حوار في الثقافة والسياسة من إعداد الإعلامي د. وسام حمادة

 

في زمن العولمة والإعلام المرتهن وترسيخاً لمفاهيم الثقافة والمعرفةالراقية والتي تعيش غربتها القاتلة تعيد مجلة كواليس وموقعهاالإلكتروني نشر لقاءات ثقافية وسياسية كان قد أعدّها وقدّمهالفضائية الإتحاد الإعلامي، د. وسام حمادة عبر برنامج 24 / 24

 

ولقاء العدد مع: ” الشاعر د. محمد علي شمس الدين” 

  عنوان الحلقة: ” الشعر لغة الأرض والإنسان

أغنية بعنوان:  ” مرثية

كلمات الشاعر: ” محمود درويش

ألحان وغناء:  ” د. وسام حمادة ” 

 

 

الأغنية

 

لملمت جرحك يا أبي برموش أشعاري

فبكت عيون الناس من حزني ومن ناري

وغمست خبزي في التراب

وما التمست شهامة الجار

وزرعت أزهاري في تربة صماء عارية

بلا غيم وأمطار

فترقرقت لما نذرت لها

جرحاً بكى برموش أشعاري

عفواً أبي

قلبي موائدهم وتمزّقي

وتيتّمي العاري

ما حيلة الشعراء يا أبتي

غير الذي أورثت أقداري

إن يشرب البؤساء من قدحي

لن يسألوا

من أي كرمٍ خمري الجاري

عفواً أبي..

 

 

ألتقي بكم عبر برنامج 24/24 الذي نسعى من خلاله لتقريب رؤىورؤية الضيف إن في السياسة أو في الثقافة، ساعين إلى علاقةتواصل إيجابي مع المتلقي، علّنا في ذلك نصل إلى إضافة نقاطنعبُر بها إلى تغيير في المشهد العام الذي تحكمه علاقات طغتعليها السلبية في الكثير من جوانب الحياة اليومية التي تعيشهاالشعوب في المنطقة بشكل عام وفي لبنان بشكل خاص.

يقول ضيفي: “أنا لا أملك سوى الكلمات، لذا الشّعر عندي أهمّ منالحياة وبالنهاية لا يبقى سوى النوعي وصفّ الحروف بالأمم واللغةعنده أمة بأكملها

هو صاحب تجربة متميّزة وأصيلة ومتجذّرة باللغة والأرض والإنسان،ويجمع فنياً بين مفهوم اللغة المتطورة والتصوير الشعري المبتكر،تكتبه القصيدة ولا يكتبها، تُعييه ولا يُعييها، فهو يمرّ عليها بخفةالساحر الذي يُسحر الألباب، فتتسمرّ حوله القلوب وتهتف له المآقيبانعكاس ضوء الحسّ على صمت الحنين فيها، قصائده مدار طقسصوفي تُزخرف معابد الحب فيصبح معه الإحساس سابقاً والشعرلاحقاً.

ضيفي حائز على العديد من الجوائز، وأعماله تُرجمت إلى العديدمن اللغات، منها الإسبانية والفرنسية والإنكليزية.

أرّحب بضيفي العزيز الشاعر د. محمد علي شمس الدين، أهلاًوسهلاً بك شاعراً عزيزاً في برنامج 24/24.

 

الضيف: أهلاً بك أيها الصديق.

 

 

بداية سنعرض تقريراً يُسلّط الضوء على مسيرة أضافت الكثير من النقاط البيضاء في عالم الشعر والكلمة والنص.

 

التقرير:

بين عربصاليم في إقليم التفاح، حيث بنى بيتاً للعُطَل والمناسبات،عِوضاً عن ذلك الذي نسفته إسرائيل، وبين بيروت حيث الإقامةوالإطلالة على الثقافة والأدب والشعر، حنين إلى بيت ياحون، قريتهالتي سلخته عنها الجغرافيا وشواغل الحياة ومشاغلها.

محمد علي شمس الدين، أديب وشاعر لبناني، حائز على دكتوراهفي التاريخ وإجازة في الحقوق، تفتّحت موهبته الشعرية باكراً إذأنه يعتبر من طليعة شعراء الحداثة في العالم العربي منذ عام1973، شارك في العديد من المهرجانات الشعرية في البلاد العربية،يعكف على كتابة مقالات نقدية وأدبية عن الشعر والأدب والفكر فيالمجلات والصحف اللبنانية والعربية، فأغلب شعره يتفاعل مع رموزالتاريخ العربي والإسلامي.

محمد علي شمس الدين عضو سابق في الهيئة الإدارية لإتحادالكُتّاب اللبنانيين، ومدير سابق للتفتيش والمراقبة في الصندوقالوطني للضمان الاجتماعي، ورغم انشغاله في الوظيفة لم يمنعهذلك من الانغماس في آتون الشعر.

كتب محمد علي شمس الدين مئات القصائد، وكتب أول نصوصهالشعرية وهو في الرابعة عشرة، حيث أصدر ديوانه الأولقصائدمهرّبة إلى حبيبتي آسياوبعد عامين على ديوانه الأول الذي أُعيدتطباعته مراراً، صدرغيم لأحلام الملك المخلوعوعلى هذه الوتيرةراح يُصدِر كلّ عامين تقريباً ديواناً أو كتاباً نثرياً أو أشعاراًوقصصاً للصغار.

عن علاقة شعره بالجنوب يقول: الجنوب حملني لكنّني أحمله الآن،الجنوب العظيم أعطانا النار التي أجّجت الشعر، المسألة فيها شيءمن الذاتية وشيء من الموضوعية، ليس المهم المعنى بل المهم مايُقدّمه نصّك الإبداعي الشعري.

إنه الشاعر المخضرم محمد علي شمس الدين

  

دكتور محمد أنت صاحب تجربة عميقة وطويلة، ديوانك الأول كانقصائد مُهرّبة إلى حبيبتي آسياوالديوان الأخيرالنازلون علىالريحفي هذه الفترة الزمنية بينهما هل تشعر أن هناك فرقاً بينالديوان الأول وبين آخر قصيدة من الديوان الأخير، خاصة أنالكثير من الشعراء يقولون أن التجربة الأولى دائماً تكون هيالأضعف أمام تراكم الوقت والخبرة؟

 

الضيف: بالنسبة للتجربة الأولى والتي هي ديوانقصائد مهرّبةإلى حبيبتي آسيالقد أتى مُختمراً بقوّة، لدرجة أنه حتى الآنيقولون عنّي صاحب قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا، فأنا ليسلدي نقطة ضعف اتجاه الديوان الأول، لأنه 99% من الشعراء لديهمهذه النقطة من الضعف، فهم يرفضون جلدهم الأول وقد يكون ذلكبسبب التسرّع، وهذا الديوان أخذ صدىً ولا يزال وهو من الدواوينالذي أشعر وكأنّني كتبته اليوم، وطبعاً هناك مسافة العمر والتجربةوالثقافة التي زادت، كما زاد اختبار الحياة مباشرة، لكن قصائدمهربة بدا من نقطة عالية جداً في الشعر العربي الحديث والمعاصربشهادات كثيرة لِنُقاد ولمُختصّين في هذا المجال.

 

وحتى هذه اللحظة هو من الدواوين المطلوبة دائماً.

 

الضيف: لقد أعيدت طباعته أكثر من عشر مرات.

وبالمناسبة آخر ديوان اسمهالنازلون على الريحويمكنني أن أقولآخر قصيدة منه لكي نرى كم هي المسافة التعبيرية بين النتاج الأولوالأخير، أي كيف أصبحت الحركة الشعرية بين يداي، ففي البدايةكان فيها سطوة وقوة وكنت أشعر أنني بالكلمات سأقبض علىالعالم، على الوجود، أما في الديوان الأخير وقبله في ديواناليأسمن الوردةوالغيوم التي في الضواحيأصبحت اللغة داخليةأكثر والحال أصبح أكثر التباساً.

والمرثية التي افتتحت بها هذا اللقاء للشاعر الراحل محمود درويشعن أبيه بهذا اللحن والأداء الجميل، جعلتني أودّ أن أُلقي علىمسامعكم القصيدة الأخيرة التي كتبتها لأبي، أولاً لتلاحظ الفارقبيني وبين نفسي، وثانياً الفارق بيني وبين محمود درويش.

 

 

تفضّل ويُسعدني أن أرافقك بالعزف على العود.

 

الضيف: عنوان القصيدةالقُبلةوهي القصيدة الأخيرة في ديوانالنازلون على الريح“.

 

القصيدة:

 

كان أبي يعبثُ أحياناً بالكلمات   

فيسألني مثلاً عن معنى القُبلةِ

كيف تكون

فأقول له القُبلةُ سرٌّ معقودٌ بين الشفتين

وجِسرٌ لا يعبُره إلّا الغاوون

يعجبُ من نزقي ويُعدِّلُ من جلسته ويقول

أنتَ نسيت الفِكرة يا ولدي وأضعت العِبرة

فالقِبلةُ حيث توجِّهُ وجهك نحو الله

كانت ما بين اثنين يضمّهما شغفُ الحبّ

وما زالت حتّى لو ذهبَت نحو جهاتٍ أُخرى

قلتُ إذاً، أنت تُصلّي حين تُصلّي بين الما بين

بين القِبلةِ والقُبلة

قال نعم، واعلم وتعلّم أنّ القُبلة

أجملُ ما في المعبود

سيان أكنتَ القاصد فيها

أم كنتَ المقصود.

 

 

جميل يا أستاذ محمد، من الواضح أن هناك شيئاً من الداخلأكثر من المباشر، لأننا اعتدنا على القصائد المباشرة وارتحنا لهاكمتلقين والتي قد نستسهل فيها الصورة الواضحة والأكثر قرباً إذاصح التعبير، لكن في هذا النمط من القصائد يجري العمل علىالداخل من حيث تحريك المشاعر التي في لحظة من الزمن أصبحهناك ابتعاد عنها نتيجة الاعتياد على المباشرة في كل شيء وليسفقط في النص الشعري، حتى في اللوحة أو في الموسيقى.

في هذا الوقت نشاهد في الساحة الكثير من الأسماء والنصوصوالكثير من الجوائز أحياناً والقليل من الشعر، هل تستشعر أن هناكأزمة شعر أم أن هناك أزمة شعراء؟

 

الضيف: دائماً في التاريخ الشّعر ليس كثيراً والأسماء ليستغزيرة، دائماً الشعر نادر وأقلوي وخاص، بمعنى أن الشعر هواستحقاق، أنت تستحق القصيدة حين تُحسن استقبالها، وإذا كنتلا تُحسن استقبال القصيدة فأنت لا تستحقها، لأن الشعر نعمةإلهية مُغدَقة على البشر، وعبر التاريخ كان ولا يزال الشعر العميق،الجميل والجليل في ذات الوقت قليلاً ونادراً، شأنه شأن الفكروالفلسفة والعلوم الراقية، إذاً هو من الهَدايا التي تفترض أن يكونالشاعر والمتلقي معاً في مقام من القدرة على التقاط هذه الجوهرةالنادرة وهذه المتعة الخاصة، وأنا لا أشرطها هنا بأساتذة الجامعاتوأصحاب الشهادات العليا أو المتعلمين.

 

صحيح وإلّا ستصبح نصّاً نخبوياً.

 

الضيف: نعم، لكنها استحقاق يعرف أصحابه، فمن الممكن أنيُشعرك فلاح بأنه تلقى غموض شعرك أكثر من أستاذ في الجامعة،كما يُمكن لامرأة عابرة أن تقول لك كلمة حول قصيدة لك قَرَأَتهاوتُفهمك أنها تلقت هذه القصيدة، أي أنها تلقت هذا الغامضوالجميل.

 

 

حتى وإن كانت اللغة صعبة؟

 

الضيف: حتى وإن كانت اللغة صعبة، لأن الوجود صعبٌ وغامضٌبحدِّ ذاته، فأنا لا أتصوّر أن الوجود واضح من نقطة الماء حتىالحركات الكونية، والشاعر يلتقط غموض الوجود، فالغموض ليسفي اللغة بل في الحال، وتأتي اللغة فيما بعد تابعة للحال الغامض،إذاً أنا شخصياً لا أتلقى الوجود بوضوح، هذا الوجود الذي فيهالكثير من الإصرار والكثير من الالتباسات، فأن تتلقى إشاراتالغموض في هذا العالم وتُعيد إنتاجها من خلال لغة إذا حفرت فيأصلها ستجد أن الغموض في الكائن وليس في اللغة فقط، أي أناللغة صدى للكائن، والكائن بحد ذاته غامض ومُلتبس، فالشعر فيهذا المناخ، ومثلاً حين يقول جوزيف حرب في القصيدة التي غنتهافيروز بالعاميةعينينا هني أساميناحين يكون الاسم عيناً، يعنياسمك هو عينك، هل هذا واضح؟!

 

هذه صورة نشعر بها دون أن نراها.

 

الضيف: يعني بإمكانك أن تتلقاها.

 

طبعاً لكنها غير واضحة لغوياً إذا صح التعبير.

 

الضيف: نعم لأنها غير مكشوفة.

 

 

 

وليست مباشرة.

 الضيف: أحسنت، جمالها أنها مواربة، جمالها بالصورة وبالتشبيهوبالاستعارة، بالنتيجة الشعر هو الاستعارة، وحين تستعير معنىذلك أنك تُوارب وتُخاتل، والفن كلّه مُخاتلة لكنها مُخاتلة جميلة أجملمن الانكشاف للواقع، هنا لا بد من وجود ثلاث أطراف: المُرسل وهوالشاعر أو الفنان أو الرسام أو غير ذلك لكن بما أننا نتكلم عنالشعر فإذاً الشاعر، وهناك الآخر الذي لا يمكن تحديده أيضاً، لأنهذا الآخر مطروح في الوجود ولا تعلم من قد يكون القارئ، فأنا لاأعرف من الذي يقرأ كتاباتي، وهناك القصيدة أي المُعطى، وحينيقرأ القارئ القصيدة فإنه يتلقاها تبعاً لشخصيته ولأفكاره.

 

ألا يذهب القارئ إلى الشاعر ويتبع شخصيته؟

 الضيف: لا، الشاعر هو جزءٌ منها، ولكن الجزء الآخر والمُكمّل هوالقارئ، حينها تولد القصيدة من جديد عبر قراءاتها المُتعدّدة، فأنتتتلقى تبعاً لشخصيتك ولنفسيتك ولأفكارك ولثقافتك وتبعاً لقدرتكعلى التَلقّي، لأن الناس ليسوا جميعا قادرون على أن يتلقّوا هذهالإشارات المُرهفة الجميلة والغامضة التي غالباً ما تعجز عن التعبيرعنها، ولو سألتني ما هو الشعر، سأعجز عن أن أقول ما هو الشعر.

 

لقد كان هذا سؤالي لكن الآن أصبحت عاجزاً عن طرحه.

 الضيف: أنا أطرحه عليك، لأنه من التعريفات الكثيرة برأيي أنالشعر هو غناء ضدّ الرّعب، وإحدى تعريفات الشاعر سعيد عقلللشعر وردت في بيت من الشعر يقول فيه: “الشعر قبضٌ على الدنيامشعشعة كما وراء قميصٍ شعشعت نُجُمإذاً الشعر برأي هذاالبيت هو قدرة القبض على عنق الوجود، على الدنيا وهي مُشعشعةبين يديك، ويعطيك التشبيهكما وراء قميص شعشعت نُجُم،التشبيه هنا هو النجوم وراء قميص والأرجح أنه قميص أنثوي لأنهأجمل، والنُجُم ربما يرمز فيها إلى الأعضاء الأنثوية الجميلة التيتُشّعُ، من نهدين أو بياض أو ما إلى ذلك، وحين توفّي سعيد عقلرحمه الله دخلت معه في حوار حول الشعر عبر أبيات ألقيتها فيرثائه، سأقول الأبيات الثلاثة الأخيرة من هذا الرثاء:

ماذا سنفعل بالياقوت يا أبتي وكلما زاد بُعداً زدته طلبا (وهنا أرمزبالياقوت للشعر)

أصل الحكاية أن الشعر كأس طِلاً والخمر أجمل ما يروي إذاانسكب

لكنه شَفَّ حتى خلته قمراً خلف القميص فلما أوشك احتجب.

إذاً ليس قبضاً على الدنيا مُشعشعة، بل هو هروب الأشياء من بينيديك، هو هروب النُجُم من بين يديك.

 

 

يعني هو تماماً عكس ما طرحه في الشعر.

 الضيف: هو العكس ولكن الإبداع في مكانه من حيث الإيقاع واللغةوالصورة، ومن حيث الاحتيال على المعنى، فالشعر له تعاريف كثيرةولكن أجمل تعاريفه بأنك لا تعرف ما هو ويُعرف بأثره، وكل الأشياءالجليلة والعظيمة فيها شيء مستور، الله عزّ وجلّ لا يمكن أن يتجلّىلك، وحين تجلّى لموسى في القرآن خرّ موسى صعقا، فهناك سرّمحجوب في الأشياء العظيمة والجميلة، والحجاب يعطيك هيبة.

 

ويُعطيك شغف للمعرفة ويُحرّك لديك السؤال.

 الضيف: كما يُعطيك حبّ الاكتشاف، فالمسألة ليست بالكشف، وأناأقول في إحدى قصائدي: “أنت أيتها المرأة التي أناديك فيالقصيدة سترتِ أم كشفتِ ما نراهدائماً سرّ الشعر مثل سرّ المرأة،المستور فيها أجمل من المكشوف، مثل سرّ الطفل وسرّ الوجود، مثلأي سرٍّ في العالم وكأيّ جمال فيه، والجمال دائماً مُسربل بالأسئلةوالأسرار.

 

لكن ألا تشعر أن هذا التمكُّن الدائم من الدخول في النص بهذاالحجم من الغموض المُغلّف بالجمالية  وبالسؤال وبالشغف كماتفضّلت يُشكّل حالة من الصعوبة لدى الشاعر؟

يعني أن تبقى في هذا المناخ وهناك ما هو أسهل للشاعر وحتىللمتلقي من حيث إعطاء الصورة الأقرب إلى مفاعيل حياته اليوميةوالتي قد تمّ الاعتياد عليها من قِبَل أكثرية الشعراء وعبر أغلبالقصائد.

 

الضيف: في الحقيقة أنا دخلت في تجارب مع نفسي عبر حياتيالشعرية، وقمت بإعادة نظر ونظر وإعادة نظر لِما أكتب، هنا المعادلةصعبة جداً، فأنت حين تصل إليها تكون قد وصلت إلى لُقيا ثمينة،والمعادلة التي وصلت إليها أنا عبر هذه التجارب هي أن أكون أكثرما أستطيع من البساطة وأكثر ما أستطيع عُمقاً في وقت واحد، أيأن تكون بسيطاً وعميقاً كنقطة الماء، مثال على ذلك خذ قصيدةالقُبلة التي ألقيتها قبل قليل وأنت تلقيتها.

 

 

وقد وصلتني بشكل جميل.

 الضيف: رغم الالتباسات الموجودة فيها، التباسات في اللغة وفيالحال وفي الصلاة.

 

التباسات حتى على مستوى الفكر.

 الضيف: نعم هناك التباسات في فكرة الصلاة،أنت تصلّي حينتصلّي بين المآبين، بين القِبلة والقُبلة، قال نعم وأعلم وتعلم أن القُبلةأجملإذاً هو انقلب من القِبلة إلى القُبلة ولعب بين القِبلة والقُبلةهو يعني أنالقد لعبت بين الكسرة والضمة في اللغة فبالنتيجةالشعر لغة، وهذا اللعب قدّم لك الشغف في أن تعرف ما هوالموضوع وماذا يريد هذا الشاعر، ثانياً أن يكون هناك مفاجأة، كأنأتكلم عن القُبلة وفجأة أصبح في القِبلة ومن ثم أدمجهم في الصلاة،وهذه نصيحة أبي، إذاً هذي الحال هي بسيطة وعميقة ولا يمكنلأحد أن يقول لم أفهم ذلك، كما أنه لا أحد قال لي أن هذه القصيدةسطحية أو سهلة.

 

فيها فن إجادة الكتابة والتأثير.

 الضيف: فيها تورية وفيها اللعب على الكسرة والضمة في اللغة،وفيها العمق والدعوة للتأمّل، لا يُمكن أن تكون مُحايداً في الشعرلأن الشعر المُحايد شعراً بارداً وسطحياً، فالمطلوب أن يكون الشعرفي حالة أقصى ما يمكن فيها من البساطة وأقصى ما يمكن منالعُمق في لحظة واحدة، وجمع هذين النقيضين أجده في أشعاراليونانييانيس ريتسوسوبابلو نيروداوأجده في بعضأشعار الراحلأمل دنقلوبدر شاكر السيابإذاً هذا موجود،وإذا قلت لي أين القارئ وهل هذا صعب عليه، أقول لك أن القصيدةهي التي تختار القارئ أكثر من اختيار القارئ للقصيدة.

 

 

لكن في زمن تعاني فيه اللغة ما تعانيه، كيف سيجد الإبداعسبيله؟

 الضيف: لماذا هذا الكسل اتجاه القصيدة! لماذا الآخر لا يكدّويجتهد! لقد جمّدت ديواني ستة أشهر وأنا أبحث عن عنوان له، إلىأن وصلت إلىاليأس من الوردةوهذا العنوان ليس سهلاً، إذ أنالجميع استعملوا الوردة كما يريدون لكن ما من أحد جمع بيناليأس والوردة.

 

هذا صحيح فاليأس من الوردة جديد وغريب.

 الضيف: جمع اليأس مع الوردة قصة تُدهشني حتى الآن رغم أننيصاحبها.

 

عادة يكون اليأس من الأشياء غير الجميلة والوردة عنوان دائم للجمال.

 الضيف: فكيف لك أن تيأس من الوردة، معنى ذلك أن هناك شيئاًيريد أن يفتح لك كلّ حواسك وكلّ معرفتك وكلّ شفافيتك.

 

حبذا لو تُسمعنا بعضاً مما جاء في ديواناليأس من الوردة“.

 الضيف: “دموع الحلاجهي القصيدة الأولى من ديواناليأس منالوردةوالحلاج كما هو معروفحسين بن منصور الحلاج”  شهيدالعشق الإلهي في الإسلام، الذي شطح وكان ثائراً، ثم قُتل وصُلبوقُطّعت أطرافه وأُحرقت جثته وذُرَّ رمادها في نهر دجلة. والقصيدةتقول:

يا نسيم الروض خبّر للرشا . . . لم يزدني الوِردُ إلا عطشا

أعليتُ دموعي

كي تبصرها يا ألله

وقلتُ: أعيدُ لك الأمطار

فلتنشر غيمكَ حيث تشاء

فإن الغوثَ يعود إليكْ

والحزن يعود إليّ

وأنا

حين ربطتُ الريح بخيمة أوجاعي

جمّعتُ ينابيع الأرض ففاضت من ألمي

هذا ألمي

قُرباني لجمالِكَ، لا تغضب

فأنا لستُ قوياً حتى تنهرني بالموت

يكفي أن ترسلَ في طلبي

نسمةَ صيف فأوافيكْ

وتحرّك أوتار الموسيقى

لأموتَ وأحيا فيك

هذا ألمي

هذا ألمي

خفّف من وقع جمالك فوق فمي

كم دمعة فيكَ لي ما كنتُ أجريها

وليلة لستُ أفنى فيكَ أفنيها

لكنني وأنا عانٍ ومُنتهبٌ

وحدي على وحشتي أطوي فيافيها

ساءلتُبابلَعن نار تؤرّقها

والأرض تنشر موتاها وتُحييها

فلم تجبني، فلما غابَ شاهدها

أبصرتُ خيط دماها في سواقيها

وجئتُبابلَمحمولاً على خشب

والريحُ تدفع ريحاً في نواصيها

فما رأيت على أبراجها قمراً

ولا سمعتُ أنيساً في مغانيها

أرسلتُ غزالاً نحو الشمس لينطحها

وأسلْتُ بكائي في القصبِ

ليس نبيذاً ما يعصره العصّارونَ

ولكن فيض دمي في العنبِ

سأهيم على وجهي أسأل عمّن يسقيني الماءَ

فلا أسمع غير طنين ذباب الأعراب على الكتب

من حولي سبعة أنهار

وبحار تذرعها الحيتانُ

وأذناب يخوت من ذهبِ

وأموت بصحرائي عطشا……

شرَدَ العقلُ

وأفلتتِ الكلماتُ

وجُنّالمتدارَكُفيالخَبَبِ

وسأُقتَلُ

أعلمُ يقتلني الأمراءُ

وأصلب

ما بين اللد ومكة والنقبِ

بنيتُ مسجد أوجاعي على جسدي

وطفتُ حوليَ بين الركنِ والحجرِ

إني إمام طواسيني، وخادمُها

وحامل الطائر المذبوح في السفرِ

أبكي عليه وأُبكيهِ وأرسلهُ

كما يسوق غماماً سائقُ المطرِ

صليتُ ببغداد صلاة الدمْ

ونثرتُ بغزة أوجاعي

وعبرت الجسر الواصل ما بين الموت وأضلاعي

دمعي أصل الطوفان

وقرباني جسدي

فاقطع إن شئتَ يدي

ستموج الغابة بالأغصانِ

ويعلو للأشجار عويلٌ

حتى يثقبَ سقفَ القبّه

من لم يعرف وجع الإنسانِ وغربته في الأرضِ

فلن يعرف ربّه

.

