إيه في أمل (قصة قصيرة)

الحلقة الثانية

الدخول في نفق مظلم…

بقلم الشاعرة سناء زين معتوق

 

 

في بيروت، وفي مستشفى الجامعة الأمريكية بالتحديد، تكررت نفس رحلة العذاب، صور مغناطيسية، فحوصات مخبرية، إلا أنهم قاموا بسحب سائل من النخاع الشوكي، مما سبب لي ألما شديدا، رافقه شعور بخوف شديد إذا ما ثبت تقرير الطبيب الأول.. بدأ هاجس المرض يجتاحني وبدأت أخاف من هذا المجهول الذي قرر اقتحامي.

خمسة أيام كانت كفيلة بانهيار كل ما حلمت به، خمسة أيام، دخل الطبيب حيث أرقد، وأخبرني أنه لا بد لي أن أتعايش مع ضيف ثقيل قرر أن يقذف سواده على بياض عمري، وبدأ بشرح المرض بشيء من التفصيل، هو إلتهاب يصيب الغشاء الذي يغلف العصب في الدماغ، يبدأ ببقعة صغيرة ثم تكبر مع الأيام، إلى أن تعجز الرسائل العصبية من الوصول إلى العضو المتصل بهذا العصب، وبالتالي ومع تمدد ذلك الإلتهاب، يفقد العضو قدرته على الإستجابة  للرسائل العصبية المرسلة من الدماغ، باختصار شديد هو شلل تدريجي، بطيء جدا يطال كل أعضاء الجسم، بدءا من الأطراف وصولا إلى جميع أجهزة الجسم الداخلية،  وبالتالي إلى أن يطال كل ما يحتويه جسم الإنسان من أعضاء..

صدمة أصابتني… ما هذا المرض؟؟؟ هو خبيث فعلاً، ماذا ينوي أن يفعل بي؟؟ ولماذا اختارني أنا بالتحديد؟؟ تأكد الخبر.. انتهيت ولكن ببطء، قدر أحمق، غبي، ولكنني لا أملك أن أغيره، لا أملك إلا أن أتأقلم معه، لكني أشعر بالغضب، بالعتب على الله، فأنا لم أغضبه في حياتي، لم أكذب، لم أسرق لم أقتل، لماذا استكثر علي أن أعيش حياة طبيعية كباقي البشر؟!

تأكد أني مصابة بذلك المرض… غادرت المستشفى عائدة إلى المنزل برفقة زوجي الذي لم يتركني أبدا، وفي طريقنا إلى البيت كان الصمت يخيم على كلينا، شعرت أن الطريق طويل، طويل جدا، شريط حياتي كان يمر أمامي، وتمر معه صور لطفولتي وصباي، ثم تتلاشى وتحترق بنيران ذلك القدر اللعين، عاصفة خريفية عصفت بربيع أزهاري، فمزقت أوراقها ونثرتها على صفحات هذه الحياة القاسية، نار جهنمية قد أطفأت بريق طموحي وحولته إلى سراب، ثم رمت بي في أتون المجهول، ولكن مهلا… لماذا لم ينطق زوجي بأي كلمة؟؟ لم أسأله ولكن حدثته في سري.. لا تتركني أرجوك، فأنا بحاجة إليك أكثر من أي وقت مضى.

أين أنت يا أمي؟؟ احضنيني فإن الكثير من التعب يملأ قلبي.. خبئيني تحت جلدك فإن وحشا مفترسا قرر التهامي، املئي صمتي بصوتك لأطمئن، فإن صمتي يضج ببكاء روحي، ألم تخبريني في طفولتي أنك ستكونين شمسي التي تشعرني بالدفء؟ ها هو البرد يا أمي قد عاث بفؤادي وتجاوزه فبلغ أعماقي، فما عاد دفء الكون يعيد إلي ابتسامتي ولن أشعر بحرارة الحياة بعد الآن.

