بيوت الله في بيروت مسجد “الأوزاعي” حيث مقام إمام بلاد الشام والعيش المشترك

 
زياد سامي عيتاني

على ساحل الجهة الجنوبية – الغربية من مدينة بيروت، تقع المنطقة التي كانت تعرف قديما بـ “قرية حنتوس”. وهي نفسها التي تسمى في أيامنا محلة “الأوزاعي”، نسبة للإمام المجتهد عبد الرحمن الأوزاعي، الذي دفن فيها عند وفاته سنة 157 في العهد العباسي، ليكون أول من يضمه ترابها.

****

بالرغم من أن الإمام الأوزاعي قد نزل باطن بيروت وأقام في الزاوية المسماة بإسمه على مدخل “سوق الطويلة” وأدركه الأجل المحتوم، فإن جميع المؤرخين يجمعون على أنه دفن في “قرية حنتوس”، أي محلة “الأوزاعي” اليوم، التي زالت كل معالمها القديمة ولم يبق منها سوى ضريح الإمام الذي تحول إلى مقام والجامع الملاصق له، المعروف بإسم “مسجد الإمام الأوزاعي”.
ويشير عقبة بن علقمة وهو من مريدي الأوزاعي الذين تتلمذوا على يديه ورووا عنه الحديث: “أنه دفن خارجاً منها… أي بيروت – على شاطىء البحر في الصنوبر بأرض قرية يقال أنها حنتوس”.
ومنذ ذلك الحين، صار المكان الذي دفن فيه الإمام يعرف عند عامة الناس بإسم “مقام الأوزاعي”.
ومع مرور الزمن بدأ أعيان المدينة يوصون بدفنهم في جوار الأوزاعي في تربته بعد وفاتهم، طامعين من وراء ذلك بالحصول على بركته وشفاعته، حتى تكاثر عدد المدفونين في جوار الضريح، ليطلق على المكان إسم “مقبرة الأوزاعي” المجاورة لمقامه.

 

****

أما عن سبب إختيار تراب “قرية حنتوس” خارج بيروت لدفن الإمام الأوزاعي، فيفسره بعض الظانين بأنمه يرجع لرغبة أهل زمانه بأن تكون رفاته مستريحة في ظلال الصنوبر الذي كانت غابته يومئذ ممتدة حتى تلك القرية، فآثروا إمامهم بها من دون سائر أبناء زمانه من الناس العاديين.
فالقاضي شمس الدين إبن خلكان المتوفي سنة 681 ه يشير في كتابه الموسوعي “وفيات الأعيان وأبناء الزمان” في سياق حديثه عن الأوزاعي: … “وقبره في قرية على باب بيروت يقال لها حنتوس، وأهلها مسلمون، وهو مدفون في قبلة المسجد، وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون: ها هنا رجل صالح ينزل عليه النور، ولا يعرفه إلا الخواص من الناس”…
يستفاد من كلام إبن خلكان عن وجود جامع في “قرية حنتوس” عهده قديم، ويمكن إعتباره موجوداً منذ القرن الثاني للهجرة، أي في أوائل العهد العباسي، وتحديداً أيام الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور المتوفي سنة 158 ه.

****

على الرغم من عدم وجود أي كتابة منقوشة في هذا الجامع تدل على إسم بانيه وتاريخ بنائه، فإن وجود ضريح الأوزاعي فيه، يؤكد أنه كان موجوداً في سنة 157ه، علماً أن بعض المصادر التاريخية ترجح بناءه قبل وفاة الإمام، حيث أن المغاربة المرابطين في سبيل الله الذين قدموا من الأندلس وسكنوا في “قرية حنتوس” هم من بنى هذا المسجد، جرياً على العادة المتبعة عند المسلمين لدى فتحهم للمدن.
****
ويمكن الجزم بأن “جامع الإمام الأوزاعي”، الذي هو من المزارات الشريفة التي يقصدها المسلمون ليتباركوا بمقامه ويقدمون له الهبات والأوقاف والنذور، هو أقدم الجوامع في بيروت، وهو ما يزال قائماً في مكانه القديم منذ حوالي أربعة عشر قرناً من الزمن، محتفظاً بما يقارب الشكل الذي كان عليه يوم بنائه، ما عدا الترميمات والإصلاحات التي أدخلت عليه.

****

يرجع تاريخ بناء مسجد “الأوزاعي” إلى أوائل العهد العباسي، أي إلى القرن الثامن ميلادي، بقي محتفظاً بالشكل المعماري الذي بني على أساسه، دون ان يشمله أي تغيير، كما بقي حاضناً خلف جدرانه الجنوبية ضريح الإمام عبد الرحمن الأوزاعي.
لذلك صنف منذ العام 1962 مبنياً أثرياً بموجب مرسوم حكومي.
****
ومسجد ومقام “الأوزاعي” قبل أن يلحق به الجامع الجديد المجاور له، كان يعتبر صغيراً في حجمه، مقارنة مع مساجد باطن بيروت، وربما سبب ذلك يعود إلى وجوده في “قرية حنتوس” خارج المدينة.

