ظاهرة القوى الإقليمية في الشرق الأوسط

السفير الدكتور جان معكرون

تشهد الساحة الإقليمية في الشرق الأوسط انحساراً لدور الدول العظمى لا سيما الولايات المتحدة والاتحاد الروسي وذلك لصالح دول إقليمية مثل تركيا وقطر وإيران. كما تشهد أيضاً تراجعاً لدور الأمم المتحدة والجامعة العربية في حلّ أو تسوية أو تهدئة الأزمات السياسية في الشرق الأوسط. ونتج عن هذا الواقع بروز دول إقليمية لم تكتفِ فقط بالتدخّل من أجل المساعدة على تسوية بعض النزاعات في المنطقة بل سعت أيضاً إلى لعب دورٍ سياسي كبير والتوسّع في بسْط نفوذها.

وفي هذا السياق، نذكر كيف أنّ تركيا رعت المفاوضات بين سوريا وإسرائيل خلال العامين 2007-2008 ثمّ توسَّع دورها السياسي والعسكري في شمال سوريا وليبيا إضافةً إلى تأثيرها الواضح في النزاع الأذري-الأرميني حول ناغورنو كاراباخ العام الماضي ولا ننسى تهديدها المتواصل لدول الاتحاد الأوروبي بإطلاق موجات هجرة اللاجئين والنازحين السوريّين إليها.

كما رأينا كيف أنّ قطر قد لعبت دوراً في حلّ الأزمة اللبنانية في العام 2008 حيث تمكّنت من تحقيق اتفاقٍ وطني أدّى إلى انتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية اللبنانية. وتعاظم أيضاً دور قطر ليشمل دارفور حيث جمعت في العام 2009 طرفَي النزاع في إطار اتفاقٍ حسنِ النوايا بين حكومة الوحدة الوطنية في السودان ووفد من حركة العدل والمساواة السودانية. ولا نبالغ من جهة أخرى إذا تحدّثنا عن دورٍ كبير لجمهورية إيران في الشرق الأوسط.

وهكذا، يتحصّل لنا أنّ هناك رعاةً إقليميين يلعبون في منطقة الشرق الأوسط ومحيطها دور الوسيط القويّ والنافذ في حلّ الأزمات السياسية، لا بل إنّ بعض هذه الدول الإقليمية توسّعت في نفوذها وأصبحت قوّة ضاربة يُحسب لها حساب، وذلك بفضل قوّتها العسكرية والاقتصادية أو بتكليف وقبول ضمني من قبل دولٍ عظمى. وبذلك، تكون هذه الدول الإقليمية بمثابة قوى بديلة للدول الكبرى وحلّت محلّها في فرض حلول للأزمات الإقليمية وكذلك محلّ المنظمات الدولية والإقليمية في السعي إلى تسويات ترضي الطرفين.

نسوقُ في ما يلي نبذة عن هذه الدول الإقليمية وظروف تصاعد دورها السياسي:- تركيا: دولة كبرى تملك جيشاً قويًّا وإمكانات مادية هائلة. لها تراث في العلمانية من دون أن ينتقص ذلك من انتمائها الديني. وهي مرتبطة بعلاقات قويّة ليس فقط مع أوروبا بفعل موقعها الجغرافي ومصالحها الاقتصادية والعسكرية بل أيضاً مع الولايات المتحدة بفعل عضويتها في حلف الناتو. كما أنّ محيطها الجغرافي وخلفيتها الدينية وأوضاعها العسكرية والاقتصادية قد أكسبتها مكانة مميّزة وأهّلتها لأن تلعب دوراً فاعلاً في سوريا وفلسطين، هذا فضلاً عن علاقاتها القويّة مع إسرائيل. ولا شكّ أنّ قوّة شخصية الحكّام الأتراك قد أضافت قيمة معنوية غير مسبوقة إلى الشعب التركي. ولقد نجح الرئيس أردوغان خلال فترة عشرين سنة أن يعزلَ ويستبعد جميع أخصامه السياسيين ونقصد بهم الجيش الكمالي والبيروقراطية المدنية وبارونات الإعلام القديمة ونخب رجال الأعمال العلمانيين وأخيراً أنصار غولن.- قطر: دولة غنيّة تلعب دوراً اقتصادياً ومالياً كبيراً ليس فقط في منطقة الخليج بل أيضاً في الشرق الأوسط عامةً. إنّ تمايز قطر في الموقف والقرار السياسي عن المملكة العربية السعودية قد أهّلها لكي تلعب دور الوسيط القوي والفاعل بين الدول المتنازعة في المنطقة. كما أنّ علاقاتها الخاصة مع الولايات المتحدة قد أكسبها رصيداً لا بأس به، علماً أنّ صداقاتها مع الأطراف المناهضة للسياسة الأميركية قد أعطتها نفوذاً كبيراً. إنّ هذه العوامل كلها قد ساهمت في تعزيز دور قطر كوسيط قادر على إيجاد تسويات ترضي جميع الأطراف. ومن جهة أخرى، علينا ألاّ ننسى انفتاحها القديم على إسرائيل من زاوية التعاون الاقتصادي في العام 1996. واللافت للانتباه أنّ القاسم المشترك  بين تركيا وقطر هو قوّتهما السياسية، فقطر القوية بمواردها المالية والاقتصادية، وتركيا القويّة باقتصادها ومكانتها العسكرية إضافةً إلى تمايز كلٍّ منهما بفرادة شخصية الحكّام قد جعل من هاتين الدولتين رقمين صعبين خاصةً عند تفرّد كل منهما في التدخّل في النزاعات الإقليمية سواء كانت عربية-عربية أم عربية-إسرائيلية أم عربية-فارسية علماً أن الدولتينكلتيهما قد أسّستا علاقات جيّدة مع إيران. 

لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ قطر قد أتقنت فنّ سياسة التوفيق بين التناقضات، وأذكر تماماً أنه عندما زار أمير قطر حمد خليفة الثاني الولايات المتحدة في العام 2008 والتقى بالرئيس جورج بوش، انتقل مباشرةً إلى كوبا والتقى بالرئيس الكوبي راوول كاسترو وبقائد الثورة الكوبية فيدال كاسترو. 

وهكذا، يتجلّى لنا أنّ دولاً إقليمية في الشرق الأوسط أصبحت لاعباً سياسيًّا أساسيًّا لناحية ضبط إيقاع الأزمات الإقليمية وتهدئتها لكنّ بعض هذه الدول لم تكتفِ فقط بهذا الدور الوفاقي بل استثمرت فائض قوّتها لكي تلعب دور المبادر والمقرّر من تلقاء ذاتها وفقاً لمصالحها، وبعبارة أخرى، يمكن القول إنها أصبحت بمثابة دولٍ عظمى ولكن على المستوى الإقليمي وينطبق هذا الوصف على كلٍ من تركيا وإيران. ولكن نلاحظ من جهة أخرى كيف تضاءل دور المنظمات الدولية والإقليمية في تخفيف التوتر الناتج عن الأزمات السياسية والنزاعات العسكرية، علماً أنّ أهدافها ومواثيقها تجيز لها التدخّل السلمي كطرفٍ ثالث. ونذكر على سبيل المثال المواد 34 و39 و40 و41 من ميثاق الأمم المتحدة والتي جاءت عامة ومطّاطة ومرنة لجهة إتاحة تدخّلها السلمي والحدّ من التوتر قبل أن يؤدي إلى الحرب. وفي هذا السياق، نشير كيف أنّ الاتحاد الروسي قد تدخّل وحلّ مشكلة ناغورنو كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان، في وقتٍ اكتفت فيه الأمم المتحدة بالدعوة إلى ضبط النفس ووقف إطلاق النار. علماً أنّ روسيا وقبل أن تحلّ هذه الأزمة في العام 2020 كانت قد تدخّلت مراراً لفرض إطلاق النار بين الطرفين في العام 2016 و1994. والواضح أنّ لروسيا مصلحة أكيدة في إنهاء هذه المشكلة لأنها دارت في عُقر دارها ومنطقة نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري ولأنّ الدولتين كانتا جزءًا من الاتحاد السوفياتي سابقاً.

وباستثناء الدور الروسي المباشر في حلّ النزاع العسكري في ناغورنو كاراباخ، فالحق يُقال أنه كلما تضاءل دور الدول العظمى في حلّ النزاعات الدولية والإقليمية، تصاعد دور الدول الإقليمية القويّة الكائنة في منطقة النزاع أو محيطه.

ومن هذه الدول القوية نذكر إيران حيث نتساءل عن مكانتها وأهميتها في هذا الإطار الدولي والإقليمي. 

