إيه في أمل ( قصة قصيرة )

  الحلقة الثالثة

كلّن رح بفلوا وبيبقى الجنوب..

بقلم الشاعرة سناء زين معتوق

 

في الثاني عشر من شهر تموز عام ٢٠٠٦، استفاق الجنوبيون على خبر قيام المقاومة بعملية أدت إلى أسر جنديين إسرائيليين، بهدف إطلاق سراح المعتقلين في سجون العدو ، وكانت الكارثة…. قصف برّي وجوي وبحري جنوني بل هستيري لم يوفر لا البشر ولا الحجر، مئات الآلاف نزحوا من بيوتهم، تاركين حقولهم وأرزاقهم لآلة عسكرية لا تفقه إلا التدمير والقتل والحرق، كان القرار في بادئ الأمر أن نصمد في أرضنا، استطعنا الصمود خمسة أيام تحت القصف، هدير الطيران مرعب، خاصة وأن هذا الطيران كان يقذف حقده وصواريخه على المنازل المأهولة بأصحابها فيخلف الشهداء من الأطفال والنساء، كان من الطبيعي بعد هذا الجنون أن ألجأ لوالدّي في مثل هذا الظرف المجنو ..

في اليوم الأول من العدوان الصهيوني، اجتمع من بقي في البناية من الجيران، في منزل عائلتي محاولين الإحتماء ببعضهم، وسعياً من الجميع الإحتيال على الخوف بل على الرعب المخيم علينا، قصف ليلي طال القرى المحيطة بنا ووصل إلى أطراف ضيعتنا، قصف طال كل شيء  وأي شيء يعتقدون أنه يتصل بالمقاومة، أمضينا خمسة أيام على هذا النحو، قصف وضرب وصواريخ وطيران دون انقطاع، عاشت ابنتي خمسة أيام من الذهول، هي خائفة.. مرعوبة.. ولكن لا تعلم لماذا..؟!! أذكر عندما تم قصف منزل لأحد المقاومين ليس ببعيد عن منزل عائلتي حيث كنا، فما كان منها إلا أن وضعت يديها على أذنيها وأصابتها نوبة صراخ وبكاء، خاصة وأننا بدأنا بالركض داخل المنزل محاولين الإختباء، ردات فعل ساذجة إذ لم يكن من مكان آمن وسط كل هذا الحقد، لكنها ردات فعل طبيعية تحمل الكثير من معاني التمسك بالحياة والتشبث بالأرض، بكت أمي وصرخت لن أبقى هنا بعد اليوم ستصاب حفيدتي بالجنون إذا بقينا يوما آخر، وهذا ما حدث فعلاً، فبعد ليلة من القصف العنيف المجنون، خاصة أن المقاومة بدأت باستهداف المستعمرات اليهودية، ذلك يعني أن الحرب لن تكون في أرضنا فقط، كما اعتاد الكيان الغاصب طوال فترة حروبه مع العرب، ذلك يعني أيضاً، أن التدمير والموت والنزوح لن يقتصر علينا فقط، بل سيطالهم أيضاً.

عندما بدأ الفجر يشق ظلمة السماء، انطلقت مسرعة إلى منزلي ولم يكن بعيدا عن بيت أهلي، وضعت بعض الملابس لي ولإبنتي في حقيبة صغيرة، كان علي التفكير بسرعة بما يتوجب علي أخذه معي، وقفت عدة ثواني، تذكرت!! أوراقي الثبوتية فأنا لا أعلم إن كنا سنعود إلى أرضنا بالرغم من ثقتنا بالمقاومة، لقد كان مشهداً مخيفاً، حدثت نفسي… هيا أسرعي فالوقت ليس من صالحي وقد استأنفت آلة العدو حقدها، في لحظة سريعة، وقع نظري على زجاجة عطر كان زوجي قد أهداني إياها، أخذتها ووضعتها في الحقيبة وقد بدأت دموعي بخذلاني، لماذا انهمرت أنا قوية ولا أريد أن أبكي، ولكني ربما تمنيته أن يكون معي أو ربما شعرت أنني بحاجة لأي شيء يذكرني به.