كان علي أولاً وقبل كل شيء أن أكون فكرة عن هذا المرض، فأنا لم يسبق لي أن سمعت عنه شيئاً، بدأت بجمع المعلومات عن طريق شبكة الأنترنت، مقابلات مع أطباء ومعلومات علمية دقيقة كانت كافية لتؤكد كلام الطبيبين اللذيْن أشرفا على حالتي، سواء في صور أو في بيروت، يعني أن حالتي الصحية ستسير من سيء إلى أسوأ، وهذا المرض يتطلب أسلوباً معيشيا خاصاً جداً، حتى تكون عملية تطوره بطيئة قدر الإمكان، هذا ما أكده الأطباء الذين اطلعوا على ملفي الصحي في كل من فرنسا وكندا وإسبانيا.

كان علي أولاً تخفيض ساعات عملي، هذا ما طلبه طبيبي الذي رافق حالتي، وبالفعل طلبت من إدارتي ذلك ولقيت تجاوباً منها، ولا بد من توجيه شكري وعظيم امتناني لمربيات فاضلات رافقنني بأشد آلامي، ولا زلن صديقات حبيبات وقريبات جداً كنت تلميذتهن ثم أصبحت أعمل تحت إدارتهن ولم أجد منهن إلا كل حب واحترام ووفاء، في زمن عزت وندرت هذه الصفات حتى باتت عملة نادرة.

مضى عام على مرضي، لم أشعر بفارق كبير في صحتي إلا أن صاعقة جديدة كانت بانتظاري، فقد قرر زوجي السفر كالآلاف من الشباب بغية تحسين الوضع المعيشي، كيف لك يا حبيبي ويا رفيقي أن تتركني وحيدة أصارع القدر بمفردي؟؟ كيف سنعيش أنا وإبنتنا بدونك؟ أنا لا أستطيع بل لا أقوى على ذلك، ولكن ماذا أفعل ذلك السؤال المقيت!! هو حال كل شباب هذا الوطن الذي يفتقر إلى أدنى مستلزمات الحياة.

بالفعل سافر زوجي، وبدأت معاناتي الجديدة، أولا مع طفلتي فلقد كانت متصلة بوالدها اتصالاً روحياً يصعب علي وصفه، حتى إنها عند سفر والدها مرضت  وارتفعت حرارتها دون أي سبب عضوي، أبكتني وأبكت والدتي، واحتاجت عدة أيام حتى تتأقلم مع الوضع الجديد.

مضت أيامي ثقيلة، صعبة، بين الذهاب إلى العمل وبين البيت.. وقد بدأت إبنتي مشوارها العلمي، قررت الانتقال للعيش مع والدّي كمحاولة لملء حياتي أنا وطفلتي بعد أن ترك سفر زوجي فراغاً كبيراً في حياتناً، خلال تلك الفترة، بدأت أشعر بازدياد الثقل في جانبي الأيمن، لم أستغرب فهذا متوقع، ولكني استمررت بالمقاومة، رغبة من والدّي في التخفيف من وطأة المرض، هما لم يألوا أي جهد سواء بتشجيعي في المواظبة على القيام بجلسات العلاج الفيزيائي أو باعتماد كل علاج جديد يؤمل منه التخفيف من مضاعفات المرض، أو كان هذا الجهد معنوياً عبر خروجنا الدائم ومحاولاتهم إبعادي عن أي تفكير من الممكن أن ينعكس علي بالأسوأ.. ولكن كل ما سبق لم يخفف من وطأة ذلك اللعين، كنت كلما اختليت بنفسي لا يجول بخاطري سوى سؤال وحيد… لماذا أنا؟! لماذا علي أن أواجه هذه الحياة التي فرضت علي مرضا لا أعرفه، مرض قاسٍ حرم طفلتي من اللعب مع والدتها، حرمني من اللحاق بزوجي لأنني مضطرة للبقاء بسبب العلاج، لماذا علي أن أمشي في هذا النفق المظلم وحدي؟؟ الجميع تركني أواجه مرضي حتى إخوتي ليسوا بجانبي.. هم مسافرون أنا لست عاتبة على أحد، هي سنة الحياة الطبيعية ، ولكن عندما يضعف الإنسان يتمنى أن يبقى أحبابه إلى جانبه، أو إنها الأنانية؟؟؟ لا أعلم، ربما.