 

أحسنت يا دكتور محمد.

 الضيف: كانت مرافقة موسيقية جميلة.

 

حقيقة إنه شعر يُغني نفسه ولا يحتاج إلى مُلحن.

 الضيف: أنا شديد الانتباه للإيقاع في الشعر.

 

هذا واضح، أنا أدّعي أنني هاوي موسيقى وتلحين، لكن هذاالشعر جعلني اشعر وكأنني أسمع قصيدة مُغناة أكثر من كونهانصاً شعرياً فقط.

 د. محمد أنتم في مرحلة من المراحل كنتم عصبة الشعراء الجنوبيين،وقد قيل ما قيل حول هذه المجموعة من الشباب الذين كنت واحداً منمؤسسيها، وهناك من اعتبرها رداً على شعراء القصيدة الفلسطينيةوالوطنية والثورية، خاصة أن تلك المرحلة كانت حافلة بالزخموالعصبية الوطنية والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، كم كان لهذهالمرحلة تأثيراً عليك؟ ولماذا لم تتشكّل حالة من الاستمرار لهذهالعُصبة؟

الضيف: تنسيب الشعر للجغرافيا عتيق، قيل مثلاً شعراء بغداد أوالنجف أو شعراء الأرض المحتلة أو شعراء بيروت أو جبل لبنان أوغير ذلك، هذا التنسيب للجغرافيا وارد في التراث العربيوالإنساني، لكن تسمية شعراء الجنوب ربما مأخوذة من جملةشعرية لي وهي: (كل الجهات التي حددتني غدت واحدة) فيقصيدةدخان القرىومطلعها:

هو القلب

أم حفنة من دخان القرى

قال لي صاحبي:

نشأنا معاً

وضحكنا معاً

وشربنا معاً

وَحْلَ أقدامنا

فهل أنت مثلي غداً

ميّت في المدينة

قلت: هذا اتجاهي

من النهر حتى احتراقاته

في الخليج

جنوباً

جنوباً

جنوباً

وكلّ الجهات

التي حدّدتني غَدَتْ واحدة

قال لي:

أنت لا تعرف

الأرض والآخرين

قلتُ: أمي نهتني عن الموت

إلّا على صدرها

قال: خُذْ رقم قبري

وغابْ

ولما التقينا

بكينا معاً

فوق صدر التراب.

شعراء الجنوب هم شعراء تلك المنطقة من الأرض التي كانت تعيشالمواجهة والحصار حيث البطولة والدم والشهداء، وكان الشعر بوجودعدد من الشعراء المعروفين، منهم من أكمل ومنهم من توقف، فهناكشعراء توقفوا عن الكتابة منذ 15 سنة أو 20 سنة وهم من أجملالشعراء وأنا شخصياً أحبهم، مثل حسن عبدالله فهو شاعر جميلجداً، توقف عن كتابة الشعر منذ مدة طويلة ثم عاد مؤخراً وأصدرديوانظل الوردةلكن أنا لم أعتبره من تراث حسن عبدالله، وقدقلت له هذا الكلام وهو يعرف ذلك، فإذاً كان هناكظرفاً تاريخياًمعيناً وصدفة أوجدت عدداً لا بأس به من الشعراء المبدعين حقاً،وممن ارتبطوا بهذه الأرض الجنوبية التي كانت جزءاً من أشعارهمبطبيعتها الرائعة وشهادة أبطالها ونضالهم، كما كان هناك أفقاًسياسياً وطنياً (تقدمي) يحكم هذه العلاقة، وأيضاً كان هناك نوعاًمن التحالف بين الحركة الوطنية اللبنانية تاريخياً وبين المقاومةالفلسطينية، كل ذلك أنشأ هذا المناخ وأنشأ شعراً غير خطابيوهذا هو المهم في الموضوع، فالكثير من الشعر المقاوم الفلسطينيشعراً خطابياً، حتى أن أهمّ الشعراء تنصّلوا منه، ومنهم محموددرويش الذي تنصّل من سجّل أنا عربي ولماذا!

 

 

مع الأسف أحياناً لا تتضح جيداً هذه الأمور.

 الضيف: بأسف وبلا أسف لماذا! لأنه يعرف أن هذا ليس شعراً،الشعر هو كما ذكرت لك البسيط والعميق، وهو يعرف أن سجل أناعربي خطاب، إذاً كان بين هؤلاء الشعراء من اعتبر أن الشعر مسألةليست خطابية وليست صدى للسياسة وهنا أرجو الانتباه، أشعارناليست صدى للسياسة، كما أن هناك الأعماق الفنية الضروريةللشعر.

وهذه الكتلة الأوليّة تشكّلت حول المركز الثقافي اللبناني الجنوبيوصديقنا الشاعر والمناضل حبيب صادق كما هو معلوم، وبعد ذلكتفرّق الشعر.

 

قبل أن ينتهي الوقت ولأنك من المؤيّدين للمرأة نصاً وشعراً ولكالكثير من الكتابات في هذا الخصوص، أودّ أن نختم هذا اللقاءببعض الأبيات مما تُحبه للمرأة ليكون هناك توازن بين النص المقاوموالفلسفي والمرأة التي تُجسد نصف هذا المجتمع.

 الضيف: المرأة تاج على رأس هذا المجتمع، لذا سألقي قصيدةحديقة مريموهي قصيدة قديمة.

 

القصيدة:

أطبقت مريم جفنيها على جفن النخيل

وسقتني قهوة مثل مزاجي

أطبقت مريم جفنيها على صورتها

فرأتني،

 كان يا مكان يوم الثلاثاء

وكان الطقس عشبا

والفراشات التي تخرج من كُمّ الفضاء

تتلاشى كفضاء الصحراء

جلست مريم في مرمى الحديقة

مرّ قناص ولم يقنص

ومرّت في الحديقة طفلة خضراء مثل الشجرات

قلت فلأعبر وأطلقت عناني

نظرت مريم لم تُخطئ حصاني

ورأت ظلي فسمته التراب

ورأت كفي فسمتها الزمن

ودعتني فتداعيت إليها

أخذت مريم غصن الشجرة

رسمت خطين لليأس وخطاً للأمل

ثم شقّت صدرها العاري كرمّان الجبل

وأشارت للدم المعقود فوق الثمرة

وأشارت للجبل إنها تمطر في السر

وقبل الكائنات في أقاصي مريم المنهمرة.

 

 

جميل جداً د. محمد علي وأشكرك جزيل الشكر على هذا الحضورالجميل.

 الضيف: وأنا بدوري أشكرك على مرافقتك الموسيقية أيها الفنانالجميل، وحقيقة هذا الانسجام بين الشعر والموسيقى هو انسجامفطري برأيي لأن الإنسان غنّى قبل أن يتكلم.

 

لو قُدّر لنا من يُقدّر هذا النوع من الإبداع لكان هذا العالم أجملولا أعتقد أننا كنّا شاهدنا هذا المشهد السوداوي.

 الضيف: صحيح أنه ليس هناك تقديراً من جميع الناس لكنه موجودوهو الرهان الذي سيجعل الحياة مستمرة.

 

على أمل الاستمرارية للحياة بهذه الجمالية أشكرك مجدداً حضرةالشاعر الدكتور محمد علي شمس الدين.          

  

لمتابعة الحلقة معالشاعر د. محمد علي شمس الدين” 

 

  

رابط صفحة اليوتيوب لبرامجد. وسام حمادة” 

  

https://www.youtube.com/channel/UC0AuXJduId6PcXIkK9x1phw/videos 

  

متابعة وإشراف: سهام طه 

إعداد وتقديم: د. وسام حمادة 

 

 

شاهد أيضاً

إنتخابات رئاسة الجمهوريّة على ساعة تطوّرات حرب غزة وحصول الهدنة فيها البعريني لـ “الديار”: “كتلة الإعتدال” ستجتمع لتقييم مُبادرتها ووضع آليّة جديدة

    كمال دبيان عام ونصف العام واستحقاق انتخاب رئيس للجمهورية لم ينجز، وقد يطول …