****

فمسجد “الأوزاعي” له رواق مستطيل، جدرانه معقودة من الحجر غير منتظم المقاسات، جزؤه الشرقي مغطى بقبو وأرضيته ترتفع عن أرضية الفراغ بثلاث درجات، أما الجزء الغربي منه فهو مغطى بقبة تقوم على أركان مثلثة.
وفي الجهة الجنوبية للمسجد على الحائط القبلي يوجد المحراب بشكل حنية معقودة بعقد مدبب وهو مجوف تعلوه رخامة أمر بوضعها سنة 1902 في مكانها الحالي حسين حشميت أفندي محاسبجي جبل لبنان وكتبها الشيخ عمر البربير البيروتي، حيث جاء فيها:
“هذا مقام إمام أهل الشام المجتهد المطلق أي عمرو عبد الرحمن إبن عمر محمد الأوزاعي، ولد في بعلبك سنة ثمان وثمانين للهجرة وسكن ببيروت وتوفي بها ودفن في قبلة هذا المصلى، الذي كان مسجداً لقرية حنتوس العامرة وقتئذ على باب بيروت”…
وخلف الجدار القبلي للمسجد غرفة يقع ضمن بنائها قبر الإمام الأوزاعي الذي أحيط بقفص خشبي مزخرف، وهو مبني بالرخام الأبيض وفوقه شارات من الحرير الأخضر، وعلى جانبي الضريح شاهدان كتب على الشاهد الغربي عام 1845 النص التالي:
“بسم الله الرحمن الرحيم”. هذا ضريح إمام العلم أوزاعي، فيه أجاب بطوع دعوة الداعي، بشرى لزائره حاجاته قضيت، ونال ذو السقم منه برء أوجاع، وعام سبع وخمسين ومائة توفي غير مرتاع، فاقصده يا طالب الخيرات إن له بكل ما تبغيه طول الباع، عليه رحمة ربي ما بدا قمر، أو طاف بالبيت عبد أو سعى ساعي.
يذكر في هذا السياق أن محمد إبن الأوزاعي قد دفن في نفس قبر أبيه، وكان من الأشخاص المشهود لهم بالتقوى والصلاح.

****

وعلى يسار مدخل “مسجد الأوزاعي” صالة مستطيلة ترتفع أرضيتها عن أرضية المدخل بدرجة واحدة، وعلى جهتها الشرقية باب يؤدي إلى مقبرة صغيرة دفن فيها عدد من أعيان المسلمين.
وعلى الركن الشمالي الشرقي للجامع بنيت مئذنة حديثة تبرع بنفقات تشييدها عام 1939 مصطفى إبن الشيخ محمد رضمان. ويبلغ إرتفاعها فوق سطح المبنى 18 متراً، والجزء السفلي من سطح المبنى إلى الشرفة يبلغ 12,5 متراً، وهو ذو مسقط دائري به فتحات صغيرة للإنارة وينتهي بشرفة دائرية، تنتهي بمخروط.
وللدلالة على تاريخ إنشاء المئذنة علقت على الباب الخارجي للمسجد لوحة رخامية كتبت عليها الأبيات التالية:
لله مئذنة أقام بناءها صافي السريرة طاهر الوجدان
هو مصطفى رمضان سامي المجد من شكرت مآثره بكل لسان
لا بدع فهو سليل سادات لهم فضل بفعل الخير والإنسان
يا رب أجزل أجرهم واغفر لهم أرخته ولمصطفى رمضان

****

والمبنى الحالي لـ “مسجد الأوزاعي” بات يتكون من جزئين: الأول هو المبنى القديم، والثاني فهو المبنى الحديث الذي أنشىء عام 1954 على الجهة الشرقية للمسجد القديم على العقارات الموقوفة للإمام بجهد ورعاية من “مؤسسة الخدمات الإجتماعية” ومسعى من رئيسها صاحب الأيادي البيضاء الدكتور محمد خالد رحمه الله، ليصبح المبنى الجديد ملحقاً بـ “جامع ومقام الأوزاعي” وحاملاً لإسمه، وذلك لجعل سعته قادرة على إستقطاب الوافدين إليه للتبرك بمقامه الشريف.
****

شاهد أيضاً

سلسلة ثقافة الأدب الشعبي وثيقة إحياء الأصالة عن تراث (ج /٣٣)

الباحث الثقافي وليد الدبس الأدب الشعبي و صفر دائرة الثقاقة السياسية _ تعتبر الثقافة صفر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *