً فنية جديدة على عدّة مستويات فنية؛ من حيث الإخراج والسيناريو وتوظيف الشخصيات… عمل سيُسهم دون شك في الرفع من الأداء الفني للأعمال التلفزيونية المغاربية المقبلة، فالجمهور لن يرضى بجودة أقل مستقبلاً، بعد أن شاهد مسلسلاً مختلفاً تماماً عن السائد مغاربياً.

المسلسل يأتي في ثمانٍ وعشرين حلقة، عُرض لأول مرة في ماي 2019، على التلفزيون الجزائري. كتبته السيناريست “رفيقة بوجدي” وأخرجه “نصر الدين السهيلي” وأنتجته مؤسسة «إم سي سي 8».

في حيّ «الباهية» بمدينة وهران العريقة، يجد البطل الشاب “مرزاق” -الذي يؤدي دوره الممثل “عبد القادر جريو”- نفسَه وأخاه “زينو” مُرغمَين على البحث عن أخيهما وأختهما الضائعين تنفيذا لوصية أمِّهِما، التي أوصت “مرزاق” قبل رحيلها عن الحياة، أن لا يترك إخوته بعيدين عنه، وأن يحرص عليهم ويهتم بهم، فهو الأكبر والابن البِكر الذي عولت عليه. وقد نجح الأخوانفي مهمتهما بالعثور على أخيهما “إلياس” كما اطمأنّا على أختِهما التي وجدوها ميسورة الحال ومتزوجة وذات عيالٍ.

السيناريو منذ الحلقة الأولى يضع المتلقي في حيرة، يُشوّقه لمعرفة ماذا حدث لهذه العائلةǃ التي تشتت وانتهى أمرها نهايةً محزنة. وما الذي أنهى زواج الأبوين تلك النهاية المأساوية؟

إنه الشك…ǃ الذي إذا دخل بيتًا هدم أركانه وجعل الحياة فيه بئيسة؛ فرب هذه الأسرة المهزوز نفسيا لأسباب شخصية، ساورته شكوكٌ تجاه تصرفات زوجته؛ شكوكٌ تحولت إلى وساوس اعتقد بسببها أنها تخونهǃوالحقيقة أن المسكينةَ كانت تخرج لتعمل في بيوت العائلات الميسورة حتى تؤمن معيشة أولادها. هو يُعاقر الخمر ويُدمن السهر خارج البيت، ويعنف هذه الزوجة التي تمثل فئة كبيرة من النساء المضطهدات في مجتمعات ذُكورية متخلّفة. أما هو فيمثل فئة المعتوهين الذين لا تعنيهم منظومة القيم الاجتماعية ولا الدينية، حيث سيؤدي به جهله إلى ارتكاب جريمة في حق زوجته وأولاده ونفسه أيضا. فبقتلها سيُيَتم الأولاد الذين ستأخذهم جدتهم الى الملجأ، بينما سيقضي ما تبقى من حياته في السجن قبل أن يخرج في عفوٍ بمناسبة عيد ٍوطني. 

يذهب بنا المخرج في الاستهلال إلى التعرف على سكان الباهية، كمثال لمجتمع شعبي من مجتمعات الأحياء الفقيرة، أين تنتشر مظاهر العشوائية في السكن والتجارة، إضافة إلى انتشار السرقة والعنف والسحر أيضا، ضمن منظومة معيشية وقيمية مألوفة في مثل هذه المناطق الهامشية بالمدن الكبرى.

داخل هذا الفضاء البشري سيندمج الشقيقان “مرزاق” و”زينو” مع أهل الحيِّ في حياتهم اليومية. إنهما الشابان اللذان يقدمان العون لكل من يلجأ إليهما، فضلا عن كونهما يتميزان بقريحة تتسم بالطيبة والشجاعة والإحسان، صفاتٌ وأفعال تجعلهما محبوبيْن من لدن سكان الحي؛ كتدخل “مرزاق” ضد البلطجي “توفيق” الذي تعوّد على أخذ السندويتشات من “زليخة” دون أن يدفع ثمنها. وتخليص “زينو” إحدى فتيات الحي وهي “ناريمان” من يد بلطجي آخر اعترض سبيلها ليلا وأراد الاعتداء عليها. ثم استعادتهما “ربيع” الولد الصغير ابن الجيران، من يد خاطفه اللعين “توفيق”. وغير ذلك من أفعال الخير التي قاما بها.

