كي لا يبقى الشرفاءُ وحدَهُم من يدفعُ الثمن

 

العميد المتقاعد د.عادل مشموشي.

لا بدَّ للمرء من وقت لآخر من أن يجري تقييما او نقدا ذاتيَّا موضوعيَّا مُتجرِّدا وشَفافا، كي يَتمكَّن من تقديرِ نفسِه حقَّ قدرِها، ولا يبخسُ على الآخرين قَدرَهُم وعطاءاتهُم، والأهم من كل ذلك لتقويم سُلوكيَّاتِهِ إن اقتضى الأمر ذلك، والالتزام بالسُّلوك القويم.
كنت طفلا لم أتجاوز العشر سنوات من عمري عندما خاطبني خادِمُ جامِعِ القريَّةِ مُمازِحا “كن عادلا يا عادل” هذه العِبارَة العابِرَةً لم تمُرَّ مُرورَ الكِرامِ على مَسامِعي، بل دَفعَتني لفَهم المَعنى اللُّغَوي للاسم أولا واعتماده نوجُّهاً لتَحديدِ سُلوكِيَّاتي وخياراتي.
ما إن تخرَّجتُ من المدرسةِ الحربيَّة وبدأت حياتي العَمليَّةُ حتى وضعت نصبَ عيني انه أضحى لزاماً عليَّ أن أكون ضابطَ قوى أمن ناجِح، وهذا أمرٌ بديهيٌّ طالما اخترتُ هذه المِهنَة، وبالتالي فإن التَّطلعاتِ الشَّخصيَّةَ كما مَعاييرَ التَّقييمِ، ينبغي أن تُبنى على هذا الأساسِ، إذ من اختارَ الوَظيفة العامَّةَ يعي جيِّداُ أن مراميهِ ينبغي ان تكون مَعنويَّةٍ لا ماديَّة، خاصَّةً وأن أدبياتُ الوظيفة لا تلتقي مع جمع الثروةِ واكتناز الأموال، لأن أدبيَّات الوظيفةِ عامة تقومُ على مرتكزاتِ الاستِقامَة، والنَّزاهَة، والشَّفافيَّةِ وتغليب المَصلخة الوطنيَّةِ العامَّةِ واحترامِ أفراد المُجتمع والتَّعاملِ معهم على فدر المُساواة، ووفقَ ما تنصُّ عليه النصوصُ القانونيَّةُ النَّافذة، هذا بالإضافة إلى المزايا والمناقبيَّات التي ينبغي أن يتحلى بها العسكريونَ عامَّة ورجالُ الأمن بخاصَّة. والتي يمكن اختصارُها بكلمتين اثننين الانتتماء والولاء.
أملى علي الطابعُ الوظيفي والأمني بخاصة التفيُّد التام بروحيَّةِ الانتماءِ للوَطن أولا ولمؤسَّسة قوى الأمن ثانية، وبالتالي التزمتُ تغليبَ مَصلحةِ لبنان ومؤسَّسةِ قوى الأمن الدَّاخلي وجعلها فوق كل اعتباراتٍ خارجيَّةٍ او داخليَّة فئويَّة او فرديَّة، وفعلا كنت ولم ازل فخورا مُعتزا بهذا الأنتماء، وهذا ما ولَّد لدي ولاءً خالصاً جعلني أُكرِّسُ جُل وقتي وإمكاناتي الفكريٍةِ والجَسديَّةِ في سبيلِ الواجبِ الوطني صونا للمجتمعِ وحِمايةً لحُقوق الأفراد.