بعد عدة أشهر، وبعد أن اعتدنا على سفر زوجي، عدنا إلى المنزل، طبعاً كانت عودتنا مصدر حزن لأمي وأبي، وحاولا كثيرا إقناعي بالعدول عن قراري ولكني فضلت أن تكون ابنتي في منزلها، وأن تشعر بالحد الأدنى من الاستقرار، ثم إن بيتي يحمل ذكريات جميلة لي، لم أشأ أن أفقدها، فقد قمنا أنا وزوجي بتأسيسه منذ البداية واستمرت رحلتنا مع هذا البيت تسع سنوات، كل زاوية كانت تحمل قصة حب وتعاون، تفاهم حينا ومناوشات كلامية حينا آخر، ولكنه في النهاية جمعنا برباط مقدس جميل، أضافت عليه إبنتنا سكينة وحياة بريئة رائعة…

بالطبع في بداية عودتنا إلى البيت وجدنا صعوبة في تقبل الوحدة، نحن بمفردنا، إذا ما استفاقت طفلتي خائفة يجب علي أنا أن أطمئنها ، إذا ما مرضت يجب علي أن آخذها إلى الطبيب، وأن أهتم بها، يجب أن أتابعها في المدرسة، وأن أواكبها في كل شيء ولكننا تقبلنا الأمر، واعتدنا عليه شيئا فشيئاً… ذهابي إلى بيت أهلي يوميا هو أمر ضروري حيث أنه كان السبب الرئيسي في تقبل واقعنا الجديد..

ولكننا أين نعيش؟؟؟ نعيش في الجنوب اللبناني، حيث تقبع جوارنا غدة سرطانية خبيثة إسمها الكيان الغاصب، والتاريخ هو الثاني عشر من شهر تموز عام ٢٠٠٦……

يتبع الأسبوع القادم

شاهد أيضاً

وزير الثقافة: متضامنون مع الدكتور غسان ابو ستة ولا يليق بأوروبا أن تكمّ أفواه شهود الإبادة الجماعية في غزّة. صدر عن وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى البيان الآتي: “تلقينا باستهجان وصدمة معًا خبر احتجاز الطبيب والناشط الفلسطيني البريطاني الدكتور غسان أبو ستة ومصادرة هاتفه ومنعه من دخول الأراضي الفرنسية التي وصلها لإلقاء محاضرة في مجلس الشيوخ الفرنسي عن الإبادة الجماعية في غزّة. ” وتابع:”لقد عرفت فرنسا وخبرت وعانى شعبها الأمرّين من الإحتلال النازي لعاصمتها، حين تمّ التنكيل بشعبها واستباحة أراضيها ومصادرة حريّات الناس فيها وهي التي قاومت الاحتلال عبر قوات فرنسا الحرة، ومن المفترض أن تكون أفضل من يعرف قيمة المقاومة، وكنا ننتظر من السلطات فيها دعم أحرار العالم بدل اعتقالهم وطردهم وإهانتهم.” وأضاف:” إننا إذ نستهجن ما أقدمت عليه السلطات الفرنسية نهيب بها أن تعود إلى قيم الجمهورية التي قامت على صَون القيم والذود عن المظلومين، ونتطلّع إلى أن تعمد قواها الحيّة، لا سيما الشبابية منها، إلى الوقوف إلى جانب فلسطين وقضيّتها وإلى جانب من يدافعون عنها في وجه المغتصبين والمحتلين.” وختم المرتضى:” كل التضامن مع الدكتور أبو ستة وهو الذي عاش ويلات الحرب على غزّة وفقد أفرادًا من عائلته وزملاء له شهد معهم على الحقد الأعمى الذي تمارسه إسرائيل، وعلى الإبادة الجماعية التي ترتكبها آلتها الحرب الغاشمة، بدعم داعميها المعروفين.” وسيوّجه المرتضى دعوة رسمية الى الدكتور ابو ستة لزيارة لبنان لإلقاء محاضرة في مدينة طرابلس ضمن فعاليات طرابلس عاصمة للثقافة العربية للعام ٢٠٢٤.

صدر عن وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى البيان الآتي: “تلقينا باستهجان وصدمة معًا خبر …