بسرعة حملت الحقيبة وقصدت الباب، آه تذكرت!!! يجب أن أفتح النوافذ وذلك تقليلاً من الضغط الذي يسببه القصف وجدارات الصوت الذي يقوم الطيران باختراقها، بهدف الزيادة بالترهيب، أنجزت ما كان علي فعله، ودعت إخوة زوجي ورجوتهم أن لا يبقوا في الجنوب، فالموت محتوم هذه المرة، رفض أحدهم وبشدة قائلاً لن أترك بيتي… إلا أنه وبعد ضغط من شقيقه قد استسلم للنزوح حيث أنه قد وضعه تحت ضغط تأنيب الضمير، فقال له حسنا يا أخي سأذهب لأوصل عائلتي إلى صيدا ثم أعود، فإما نموت معاً أو نحيا معاً، هذا الضغط جعله يعدل عن قراره بالبقاء.

تركتهم يجمعون حاجياتهم، وعدت مسرعة إلى بيت أهلي، تفاجأت بقرار جديد، إذ قرر والداي أن أذهب أنا برفقة الجيران ريثما يجدان من يقلهما إلى بيروت، أرادا أن يطمئنا علينا لذلك طلبا من الجيران أن يصحبونا معهم، رفضت في بادئ الأمر لكن أمي أكدت لي أنهما سيلحقان بنا و أننا سنبقى على تواصل، صعدنا بالسيارة وانطلقت بنا السيارة مع جارتنا وزوجها وأولادهما، لم نكن نعلم إلى أين سنتوجه، كل ما نعلمه أننا نريد الهرب من الموت الذي كان يلف الجنوب كله.

الطريق عادة من الجنوب إلى بيروت تحتاج إلى ساعة ونصف، ولكن هذه المرة استغرقت تسع ساعات، ما إن انطلقنا متجهين إلى حيث لا ندري، بدأت روحي تغادرني وأخذ القلق يعبث بي، هل سنعود؟؟؟؟ هذا هو السؤال المصيري الذي أجزم بشكل قاطع أنه كان يدور في رؤوس الآلاف بل عشرات الآلاف الهاربين من آلة الحقد الصهيونية، اللون الرمادي قد طغى على المباني والطرقات بفعل القصف، كان الجميع من حولنا يخرجون رايات بيضاء من نوافذ سياراتهم ظنا منهم أنهم سيكونون بمنأى عن ذراع الحقد الصهيونية، كما أن جميع السيارات التي مرت بجانبنا، كان أحد راكبيها يقرأ القرآن، أو على الأقل ممسكا به بكلتا يديه ولا عجب في ذلك، ف ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وقلوبنا كانت بحاجة لذكر الله كي تستكين قليلاً، رن هاتفي وكان المتصل زوجي، كانت الساعة حوالي الثامنة صباحا، جاء سؤاله الفوري.. كيف حالكم وأين أنتم؟؟ بمثابة لمسة سكينة كنت في أمس الحاجة لها، هو لم ينم منذ بداية الحرب، وشعر بنوع من الطمأنينة عندما أخبرته أننا في طريقنا نحو النزوح إلى بيروت مبدئياً، تحدث مع صغيرته، حاول أن يهدئ من روعها مع علمي أنه خائف أيضاً.