كما أملى علي انتمائي الوطني ومناقبيتي الأمنيَّةِ التزام الحيادِ السِّياسي، بمعنى أن أبقى بعيدا عن أيَّة ميولٍ سِياسيَّةٍ داخِليَّةٍ، وقد ساعَدني في ذلك أننا في لبنان لدينا ميلٍيشياتٍ تحت مُسمى أحزاب ولكنها بعيدةً كل البُعدِ عن مفهومِ العملِ الحزبي الراقي، ويبقى توصيفها كميليشياتٍ قائما سيَّان تسترت ببزة قتال مًمتشقةً أسلحتِها ام بلباس مدني ومن دون سلاح، لأن السُّلوكيَّات هي أساس التَّوصيفِ وليس مُجرَّد المَظهر، ولكنني مُقتنعا أن التصرُّفاتُ الميليشياويَّةِ هي السببُ الأساسُ في خراب لبنان، ويُضاف إلى ذلك قناعتي بأن الاسلاكَ العَسكريًّة والأمنيَّةِ والقضائيَّةِ والسِّلك الخارجي على الاقل ينبغي أن يبقى المنتسبون إليها بمنأى عن التَّوجُّهاتِ الحزبيَّة لضمان استقلاليتهم، ولكي يكون تعاملهُم مع الشؤون الوطنيَّة كما الأفراد مبنيا على مَعاييرَ مُتجرِّدة وعلى قدرِ المُساواة ومن دون أي تمييز او تحيُّز.
رغم قساوة الظروفِ الأمنيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ القاسِيَةِ التي عَرَفتها البلادُ مُنذ تخرُّجي من المدرسَةِ الحَربيَّةِ ١/٨/١٩٨٤ ولغايةِ إحالتي على التَّقاعُدِ بتاريخ ٣/٢/٢٠٢٠ حيث عانينا كموظفين الأمرينَ من انهيار قيمةِ العملة الوطنيَّة خلال الثمانينات واوائل التسعينات، حَرِصتُ على التَّفاني في العَملِ، وكنت اسخِّرُ جُلَّ اهتمامي ووقتي للعَطاء مُواظبا على تواجدي في العمل، وقد كلفني ذلك ان حَرمتُ نفسي وعائلتي حتى انني لم استفد من مُعظمِ الإجازاتِ الاسبوعيَّةِ والعُطلِ الرَّسميَّة كما من المأذونياتِ السَّنويَّة.
لقد كان همي ومنذُ الأيام الاولى لبدءِ حياتي العَمليَّةِ أن أكون بمصافِ الضُّبَّاطِ النَّاجحين، لذا لم ترُق لي الخدمَةُ التي كنت فيها على تماس مع السِّياسيين، خِشية أن أُحسَبَ على أيٍّ منهم، او أقدَّرُ او أُعاملُ من الغير وفقا لدرجَةِ قربي من أحدِهم، وهذا ما دَفعني إلى طلبِ نقلي من سَريَّةِ حرس رئاسة الخكومةِ إلى قُطعاتٍ ميدانيَّة، حيث كنت أرى أني أقربِ لمهنةِ مُرافقٍ شَخصي، وأن تودُّد الناس إلي مردَّهً لكوني قريبا بحكم وظيفتي من رئيس الحُكومة، كذلك لم ترق لي الخدمَةُ المكتبيَّةُ او الإداريَّةُ لأني كنت أرى أن العملَ الميداني هو الأرضُ الخَصبةُ التي يمكنُ للضابط أن يحقِّقَ عبرها تطلُّعاته، كونها تتيحُ له فرصةً ليبرز كقائد عَسكري وأمني بالتَّحديد إن كان أهلا لذلك، وهذا يتطلبُ الشَّجاعةَ والإقدام، والحُهوزيَّة الدائمة للتَّضحيَةِ والعَطاءِ في سبيلِ الواجِب، ولو اقتضى الأمر أن تكون حياةُ رجلِ الأمن عُرضةً لمَخَاطرَ جسيمةٍ في مَعرضِ مُواجَهَةِ مُجرمين خَطيرين ومُنحطِّين اخلاقيَّا، ولإن ظاهرَ الحال يقول بأن التَّضحياتِ الجسام تطيب في مواجَهةِ عدو لا أنذال، وهذا ما جَعلني أغلِّبُ فَهمي للعملِ الأمني على انه عمل أخلاقي قبل ان يكون مًجرَّدَ عمل يقوم على كشف الجرائم وملاحقَةِ مُرتكبيها، وهذا الشُّعور أكثر ما راودني خِلالَ فترةِ ترؤسي لمكتبِ مًكافَحةِ المًخدرات كان خير مُحفز لي، إذ كنت أفهم ما أقوم به على أنه من قبيل الواجبِ الإنساني الذي يستهدفُ حمايةُ المُجتمع من قذارةِ ونتانةِ الضَّالعين في قضايا المُخدِّرات انتاجا (زراعة ام صناعة)، ام تجارة (تهريبا ام ترويجا)، وهذا ما دفعني للمُثابرةِ رغم تعرُّضي للكثير من المخاطرِ، والتهديد والافتئاتِ في كثيرٍ من الأحيان.
أقرُّ أنني كنت صَلبا في مواقِفي قاسيَّا متجردا من العواطفِ حِيالَ بعض الحالاتِ الانسانيَّة، حادَّا في تعاملي مع المّجرمين الخَطرين، وحازما في تطبيق القوانين. كما أعترفُ أنني لم أكن احسنُ سياسةَ تقدّيم الخدمات، وهذا ما يأخذهُ البعضُ علي وقد اتُّهِمتُ من كثيرين انني لم أكن خدوما كوني لم أكن احسنُ تلبيَةَ الطَّلبات الخَدماتيَّة، وأعزو ذلك لطبيعتي الشَّخصيَّةِ اولا، كوني اتعامل مع الجميع برسميَّة وجَديَّة في الوقت الذي يغلبُ على السلوكياتِ الرائجةِ في البلد طابع المحسوبيات والواسطات. وتبريري لذلك أن طبيعة المراكز التي توليتها كانت تقتضي عدم التَّهاونِ او المُسايرة، هذا بالإضافةِ إلى كوني لم ازل مُقتنعا بان الحياة الوظيفيَّةِ والامنيَّة بالتَّحديدِ تقتضيان ذلك.
وأعترفُ اليوم ان قناعاتي وخلفيَّتي القانونيَّة، وعقليتي الأمنيَّةِ المُتجرِّدة، دفعتني في كثير من الأحانِ إلى أن أعملَ خِلافَا لما كان يَرِدُني من توصيَّاتٍ او طلباتٍ غير مُحقَّة، وانه أحيانا كثيرةٍ خرجَ من مَكتبي أصدِقاءَ ومُقرَّبين لم يكونوا راضين عن عدم تلبيتي لمَطالبهم او مُسايرتي لهم او مُجاراتي لرغباتهم، وذلك فقط لأنني لم أقتنع بصوابيتها او أحقيَّتِها، وإن يكن كنت أحرصُ على احترام اللياقاتِ في التَّعامُلِ مع الافراد.
وأقرُّ اليومَ أيضا، أنني ربما دفعت ثمناً غالياً لخياراتي ومواقفي، وعدم تملُّقي او مُسايرتي للكثير من أصحابِ النُّفوذ من السِّياسين، وبخاصَّةٍ للعاملين في بلاطِهم، من مُستشارين وأمنيين، لكوني كنت أرى في ذلك إذلالا وخروجا على الأصول، واعتقد انني أبعِدتُ عن بعضِ المناصِبِ والتي ويا للأسف أوكِلت لغير مُستحقيها حينا، ولغير من هم أهل لها حينا آخر، اما المعيار ُالوحيدُ المعتمدً فكان الولاء للزعيم وربما لحاشيته، ورَغم كل اللَّوم الذي وجه ويوجَّه إلي من اقربِ المُقربين على التزامي بل تعنتي في خياراتي اقولُ جازماً صادقا بأني لا زلت مقتنعا بها ومُصرَّاً على صوابيتها، وانه لو عادت بي الأيامُ لما بدَّلتُ من قناعاتي ومواقفي وسلوكياتي، لاقتناعي أن المبادئ والقِيَم ينبغي أن تكون ثوابتا وغير قابلةٍ للمُساومَةِ والأخذ والرَّد، وعلى أمل أن يُسهِمَ التَّمسُّكُ بها في بناءِ وطنٍ تُحترمُ فيه الأصولُ والقيمُ والثوابت.