ويكشف المسلسل عن اعتقاد سيء عند فئة من المجتمع، وهو التعاطي للسحر الذي يَعتقد البعض أنه يحل المشكلات الشخصية والعائلية وخلافها، فــ “مليكة” زوجة “خالد” تقصد العرافات طالبةً مساعدتهن في إيجاد طريقة تسيطر بها على زوجها، الرجل الذي اغتنى بالمتاجرة في الممنوعات، غادر وهران ليستقر في العاصمة الجزائر، ولكنّ مصالحه في الباهية جعلته على ارتباط دائم بها، وخاصة مع “علي” ذراعه فيها ومروج ممنوعاته، إضافة إلى كونه زوج أخته “سلِيمة” التي بدورها تؤمن مخطئةً أن الشعوذة تقضي الحاجات وتغير الأقدار، غير أن المسلسل في هذه المسألة بالذات يرسل رسالة مضمونها: أن السحر ينقلب على الساحر.

تستمر الأحداث في التصاعد بمجيء شخصيات جديدة كأب الشقيقين، الذي ظهر ليطلب الصفح والسماح من أولاده لأنه أخيرا عرف حقيقة زوجته العفيفة التي قتلها ظُلما. فضلا عن ظهور “يوسف” تاجر المخدرات (الزطلة) باللهجة الجزائرية، ومنافس “خالد” الذي كان قد رغب في استقطاب الأخوين ليعملا معه لكنهما رفضا ذلك، سيّما وأنهما يقومان بالاحتيال على اللصوص الكبار ومختلسي المال العام. ويظهر أيضا “مرداسي” أحد أعيان القوم في العاصمة، الرجل الغني جدّا والمتورط في أعمال ممنوعة كغسيل الأموال، مع عصابة دولية من أفرادها “دنيا” وزوجها اللذان قام بدوريهما “فاتي جمالي” و”سعيد باي” من المغرب.

بالموازاة مع ذلك يتعرف “مرزاق” على الفتاة “داليا” الطبيبة النفسانية التي ستساعد “ربيع” -الذي تعرض للاختطاف- في تخطي صدمته النفسية وإعادته إلى حياته الطبيعية تدريجيا.

تتسرب مشاعر عاطفية رويدا رويدا لقلب “مرزاق”، وهو الرجل الذي لا وقت لديه للحب أو المشاعر، لأن هدفه من وجوده في الباهية هو البحث عن إخوته ولمّ شملهم. غير أنّ بساطة “داليا” وطيبتها دفعاه إلى الاهتمام بها والتعرف على عائلتها، في رسالة من كاتبةِ المسلسل معناها: أن العلاقات ينبغي أن تتأسس على الصدق والوضوح والاقتناع بشخصية الطرف الآخر، قبل النظر إلى مؤهلاته المادية أو الاجتماعية.

«أولاد الحلال» عمل درامي تلفزيوني ممتع ومفيد وغير مسبوق في الدراما الجزائرية، بعيدٌ كل البعد عن التكرار والابتذال. تجربةٌ فنية جديدة ومكتملة تؤسس لا محالة لنمط درامي تلفزيوني متطور ومُغاير لكل ما سبق. تجربة ٌينتظر الجمهور جزءها الثاني، لأن انتهاء المسلسل في الحلقة الثامنة والعشرين، بمشهد إطلاق النار على “مرزاق” في مرآب السيارات من قِبل رجال “مرداسي”، يمهِّد موضوعيا لجزءٍ ثانٍ سوف يكون أكثر إثارة وإبهارا وإمتاعا.

عبداتي بوشعاب

كلية اللغات والآداب والفنون

جامعة ابن طفيل – المغرب

شاهد أيضاً

هذه هي نعمت شفيق أرادت خدمة الكيان

‏هذه هي نعمت شفيق أرادت خدمة الكيان فتسببت في مظاهرات 57 جامعة أمريكية ضد إسرائيل …