في بادئ الأمر اتجهنا صعوداً نحو منطقة الجبل، مع العلم أن الحرب لم تستثن أي منطقة في لبنان يدور حولها شك أنها تتصل بالمقاومة بأي شكل من الأشكال، فأي منطقة يشتبه بوجود ما يوحي أنها تنتمي أو تتصل ببيئة المقاومة، فإنها حتماً في دائرة الإستهداف نسيباً، ذلك يعني أنه يتوجب علينا النزوح إلى مناطق معينة، اختبرنا فيها التنمر والتهكم بأبشع صورهما، واختبرنا أيضا التضامن والتعاطف بأرقى أشكالهما، وصلنا أولا إلى منطقة (القماطية) قضاء عاليه، اصطحبنا مختار البلدة إلى مستودع قال لنا أنه مخصص للنازحين من الجنوب، لم يوافق أحد من الجيران على اللجوء إلى ذلك المكان بسبب اكتظاظه باللاجئين، وفضلوا البحث عن مكان آخر، في نفس الوقت اتصل والدي وأخبرنا أنه أصبح على مقربة منا، فذهبت للإلتحاق بهم، وانطلقنا لمواصلة البحث عن مكان نلجأ إليه.

وسط كل هذا الألم والدموع والقهر… بارقة حب ووفاء ، صديق حبيب لعائلتي مقيم في دولة قطر ، اتصل بوالدي وأخبره أنه بانتظارنا في بيروت ليقوم بواجب الصداقة!!! ياللعجب كيف جاء ولماذا؟ فلقد قُصف المطار نحن الآن تحت سطوة الحرب هو ليس مضطرا للمخاطرة بحياته… لكنها الصداقة والكثيرون لا يفقهون معناها… بالفعل التقينا به، اصطحبنا إلى فندق صغير في منطقة الحمرا تمهيدا لانتقالنا إلى شقته في منطقة زكريت، فتحها وجهزها لنا، وبالمناسبة عمي هذا ليس لبنانياً، بل هو من العراق الأشم، أمضى قسماً من حياته في الكويت حيث كنّا وكان صديقاً لعائلتي وعندما سمع بأخبار العدوان على لبنان حضر فوراً ليكون بجانب أصدقائه في محنتهم.. هو الوفاء الذي لا يستطيع أحد أن يفسره خاصة في أيامنا هذه حيث الغايات والمصالح فقط هي التي باتت توجه علاقات البشر.

مرت الأيام ثقيلة، ننام على أخبار القصف والدمار، ونصحو على أخبار المجازر، وأسماء الشهداء، لطالما غزتني أفكار سوداء هل حقا سنعود إلى أرضنا وبيوتنا؟ هل ستنتصر المقاومة بعد أن وعدنا سيدها بذلك؟ النفسية كانت محطمة نتيجة النزوح، عدا عن الإنقسام العامودي الذي أصاب المجتمع اللبناني، فالبعض رأى أن خطف الجنود هو مغامرة ونحن ندفع ثمنها الآن من دماء شهدائنا، والبعض الآخر نظر إلى عملية الخطف على أنها حق من حقوقنا لضمان خروج الأسرى، التي كان يعتقلهم الكيان الغاصب منذ العام ١٩٨٢ وحتى القيام بعملية الخطف، ونحن عالقون بين هؤلاء وأولئك نتعرض إلي نظرات الشماتة  وعبارات التنمر تارة، وإلى التعاطف والتضامن اللامحدود طوراً.

كل ما سبق أثر على وضعي الصحي بشكل ملحوظ، فبدأت ملامح المرض تظهر علي،  مشيتي بدت أثقل، توازني بدا أقل، يدي اليمنى بدت أضعف، ولكنني لم أقف عند هذا الأمر، فنحن نمر بظرف عصيب ووضعي الصحي يبدو أمرا تافهاً أمام ما يعانيه الجنوب… مر شهر  على نزوحنا، دموع.. حزن.. شعور بغربة قاتلة مع العلم أننا نعيش ضمن حدود الوطن، تراءى لنا كل أنواع الظلم  النفسي، كانت أي كلمة عن الجنوب تبكينا، أي قصيدة، أي أغنية، حتى جاء ذلك اليوم الذي صدحت به جوليا… عاب مجدك بالمذلة والهزائم…

يتبع الأسبوع المقبل

شاهد أيضاً

حتى لو طارت روحي

ميرنا كميل شعيا حتى لو طارت روحي وتجولت لامسةً ضوء عرش مملكة نجوم تربعت بشغف …