إنّ المراقب لمواقف إيران السياسية ودورها الإقليمي يخرج بانطباع أنها ليست دولة عظمى كما أنها ليست من فئة الدول التابعة للدول العظمى والتي تلعب دور الوسيط في حلّ الأزمات الإقليمية، بل هي دولة قوية تمتاز بالفرادة. أو يمكن القول إنها شبيهة بالدول العظمى بسبب امتدادها الإيديولوجي وتأثيرها السياسي في الشرق الأوسط وقوّتها العسكرية وعلى الأخص النووية. ويكفي أن نتأمل في المفاوضات التي جرت بشأن الاتفاق النووي لكي نرى كيف جلس مندوب إيران بمفرده مقابل مندوبي خمس دول أوروبية وعظمى يفاوضونه بشأن امتلاك إيران السلاح النووي حتّى نتأكّد من أنّ مكانة إيران السياسية تتخطّى مكانة بقية الدول الإقليمية في الشرق الأوسط ومحيطه. وللدلالة على مكانة إيران  الدولية، رأينا من المفيد إلقاء الضوء على طبيعة قيادتها السياسية ومصادر قوّتها الداخلية، ولقد شرح لنا أستاذ العلاقات الدولية في أوتاوا Peter Jones في مقالته Succession and the Supreme Leader in IRAN كيف أنّ أربع قوى رئيسية تتنافس في إيران وهي التالية:- المحافظون التقليديون: Traditional Conservatives هم الداعون بقوة لرؤية آية الله الخميني والمعارضون للإصلاح. ينظرون بحذرٍ شديد إلى الانفتاح والتقارب مع الغرب. يتزعّم هذه الفئة المرشد الأعلى للجمهورية.- أنصار المعتقد الأساسي: Principalists هم فئة جديدة برزت كردّة فعل على حكومة الإصلاح في العام 1990. من أهم أعضائها أحمدي نجاد وعلي لاريجاني. تتمسّك هذه الفئة بتعاليم الخميني وهي حذرة جدًّا من الليبرالية السياسية والاجتماعية. ظاهرياً، تتّفق إلى حدٍّ ما في بعض النقاط المشتركة مع المحافظين التقليديين، لكنّ خطّتها الاقتصادية تختلف خاصةً لجهة مطالبتها باستعادة الثروات من الأغنياء الجدد.- الإصلاحيون: Reformists هم مزيج من بعض رجال الدين ذوي الرؤية الإصلاحية إضافةً إلى التكنوقراط الرسميين. تدعو هذه الفئة إلى سياسة اجتماعية أقلّ قساوةً وإلى ليبرالية اقتصادية أكبر، كما تحبّذ حياة اجتماعية مدنية فاعلة، إضافةً إلى سياسة خارجية أقلّ تصادميّة ويتزعّم هذه الفئة الرئيس السابق محمد خاتمي.- المحافظون الواقعيون: Pragmatic Conservatives هم أقرب إلى التسامح في شأن الإصلاح المحدود في الإطار الاقتصادي وفي السياسة الخارجية مثل التقارب الحذر من الغرب بهدف تسهيل تنمية إيران. في المبدأ، هم محافظون بالنسبة إلى الليبرالية السياسية لكنّ موقفهم ملتبس Ambivalent بالنسبة للإصلاح الاجتماعي. رفسنجاني هو القائد الأول لهذه الفئة. 

إضافةً إلى هذه الفئات الأربع الرئيسة في الحياة السياسية الإيرانية، أشار الكاتب Jonesإلى وجود هيئتين تلعبان دوراً هامًّا وهما The Bonyads والحرس الثوري.- The Bonyads: تعني هذه الفئة المنظمات الخيريّة المعفاة من الضريبة ويترأّسها رجال دين معيّنون إجمالاً من قبل المرشد الأعلى، وهي ترعى العديد من الأعمال مثل شركات الطيران إضافةً إلى أنها تملك ملكيات كبيرة وأنها تراقب 60% من الاقتصاد الإيراني وكذلك القطاع الصناعي.- الحرس الثوري: هو الجهاز الموازي للجيش النظامي ويلعب دوراً رائداً في الدفاع عن ولاية الفقيه ويقدّم تقاريره مباشرةً إلى المرشد الأعلى. ويسيطر هذا الجهاز على قطاع البناء والنقل والصناعة الغذائية وقطاع الطاقة والدفاع والصناعة النوويّة.

نشير أخيراً إلى أنّ بعض الدراسات المتعلقة باستراتيجية إيران العسكرية توصّلت إلى الاستنتاج القائل بأنّ إيران دولة دفاعية وليست هجومية وأنّ هدفها الأساسي هو إحباط مخطّطات العدوّ، والمثل الذي يدلّ على هذا الواقع هو الحرب العراقية الإيرانية في العام 1980 والتي بدأت بهجومٍ عراقي.

وبناءً على هذا الاستنتاج وفي السياق ذاته، رأينا الباحث Shahram Chubin الذي ترأّس سابقاً Geneva Centre for Security Policyيستخلص أنّ إيران لا تعتمد على قوّتها العسكرية لفعل ما هو أكثر بكثير من الحفاظ على النظام محليًّا.

“IRAN is not relying on military power to do much more than sustain the regime domestically”.

ختاماً وفي خضمّ هذا الصراع بين الدول الكبرى على التوسّع في نفوذها والتنافس بين الدول أو القوى الإقليمية الطامحة إلى اقتناص مكانة ودور الدول العظمى، فإنّ الضحية الأولى كانت وما تزال الدول الصغرى. وإنّ تاريخ البشرية علّمنا أنّ الإنسان كان وما يزال ذئباً لأخيه الإنسان وهو الخاسر الأكبر لأنه لم يتعلّم شيئاً من التاريخ. ونورد في ما يلي مقولة المؤرخ الروسي Vasily Klyuchevsky التي تفسّر جيداً واقع الإنسانية المؤلم.

“History does not teach anybody anything – It just punishes for not learning its lessons”. أي أنّ التاريخ لا يعلّم أي شخص أي شيء – يُعاقبه فقط لعدم تعلّم دروسهِ”.

2

شاهد أيضاً

تكتل “التوافق الوطني” التقي فرونتيسكا في دارة كرامي

التقى اعضاء تكتل “التوافق الوطني” النواب فيصل كرامي، عدنان طرابلسي، محمد يحي ،حسن مراد، وطه …