ويا للأسف وكأني بالزمن يُعيدُ ذاته، ليذكِّرنا بأعوام الثمانينات، ولكن بتجربةٍ أقسى وأمرًّ ويبدو أنها أطول. ولمن لم يعايش تلك الفترة الزمنية نذكرهم بانه انهكنا انهيارُ العملةِ الوطنيةِ في مقتبلِ عُمرنا، وحال دون تمكُّننا من تأمين بديهياتِ حياتنا كأفراد، وها هي الكرَّةُ تعادُ اليومَ وقد أحلنا على التَّقاعُدِ بانهيارٍ دراماتيكي للعملةِ الوَطنيَّة، لنَستذكرَ ماضيا أليم حَرَمنا التَّمتُّعَ بريعانِ الشباب كباقي بني البشر، وها نحن اليوم نذلُّ كموظَّفينَ وكمتقاعدينَ عشراتِ المرَّاتِ كل يوم، صباحا وظهيرةً ومساء. نعم نحن نًذلُّ أمام المُستشفيات، امام الصيدليات، أمام الافران، أمام مَحطاتِ المحروقات، وامام بائعِ الخضرواتِ واللحامِ وعامل الكنتوار في السوبرماركت كما امام الميكانيكي والكهربجي والبنشرجي واللائحة تطول. ما يمنع المسؤولين عن تعديل سلسلةِ الرتب والرواتب؟ وبأي حق ومنطق تحتسب الرواتب على دولار افتراضي بقيمة ١٥٠٠ ل ل، واسعار السلع والخدمات تحتسب على اساس السعر الواقعي للدولار اي الرائج والذي يقارب ٣٠٠٠٠ل ل؟؟؟؟؟؟
نعم إن مثلي ليَشعرُ بمرارةٍ، ومن حقنا أن نشعُرَ بمرارة وأسى تَحسُّرا على عمرٍ افنيناه ونحن شبابا في خدمةِ الوطن والمواطن، لم نلق فيه تقديرا لما صنعنا وقدمنا وضحينا، بل يقابل فيه الانتماء بغربة، والولاء بتهميش، وعِزَّةُ النَّفسِ بالإذلال، لقد حُجزت تعويضاتنا، وانهارت القيمة الشرائيَّةِ لرواتبنا، ولا فرص عمل امامنا تليق باعمارنا ومؤهلاتنا، ناهيك عن العيش من دون كهرباء، بالله عليكم ماذا عسانا ان نفعل؟ انصحونا ارشدونا قولوا ما تشاؤون ولكن بما يرضي الله.
أقول هذا مناديا بالانصافِ واحترامِ المقامات، واعتمادِ مَعاييرَ مُتجرِّدةٍ تقومُ على الكفاءةِ والنزاهَةِ والابتعادِ عن المَحسوبيات، كي لا يبقى الشُّرفاءُ وحدهُم من يدفعُ الثمن. وعسى أن يُرحم أعزَّاءُ وطنٍ أُذِلوا ويُذلون كُلَّ يوم.

شاهد أيضاً

هل تُضحي أميركا بنفسها لأجل “إسرائيل؟” وهل بدأ التغيير الفعلي داخل الولايات المتحدة الأميركية؟

*كَتَبَ إسماعيل النجار* حقيقةِ أنه سؤال يَستحق الوقوف عنده والتمعُن فيه خصوصاً بعدما صحَىَ شعب …