الرسول سرّ المستقبل*


*
✒️ السيد محمد حسين فضل الله.

عندما نعيش مع ذكرى مولده وهو سرّ المستقبل كلّه.. هذا المستقبل الذي نسعى إليه ونعمل له، ونريد له أن يكون مستقبل الإسلام :الإسلام الفكر والعاطفة والحياة… بحيث ينفتح على الإنسان كلّه وعلى الحياة كلّها. لأن مشكلة الإسلام في ما مضى أن بعض الذين حملوه حبسوه في زنزانة تخلّفهم الفكريّ، وحاصروه بكلّ ألوان الفهم المنغلق السيء حتّى شعر الكثير من الناس من مسلمين وغير مسلمين أنّه لا يلبّي طموحاتهم ولا يحلّ مشاكلهم ولا يرتفع بهم إلى الآفاق الكبيرة في الحياة. في الوقت الذي كان الناس الذين ينحرفون عن خط الإسلام يعملون ويبدعون ويخترعون ويدفعون إلى الحياة وفي كلّ يوم نظريةً جديدة، واكتشافاً جديداً. لذلك كانت المعركة ولا تزال هي معركة الماضي والمستقبل.
جماعة الحياة:
ونحن عندما نذكر الماضي فنحن نعرف أنّ هناك الشمس المشرقة التي انطلقت من خلال رسول الله(ص) والأئمة الأطهار من أهل بيته وكلّ حشد صحابته والمجاهدين معه ولكنّ رسول الله(ص) والأئمة الطاهرين الطيبين من أهل بيته ليسوا جماعة الماضي إنهم جماعة الحياة، لأنّهم جماعة الحقيقة، والحقيقة لا زمن لها، فهي التي وُلدت من الحياة وتبقى مع الحياة تبدع في كلّ يوم وكلّ مرحلة جديدة وإبداعاً جديداً. لكننا نقول إن هذا الماضي الذي عشّش التخلّف في فكره والذي ضاقت آفاقه فعاشت في الزوايا المظلمة، حيث هناك صراع بين جيل الماضي الذي يحاول أن يختنق في حرفيّة الكلمات ويحاول أن يبتعد عن كلّ الآفاق الواسعة وجيل المستقبل الذي يريد أن يصنع المستقبل على صورة الإسلام وأن يحّرك الإسلام من أجل أن يخاطب العصر بلغته وأن يحلّ مشاكل العصر. وأن يخاطب الإنسان المعاصر في كلّ قضاياه. وأن يكون له في كلّ طرح جديد فكرة جديدة.. وأن يكون له في كلّ حركة من حركات الحريّة والعدالة موقع جديد ومنطلق جديد.
مسؤولية الإنتظار:
إنّ مسؤوليتنا، ونحن ننتظر صاحب الزمان، أن نحدّق به باعتبار أنّه يحمل رسالة جدّه وآبائه وأجداده الذي يحملها من أجل أن تنفتح عن كلّ واقع الإنسان في العالم. على أساس أنّ العدل الشامل يشمل الإنسان في العالم كلّه فبعض الناس يتصوّر العدل عدل الحكم، ولكن للعدل عقله وعاطفته وسياسيته واقتصاده وثقافته وحركته وصراعاته. فعندما نسمع قول رسول الله(ص) إنه:” يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً” فإننا نفهم العدل بالمعنى الإسلاميّ الشامل لأنّ العدل هو خطّ التوازن في الحياة، وخط الإستقامة فيها.

قيمة العدل:
ينطلق الانسان ليبدأ من داخل نفسه، وعلى الإنسان ألاّ يظلم نفسه بل أن يكون العادل معها، وأن يكون العادل مع ربه بأن يعطي ربه حقه، وأن يكون عادلاً مع الناس كلّهم في واقع حياته كلّها.
وعلى ضوء هذا فإنّ رسالة الإسلام هي رسالة العدل، بل إن الإسلام كلّه عدل كما أنزله الله في كتابه (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) فكلمة العدل تختصر كلّ الديانات وكلّ والرسالات باعتبار أنّها تتّصل بالإنسان في الداخل وفي خارجه وبحركيّة حياته وانطلاقته.
فأن يكون الإنسان مسلماً أن يكون مع العدل، عادلاً في نفسه، ومع عائلته، ومع جيرانه ومع كلّ الناس في الحياة.. وأن يكون الإنسان ظالماً حتى في الظلم الصغير يعني أنّ هناك شيئاً ناقصاً في إسلامه. وإذا تطوّر ظلمه وأصبح يمثّل حجماً كبيرً في الواقع فإنّ معنى ذلك أنّ عليه أن يعيد النظر في إسلامه لأنّه لا معنى أن تكون مسلماً وأن تكون ظالماً لأنّ العدل أساس الإسلام فكلّ ظلم هو خروج عن الإسلام.

مقارعة الظالمين:
وهكذا ينبغي لنا أن نفهم مسألة الوقوف ضدّ الظالمين وضدّ المستكبرين والإستكبار في كلّ مضمونه وحركيّته هو أعلى مواقع الظلم وعندما نتّخذ ذلك خطًّا نسير عليه في رفض كلّ ظلم وفي رفض كلّ استكبار فإننا لا ننطلق في ذلك من حالة سياسيّة طارئة ومن شعار سياسيّ محدود يمكن أن نغيّره بين وقت وآخر بل إنّه يمثّل ديننا الذي ندين به، فديننا يوجِبُ أن نكون مع العدل كلّه ضدّ الظلم كلّه. فمن كان صديقاً ونصيراً وناطقاً وحليفاً ومساعداً لأيّ ظلم فإنه يكون منحرفاً عن خطّ الدين ومن هنا نقول: إنّ ديننا سياسة وإنّ سياستنا دين، وهذا من خلال أنّ ديننا دين عدل وعدلُنا دين والسياسة هي حركة الإنسان من أجل أن يصنع العدل في العالم. ومن أجل أن يفتح الحياة على أساس العدل. ومن خلال ذلك نحن ننتظر إمامنا المهديّ لنكون جيش العدل الذي إذا لم يُوفّق لأن يكون جزءاً من جيشه بالمعنى الفعليّ فإنّه يكون الجيش الذي يُهيّي له الطريق والساحة هنا وهناك.


الإنتماء إلى الاسلام
:

إنّ مسألة انتمائنا إلى الإسلام يعني انتماءنا إلى هذا الخط الحركيّ الذي ليس لديه إلاّ الإسلام ونحن لا نعرف أن يكون الإنسان مسلماً كما هو الإسلام العقل والإسلام القلب والإسلام الروح وينتمي إلى غير الإسلام في أيّ خطّ فكريّ أو خطّ سياسيّ. وعلى الإنسان أن يكون صريحاً في نفسه واضحاً معها، وأن تكون مسلماً وقد أكمل الله الإسلام ديناً ورضيه لك خطّاً يعني لا فراغ في عقلك لغير الإسلام ولا فراغ في قلبك لغير الإسلام ولا فراغ في حياتك لغير الإسلام. وهذا ما قد يعتبره بعض الناس تعصّباً وتطرّفاً لأن ذلك لا ينسجم مع الإنفتاح ولكن أيّها الأحبة هناك مسألة تحتاج إلى الوضوح والصفاء. فإذا كنت ملتزماً برأي فإنّ معنى التزامك بهذا الرأي ألاّ يكون لك رأي مغاير له. كلّ التيّارات في العالم تفصح وتقول لكل الذين ينتمون إليها: إنّ عليكم أن تكونوا دقيقين في الإنتماء وأن يكون انتماؤكم انتماءً فكرياً وعاطفياً وحركياً.. وهي مسألة تشترك فيها كلّ الديانات، والإنسان لا يعيش شخصيّتين، بل شخصيّة واحدة. فإذا كان الإسلام يمثّل كلّ عناصر الشخصيّة في فكره، فلا مكان لغير الإسلام. ثم علينا الإنفتاح على الآخرين ممّن يلتقون معنا في الرأي. ننفتح عليهم من خلال الإسلام. ونحن نقول دائماً لأهل الكتاب في انفتاحنا عليهم في وطننا هذا وفي غير وطننا من العالم كلّه، إننا عندما ندعو إلى عيش مشترك أو تعايش مشترك فإننا لا نطلق ذلك شعاراً سياسياً حسب الطوارئ السياسيّة التي تجعلك تطرح شعاراً سياسيّاً اليوم لتسحبه غداً ولكننا ننطلق من عمق الخط الإسلامي الذي ينفتح على الآخرين من خلال الكلمة السّواء (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ) نحن ننفتح من خلال إسلامنا وليس بعيداً عنه وهكذا استوحينا من الكلمة السواء أننا يمكن لنا أن نلتقي مع العلمانيين في بعض القضايا الإجتماعيّة والسياسيّة، لأن الكلمة السّواء تختلف حسب اختلاف المضمون الذي ننطلق فيه.
انفتاح الإسلام:
إنّنا نريد أن نكون مسلمين فقط، ومن خلال هذا الإسلام المنفتح، ننفتح على الآخرين وعندما نلتقي بالإمام الحجّة(عج) مع إطلالته الروحيّة علينا من خلال الغيب، فإننا نلتقي بالإمام الذي يدعونا أن نكون مسلمين وأن نكون منفتحين بإسلامنا على الآخرين، ومسلمين نحب الناس جميعاً ومسلمين مجاهدين ضدّ كلّ استكبار وضدّ كل ظلم.
جيل المستقبل:
في هذا الجوّ، ونحن مع هذه البراعم، الصغيرة المتفتحة على الإسلام، هذا الجيل الذي بدأ ينطلق في خطّ المستقبل، هذا الجيل الطيّب الطاهر من فتياتنا، ونحن نعتبر أن من مسؤوليتنا كمسلمين أن نصنع للمرأة دورها الكبير في المجتمع، أن لا تكون على هامش المجتمع وشيئاً بعيداً عن ساحة الصّراع والمسؤولية، بل أن تكون في عمق الواقع تماماً كما هو الرجل، وقد أطلق الله المسألة في كتابه (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) والمعروف كلّ خطّ ومنهج ومفهوم يتحرّك من أجل ما يرفع مستوى الناس (وينهون عن المنكر ) وهو ما يمثّل كلّ ما يدمّر حياة الناس الفكريّة والإجتماعيّة والنفسيّة والعمليّة.
تكامل الإنسانية:
إنّ دور المرأة كدور الرجل فهما يتكاملان في المواقع السياسيّة والثقافيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة وإن كان لكلّ واحد منهما خصوصيّة في ما أودع الله في شخصيّته من عناصر يختلف فيها عن الآخر. لذلك، لا بدّ لنا من أن نصنع للمرأة عقلها كما نصنع للرجل عقله، وأن نصنع للمرأة حركيّتها كما للرجل حركيّته، ولا بدّ من أن تتحمّل المرأة مسؤوليّة الصراع في الواقع سواء أكان سياسيّاً أم ثقافيّاً أم جهاديّاً وكلّ حسب إمكاناته.
