الذات والآخر في مجموعة ” تعريفٌ متشابهٌ جدًا” للشاعرة العراقية رؤى زهير شكر

إبراهيم رسول

تتمثلُ الشاعرةُ رؤى زهير شكر في مجموعتها الشعرية التي جاءت تحملُ العنوان الفنّي ” تعريفٌ متشابهٌ جدًا” الصادرة عن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق بطبعتهِ الأولى في سنة 2022 صورة المرأة التي تُؤثِر الجميع على روحها, فهي تستنطق الجميع بلسانها وكأنّها لا تريدُ أن تنفصلَ عن الجمهور, فهي تريد أن تقول: أنّها إنسانيةٌ جدًا, ولو تأمل القارئ في هذه المجموعة سيجد أنّها كثيرٌ ما تميل إلى استعمال ضمائر الجمع لا المفرد, ويكاد الضمير الجمع هو المهيمن الوحيد في المجموعة كلها, نخلص من هذا أنّها: منشغلةٌ بالآخر وهمومهِ فهي تجرّدت من أناها الذاتية وتحوّلت إلى أنا الآخر, فحتّى توظيف الضمائر هي انشغالٌ بالآخر لا بالذات الشاعرة. تستدعي القارئ أن يتأملَ الدلالات المبطنة وراء المعنى الشعري, فأنت واجدٌ هوية الأنّثى الشاعرة بكُلِّ وضوحٍ وجلاء, هذه الهُويّة التي جاءت بكبرياءٍ عالٍ وشموخ يكاد أن يكاد قاب قوسين أو بعضها من السّماء, فالشاعرةُ تؤصّل لهُويتها كأنثى عبر استخدام لغة الشعر, فهي متمكنةٌ من لغتها التي هي طوعُ خيالها, تستدعيها أنّى شاءت ولأيّ ثيمةٍ أرادت! التأصيلُ لهُوية الأنّثى لم يكن سهلًا, فالمسألةُ لا تعدو أن تكون مسألة تحدٍ كبير وإصرار على التفوّق وإثبات هذه الهُوية. المميزُ في المجموعة بطابعها الإجمالي, هيمنةُ الضمير الأنثوي, الذي يكاد يجدها القارئ في كُلِّ قصيدةٍ, وهذا الضمير ( الأنا) هو يأتي لتأكيد الخطاب الشعري الهُويّاتي الذي أثبتته الشاعرة في خطابها الشعري العام. يُشير مصطلح الذات أو الذاتية إلى قدرة المتكلم في تقديم نفسهِ ذاتًا من خلال اللغة (), ومن خلال هذا التعريف, نجد أنّ الشاعرة قدمت ذاتها عبر لغةٍ شعريةٍ مليئة بالدفء العاطفي الوجداني, فهي لا تسرد أو تُعبر عن ذاتها إلا لتبيان صورة ما يختلج في صدرها للآخر, لو قرأنا القصائد في هذه المجموعة التي تجّلت فيها ذات الشاعرة/ المبدعة, نجدها كأنّها ذاتٌ تُريد أن تُحاكي وتُحاور الآخر عبر لغةٍ ما, فلو أخذنا النص الذي تُحاور فيه أخيها, نجدها تميل إلى سرديةٍ مفعمةٍ باللغةِ الشعرية, فهي تقول:

يا وجعًا
تنزفهُ السّماء كلّما مرّ نسيمُ الشوقِ على وجهك
تاركًا خلفهُ أكداسُ دمعٍ يخجلُ الليلُ أن يكفكفها
ها هو العامُ الثامنُ يكتملُ بوجعهِ الأنيق..
كلما رفعَ شيراز وجههُ صوبَ السماء قال: إن لي خالاً وجدًّا هناك
أنارُ دخل عامهُ الثالثَ ولم يتعرّف على وجهكَ بعدُ

يتناصُ أو يقترب هذا النص من بيتٍ للشاعر أحمد شوقي حينما أحالنا إلى تاريخٍ في نصفِ شطرٍ من البيت حيث قال:

أتراها تناست اسمي لمّا
كثُرت في غرامها الأسماءُ
إن رأتني تميلُ عني كأن لمْ
تكُ بيني وبينها أشياءُ()

النسيانُ لم يكن إلا بمرورِ وقتٍ ليس بالقصير, فأنثى الشاعر كثُرت في حُبّها الأسماء, أي أنّ لها تجارب كثيرة مع الرجال, حتّى صار الشاعر/ الحبيب منسيًا نتيجة كثرة الرّجال الذين يحبّونها, وهذا يعني مدة زمنية لا بدَّ وأن تكون طويلة, ولو قرأنا البيت الثاني الذي يقول فيه: ( إن رأتني تميلُ عني كأن لمْ … تكُ بيني وبينها أشياءُ), هذه الأشياء هي تاريخٌ طويل, أو مدة زمنية طويلة قد تصل إلى سنواتٍ ربما, فهو يُذكر بهذا التاريخ الذي كانت فيه أشياء معها.
وأما رؤى زهير شكر في هذا النص, تستخدم الحوارية في سرد زمانٍ معلومٍ, فهي ليست كأحمد شوقي ترك المدة غير معلومة , يتخيلّها المتلقي, بل رؤى زهير شكر تُحدد هذه المدة الزمنية وهي ثمانية أعوام, بعد أن صارَ لها طفلٌ في الثامنة من عمره وآخر في الثالثة, هي تُحاورُ الفقيد بشعريةٍ سردية, فالحواريةُ الشعر_ سردية, هي معلومة المدة الزمنية, فحتّى هذا النص, لا تبدو ذات الشاعرة تحكي لذاتها, بل هي حتّى في ذاتها مشغولة بالآخر, وهذا المنظور الذي قلبته الشاعرة و يمثلُ الصورة الرّاقية والروح النقية لمن تُحبّ.

تأخذنا الشاعرة في هذه المجموعة إلى فضاءٍ نتنفس منه شاعرية الأنّثى صاحبة الحضور المميز والمؤثر, هذه النصوص لم تأتِ للمقارنة مع الآخر عبر الخطاب الذي يمثل الأول والخطاب الذي يمثل الثاني, فالخطابُ هنا يمثل الأنثى بمعنىً واضحٍ وصريح, الدور الذي لعبه ضمير الأنا, كان دورًا مهمًا في رسم ملامح الصورة الشعرية الخاصة بالأنثى. الشعرُ عند الشاعرة رؤى زهير شكر يأتي على هيئةٍ فنّيةٍ خالصةٍ, على الرغمِ من الكم الفكري الذي يوجد فيه إلا أن هذه القضايا جاءت عبر الشعر ومن الشعر.
الشاعرةُ في هذه المجموعة بدءًا من القصيدة الأولى في المجموعة, تعمل على بناء تصوّرٍ شعريٍ, هذا التصوّر يخصها كأنثّى, فهي تؤنث اللغة وتطوّعها لصالح خطابها الشعري, فهي تأخذ اللغة عبر خطابٍ أنثويٍ بارزٍ وتؤسس لثيمةٍ مهمةٍ من ثيمات ما بعد الحداثة, فالمرأة لم تعد هامشًا كما السابق, فهي اليوم تمثل في بعض الأحيان المركز! لأنّ السردياتَ الكبرى انهارت ولم تعد سردية إلا وأصابتها ضربات فلسفة ما بعد الحداثة.
ترسمُ الشاعرة صورًا عديدة لهذا الآخر, فتارة يكون الآخر الجمهور الواسع , وتارة يكون شخصية كشخصية الأخ الذي ندبته كثيرًا في أكثر من نصٍّ الذي رحل عن الدنيا تاركًا الوطن للفاسدين حسبما تقول في نصٍ لها:

فقبلَ أيامٍ لحقَ بك المئاتُ من الأقرانِ
بعد أن حلموا بوطنٍ معافى سعيدٍ
تركوهُ لسراقهِ ورحلوا..

كما فعلت أنت..() , في هذه الصورة الشعرية التي قدمت فيها الرثاء للذين رحلوا وهم شهداء بدلالةِ البداية أعلاه من النص ذاته, وهي تقول أن الذين يحكمون الوطن هم السّراق, فهي نجحت في أن تضع غرضين اثنين في نصٍ واحد, وهذا يدلُ على حنكةٍ وبداعةٍ في بثِ أكثر من غرضٍ واحدٍ في النص الواحد.
الشاعرةُ رؤى تكاد أن تكون الوطن بناسهِ أو الجمهور بكل ذاتيتهم, فذاتها مغيبة أو غُيبت لأجل الصالح العام, ولعمري فهذا هو أعظم الإيثار, لم تجد الأنا الإنسانية الخاصة, بل وجدناها ذائبة في هموم والالام الجمهور, فهي هنا تختلف عن مذهب المتنبي الشاعر, فقارئ شعر المتنبي يقرأ المتنبي وينشغل بذاته والاعجاب بنفسهِ وكل ما يتعلق به, فضمائر المتنبي أغلبها هي ضمائر فردية تثمله هو, أما هنا عند الشاعرة رؤى فأنت لا تجد الآخر مشغولًا بها, بل هي مشغولةٌ بالآخر, فالأخر يقرأ ذاته في شعر الشاعرة لا يقرأ شخصيتها هي, وهذا مذهبٌ يكاد أن تجد لها نماذج كثيرة عن شعراء الجيل الجديد ونأخذ على سبيل المثال الشاعر حازم رشك التميمي فه ويقول في قصيدةٍ له :

الخيلُ والبيداء بعض معارفي
والسيف والقرطاس من أشيائي
أنام ملء الجفن حيث شواردي
نهبٌ لكل قصيدةٍ عصماءِ

فرؤى زهير الشاعرة قلبت المنظور من الفردية إلى جماعية, فهي مشغولةٌ بالآخر وتحاول أن تحملَ هموم الآخر, هي تريد أن تكون مع الناس وللناس, هي هنا تركت ذاتها على جنب وراحت تنطق بذات الجميع, تحاولُ أن تكسر النمط السائد من أن الناس هم الذي ينشغلون بالشاعر, لكن رؤى زهير هنا قلبت هذه الفكرة وحوّلتها من أنا فردية إلى أنا جماعية, واستبدلت ضمائر المفرد بضمائر الجمع, فهي تقول في قصيدة بعنوان( أسرة الموت):

نحنُ الخارجينَ من أزمنة الموت
الفارّين من عُنقِ القصائد
الهاربينَ كآخر رذاذةِ من مسارِ النوافير الحُمر
وجوهنا نصف بشرية
شفاهنا متحجرةٌ بنعي الثكالى
أصابعنا المبتورة من العضِ ندمًا ()

يهيمن ضمير الجمع في هذه القصيدة بصورة كلّية, فالصوت ليس صوت الشاعرة بل صوت الناس كلهم بلسانِ الشاعرة, هي تحمل الوطن في قلبها وتحمل أوجاع الناس الذي يحلمون بوطنٍ سعيدٍ معافى بصدرها, التجردُ الذي تجرّدته الشاعرة في هذه المجموعة هو تجرّد شبه كلّي, هي صاحبة رسالةٌ عامة, همومها هي هموم عامة ومعاناتها هي معاناة عامة, لأنّها تحمل الضمير الحيّ والروح الشفيفة التي هي روح الإنسانة النبيلة الاصيلة.
تجلّى الآخر في هذه المجموعة بثيماتٍ متنوّعةٍ ( الأخ الشهيد, الأم, الوطن, عامل المسطر, الناس, ثورة تشرين, الشهداء الشباب, فاطمة البهادلي…) هذه الثيمات التي هي فكرة القصيدة , جاءت أغلبها إما رثاء وإما ندب, فلو قرأت ثيمة الأخ, لرأيته ذلك الشهيد الذي ضحّى بروحهِ من أجلِ الوطن, ولو تأملت الحديث عن شخصية فاطمة البهادلي لرأيت كيف تُرثيها بأن تستحضر ابنها, فهي ترثيها برثاء ابنها وهذا أعظم الحزن وأقساه!
ارتبط مفهوم الآخر بالضد, ( أنا/ أنت, أنا غيري), أي تضاد بين اثنين مختلفين , أما في هذه المجموعة فالآخر لا يختلف عن ذات المبدعة, لأنّ مفهومَ الآخر ليس مفهومًا سلبيًا بحسبِ رؤية الشاعرة, فالآخر هو ممدوحٌ عند ذات الشاعرة, فالآخر كان قريبًا من روحها وإحساسها الوجداني, بمعنى أن لا ضدّية هنا, فالذاتُ المبدعة والآخر يشتر كان في ذاتٍ واحدةٍ من حيث الإحساس والوجدان, لأنّ طريقةَ الحوار السرد_ شعري بين الذاتين, يمثلُ الصورةُ الواضحة النقية في علاقة الشاعرة مع من تُخاطبهُ؟ وهذا منظورٌ تميّزت به المجموعة هذه, وهو مفهومٌ يختلف مع الشاعر الكبير الموهوب المتنبي, فهو لا يقرن بذاتهِ أيّ ذات في أحيانٍ كثيرة, وحتّى ممدوحه فلهُ صفاتٌ كبيرة وقد لا يستحقها إلا أن الوجدانَ غير حقيقي في شعر المتنبي كونه يُخاطب الآخر من أجلِ مصلحةٍ ماديةٍ, ولعلَّ هذا يتضح في بيت شعرٍ للمتنبي يقول فيه

إن كان يجمعنا حبٌّ لغرتهِ
فليت أنّا بقدرِ الحبِّ نقتسمُ

أيّ أنّه يريد أن يُكافئ ويُجازى على قدر الحبّ الذي يكنّه لممدوحهِ, إلا أن هذا لاوجودَ له في المجموعة موضوع لقراءة إطلاقًا, فهي تكتب بوجدانيةٍ نقيٍة عالية الإحساس, وتفيض شاعريةً.
يقول المتنبي:

أنا السابقُ الهادي إلى ما أقولهُ
إذِ القولُ قبل القائلين مقولُ
ويقول أيضًا:
أنا تِربُ الندى وربُ القوافي
وسِمامُ العِدا وغيظُ الحسودِ()

فهذه الأنا الذاتية منفردة إلى أبعد الحدود ومتعالية بصورة يتميز بها المتنبي وحده, فهو له الشأن الخاص الذي يجعله في مرتبةٍ تميّزه عن غيره من الشعراء, وقد تكون هذه الأنا المتضخمة في المتنبي هي حالة مرضية إلا أنّها تبدو جميلة وتليق بمكانتهِ الشعرية في الشعر العربي قديمًا وحديثًا ومستقبلًا, وأما رؤى زهير فهي متصالحةٌ من ذاتها, ومتوازنة من الداخل, هي مترفعةٌ على أناها الذاتية, وتحمل الإيثار الكبير في الانشغال بالآخر, وهذا الآخر هو عين المجموعة كلها, إذ تقول:

وجهي وطنٌ
والمنافي على أطراف الدمع مثلجةٌ ()

حتّى عندما يكون الحديث بضميرها الفردي, تجدها تكون نادبةً للآخر وتحدّثهُ وهذا الشيء يهيمن على ضميرها الذاتي, المحصّلةُ هي لا تقول أنا , بل تستخدم الضمير ( نحن).
الشعرُ عند رؤى زهير هو رسالة إنسانيةٌ وجدانيةٌ, هي قلبت المنظور السائد وكسرت النمطية في التصوّر, في هذه المجموعة, هي حاملةٌ لهموم الآخر, والآخر يقرأ ذاته في خطابها الشعري !
الفكرةُ العامةُ الواضحةُ في مجموعة ( تعريفٌ متشابهٌ جدًا) هو خطاب الذات والآخر , الخطاب الذي اتفقت به ذات المبدعة مع ذات الآخر, ونحن في هذه المقالة لا نرصد الواضح بقدر ما ندلل على أهميتهِ وطريقةِ الشاعرة في تبيانهِ ؛ التبيانُ الذي جعله صفة مميزة تهيمن على المجموعة كلها.

شاهد أيضاً

وفاة النجم العالمي برنارد هيل قبطان فيلم «تايتنك»

توفى الفنان العالمي برنارد هيل، الذي اشتهر بالمشاركة في بطولة فيلمي Titanic، وLord of the …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *