انفجار دماغ عاصي الرحباني.. ومبادرة الرئيس الراحل حافظ الأسد…

يقول منصور الرحباني:

كان عاصي يجلس كالعادة في غرفته، يوم الأربعاء 27 أيلول 1972، يكتب ويلحن، وأنا في غرفتي أكتب وألحن، وليس معنا سوى خليل تابت (أحد أعضاء الفرقة الشعبية).. وفجأة، دخل عاصي إلى غرفتي قائلاً: “انتهت الحلقة 14″، كنت أعرف أنه بدأها ذاك الصباح، ففوجئت بأنه أنهاها بهذه السرعة العجيبة.
قمنا إلى الصالون وتناولنا غداءً خفيفاً، وعدنا إلى غرفنا.. فجأة دخل عليَّ خليل هلعاً: “أستاذ منصور.. الأستاذ عاصي يطلبك فوراً”.. هرعت إلى غرفته فبادرني: “رأسي، يا منصور .. رأسي يؤلمني بشكل غير طبيعي”.. تبادر فوراً إلى ذهني أنه بِدءُ انهيار أو تعب منهك.. فسألته أن يوقف الكتابة ويرتاح، فقال: “سأخرج وأمشي قليلاً”.. ونزل إلى باحة أمام المكتب.. لكنه عاد بعد أقل من خمس دقائق، فسألته إذا هدأ الألم، فقال: “بل زاد.. لنطلب الدكتور”.. قلت له: “أطلبه أنت” كي أختبر قدرته على ذلك، وإلا سيكون على حافة انهيار أعصاب.. وبالفعل لاحظت أنه يخطئ في طلب الترقيم.. عندها طلبت الدكتور، وقلت له أن عاصي مُصاب بصداع كبير، ولم يتمكن من طلب رقم الهاتف.
أدرك الدكتور خطورة الأمر وقال: “جئ به الآن فوراً”.. أنزلته، إلى السيارة، وذهبت به.. وفي الطريق بدأ يهذي ويقول كلاماً لا ترابط فيه.. خفت كثيراً لكنني لم أظهر له ذلك.. وحين وصلنا أمام عيادة الدكتور، انتبهت إلى أن عاصي لم يعرف كيف ينزل من السيارة.. هرع أصحاب المحلات وحملوه معي إلى العيادة، فيما أخذ يتقيأ ثم غاب عن الوعي.
في العيادة خطط له الدكتور وبادرني: “خللٌ ما يحصل في الدماغ”، واستدعى فوراً لجنه أطباء.. اجتمعوا، وقرروا نقل عاصي بسرعة إلى المستشفى لشكهم أن يكون في الدماغ نزيف قوي.
هرعنا إلى مستشفى رزق، وأدخلوا عاصي إلى غرفة العناية الفائقة، ثم خرجوا منها بخبر قاسٍ: نزيف قوي في الجهة اليسرى من الدماغ.. وكان لا بدّ من إطلاع فيروز على الأمر، وكانت يومها مريضة في المستشفى ذاته.. اجتمع سريعاً جميع الأطباء وخرجوا بخبرٍ أقسى: “لا أمل.. حجم الانفجار أكبر من إمكانية معالجته.. وإذا عاش عاصي، سيعيش من دون وعي”.. وأفتوا جميعهم بعدم جدوى أي تدخل جراحي.. علهم خافوا من المخاطرة، وقرروا أنه من الأفضل تركه، لأنه سينطفئ تدريجياً، ولن يعيش طويلاً.
عقدنا اجتماعاً مع فيروز، واتخذنا القرار بإجراء العملية، فاقترح أحد الأطباء الاتصال مع البروفيسور الفرنسي العالمي (كلود غزو).. وهذا ما جرى، ووافق البروفيسور على القدوم إلى لبنان.
وما إن هبط الليل علينا، ذاك الأربعاء الحزين، حتى كان مستشفى رزق مزنراً بحزام بشري مذهل من مئات الذين حاصروا المستشفى ليستفسروا عن حالة عاصي.. وفي ساعة متأخرة من الليل رنّ الهاتف فإذا على الخط القصر الجمهوري السوري، ومندوب يستفسر باسم الرئيس حافظ الأسد عن حالة عاصي.
صباح الخميس صدرت الصحف وعلى صدر صفحاتها الأولى: “انفجار دماغ عاصي الرحباني”.. فأصاب الناس ذهول، وتقاطروا بالآلاف إلى المستشفى.
مساء الخميس وصل البروفيسور (كلود) إلى بيروت، واجتمع إلى الأطباء والعائلة.. تردد الأطباء أمامه في النصح بإجراء العملية، فقال لهم إنه يتحمل المسؤولية، وسيجريها.. وطمأننا إلى أنها عملية غير مستعصية.
صباح الجمعة أجريت العملية التي استغرقت ثلاثة أرباع الساعة، وخرج منها البروفيسور ليطمئننا إلى أن عاصي سيستعيد وعيه خلال مدة قصيرة..
صباح السبت صدرت الصحف تحمل عنوان: “كبر دماغ عاصي الرحباني أنقذ حياته”، لاكتشاف الأطباء أن حجم دماغ عاصي كان أكبر من دماغ الرجل العادي.
في ذاك اليوم فوجئنا بمدير القصر الجمهوري السوري يصل مصحوباً بمحامينا في دمشق (نجاة قصاب حسن)، مندوباً من الرئيس السوري حافظ الأسد، وحاملاً مبلغ خمسين ألف ليرة لبنانية (مبلغ كبير في ذلك الوقت)، فكانت تلك اللفتة بادرة فضلٍ كبيرٍ من الرئيس السوري نحفظها له.
بعد أسابيع قليلة بدأ عاصي يفتح عينيه، ينظر إلينا ويتفوه بكلمات لا ترابط بينها، كنت أنظر إلى عينيه فأراهما عيني نسر، وأقول: “عاصي بدأ يرجع إلينا”.. وتدريجياً بدأ يستعيد وعيه، ثم سمح الأطباء بعودته إلى البيت فأخذناه، ومشى خطواته الأولى متعثراً ببعضها.. ثم عاد إلى الحركة شبه الطبيعية مع بقاء تلعثم بسيط في الكلام، لكنه حين يغضب يتكلم بطلاقة.. أخذ عاصي يتماثل للشفاء تباعاً ويستعيد وعيه والنطق.

*صورة تجمع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد مع فيروز وعاصي ومنصور والياس الرحباني بعد شفاء عاصي بتاريخ 22/8/1973
نقلا عن #صحيفةتشرين

شاهد أيضاً

شباب لبنان …شباب العلم

/ابراهيم ديب أسعد شبابٌ إلى العلياءِ شدّوا وأوثقوا وطاروا بأسبابِ العلومِ وحلّقوا وقد ضمّهم لبنانُ …