وإنّنا حين نريد للمرأة الإنطلاق لتكون عنصراً فاعلاً في الساحة، نريد للمرأة المسلمة أن تكون مسلمة في عقلها ومسلمة في قلبها ومسلمة في حركتها.. أن تعيش الإسلام، حتّى إذا فكّرت سياسيّاً فعليها -كما الرجل- أن تفكّر من موقع الخطّ الإسلاميّ في السياسة وإذا فكّرت عاطفياً فعليها التفكير من خلال الخطّ الإسلامي في العاطفة وهكذا في المجالات كلّها. ففي الإسلام الكثير من القواعد التي تموّننا بكلّ ما يمكن للإنسان أن ينتهجه في هذا المجال. ونحن نريد أن نعيش في مؤسساتنا جميعاً وكلّ المؤسسات الإسلامية هي مؤسساتنا لا نفرّق بين مؤسسة وأخرى لأنّنا نريدها أن تتكامل في العطاء والتخطيط والعمل.
المؤسسات وصناعة الأجيال:
ونحن نريد لهذه المؤسسات أن تعمل من أجل صنع جيل المستقبل. وفي هذه الذكرى أوكّد لكلّ فتياتنا الصغيرات: إنّني أقول لهنّ، يا عزيزاتي، يا بنيّاتي، إنّ الله يبارك لكنّ بهذه المرحلة الجديدة التي تدخلون فيها وقيمتها أن الله حمّلكن مسؤولية، والله تعالى جعل البنت تتحمّل مسؤولية أكثر من الذكر لأنّ سنّ التكليف عند الفتاة أكبر من سنّ التكليف عند الصبي وهذا معناه أنّ الله كرّمها قبل الصبيّ، لأن الله قال لها: عليك بالصلاة والصوم والحشمة بجمال الحجاب وتجنّب الحرام وفعل الخير والله يسجّل الحسنات للفتيات قبل الذكور .. فلا تعتبروا أن سنّ التكليف مشقّة، بل إنّ أقصى شرف الإنسان حين يقبله الله تعالى ويحبّه، ويريد منه الوقوف أمامه ويطلب منه الصلاة والعبادة والإلتزام بالأوامر والنواهي.. فإذا مرّ بعض الناس بهؤلاء الفتيات الصغيرات وأبدوا السخرية فلتكن قصّة نوح عبرة لنا جميعاً “ومن يضحك يضحك أخيراً” (وإذا مرّوا بهم يتغامزون) (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ).
تقديم الحساب:
إنّ على كل فرد منّا أن يقدّم حساباته لله، وكتابه المليء بالأعمال، فمن أطاع الله من ذكر أو أنثى والتزم أوامره ونواهيه فإنّ الجنّة هي المأوى، وأمّا من عصى الله تعالى وانحرف عن خطّه المستقيم فإنّ مصيره جهنّم خالداً فيها.
إنّنا نبارك لفتياتنا وبناتنا، في عيد التكليف الشرعي لأنّ الله تعالى قبِل هذه الثلّة المباركة، وهو الذي يرضى عن عباده، ويحبّنا وحين يحبنا الله تعالى فالله هو من يسعدنا في الدنيا والآخرة.
أسرة العدل والإستقامة:
وإنني أسأل المولى لكُنّ يا بناتي المزيد من السعادة والصحة والعافية والتقدّم ولآبائكنّ وأمهاتكنّ المزيد من الوعي والحكمة والفهم لنفسيات أطفالهم. ودعوتي للآباء والأمهات أن يفهموا أطفالهم.. قبل أن تربّوا أطفالكم إفهموا نفسياتهم وعقلياتهم ولاحقوهم بالملاحظة حتّى تعرفوا اليوم ماذا اكتسب الطفل من كلمة جديدة، وعادة جديدة، لأن قضية الأطفال هي أن ننمّي عقله لا جسده، وروحه ونجعله من عباد الله الصالحين، فالتربية مسؤولية يحتاج الأهل لكثير من الجهود والملاحظة والوعي لذلك كلّه. لتكون الأسرة مسلمة في خط العدل والإستقامة.

محاضرة للسيد المرجع المجدِّد محمَّد حسين فضل الله بمناسبة ولادة الرّسول وتكليف ثلّة من الفتيات.
إعداد وتنسيق :
علي رفعت مهديI

شاهد أيضاً

دعوة لإقالة وزير الداخلية!

كتب رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب عبر حسابه على منصة أكس : “أدعو الرئيس …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *