عاشقة المعرفة

قراءة تحليلية في لوحة القارئة الحسناء 

للرسّام العالمي جان هونوري فراغورد (1732-1806)

 

بقلم الدكتورة بهيّة أحمد الطشم

تشذّب نجمة اللوحة حديقة معرفتها عبر الامعان في القراءة كي ترى العالم من نافذة كتاب,انّه سرّ الكتاب الذي يغالب كل قهر,ويناهض كل أشكال الاستبداد سيّما أفهوم التبعيّة
في المجتمعات المتخلّفة ,والتي تطغى عليها الذكورية المتطرّفة أو تلك التي يكون فيها الجهل بمثابة القائد للرؤوس الفارغة.
ولا غرو في ذلك ,لأنّ الأمة التي تقرأ هي التي ترقى,و تجعل العبث في عِداد الوهم,حيث تقرأ المرأة العارفة حروف الكتاب لتفقه أهمّ المعاني في عالم الحياة المُبهم,عالم الممكن والمستحيل,عالم التناقضات والمُفارقات….


تسِم البساطة معالم الأيقونة,ولكنّها بالرغم من بساطتها تنطوي على الكثير من التفاصيل الشاسعة بعمقها,سيّما البُعد الابستمولوجي في عالم الوجود(الأنطولوجيا).
فما أشقى الحياة التي تلوّنها السّطحية ! وبالأخص عند أصناف بعض النساء الزاعمات امتلاك العلم,فنصف العلم أخطر من الجهل بحدّ ذاته: أوليست التنشئة الاجتماعية والنفسية والتربوية المرتكزة على المعرفة هي المسؤولية الأبرز للأمهات ؟
ذلك أن الوظيفة الفيزيولوجية للتكاثر والانجاب هي صفة مشتركة بين الانسان والحيوان,ولكنّ السّمة المميّزة للانسان بالاجمال- وبمنأى عن بعض الاستثناءات- الذي يتكاثر ويمارس الليبدوLa libido(الغريزة الجنسية) أنّه يهذّبها ويُقوننها في أُطر اجتماعية ودينية ,ويترتب عليه ازاء ذلك مسؤوليات اخلاقية واجتماعية وتربوية تجاه أولاده في المجتمع الذي يعيش فيه بعيداً عن شريعة الغاب التي تسود في مجتمعات الحيوان.
ولكن للأسف! ما أحوج العديد من الأهل(آباء وأمهات) الى عمليات تأهيل نفسي واجتماعي قبل الاقدام على الزواج والانجاب وبالأخص في اعمار مُبكرة لم يكتمل فيها النضوج العقلي.. ,بل تسيطر عليه رغبة كفيفة لتحقيق التفريغ للطاقة الجنسية وحسب.أو أنّهم (الأهل) في أعمار متقدّمة (الخمسين او الأربعين) ولكنهم يعيشون مرحلة مراهقة جديدة في حياتهم!.
وبالعودة الى اللوحة, تجدر الاشارة, الى أنّ فراغونارد تميّزَ بأسلوب زخرفة اللوحات بأسلوب بسيط,اذ ابتكر هذا النمط المميز في هندسة الخطوط والألوان,والذي يقبض على لحظات معينة في الرسم ,ويُغلق عليها القماش,
ويسمى هذا الاتجاه في الفن: الركوكو,والذي يرتكز على بساطة الاسلوب وزخم التفاصيل الجميلة.
وضمن الاطار عينه,فقد اشتهر صاحب اللوحة بالأسلوب الكلاسيكي ,وكان انتاجه الفني غزيراً (أكثر من 550 لوحة).
وفي سِياق استقراء لغة الجسد للقارئة النّهمة,فهي تنمّ عن بهاء غير متكلّف وهدوء عارم في علاقة استثنائية تعكس الأبعاد في جمال الأنوثة وجمال القراءة:
بدايةً: تبرز وضعيّة اليد اليسرى ثابتة على الطاولة كدليل ساطع على أوج التناغم بعيداً عن أشكال الارتباك ,كذلك تُلفت انتباهنا المسافة الصغيرة بين رأس الفتاة والكتاب,ما يعكس شدّة التقارب ,او عمق الجذب في العلاقة الاستثنائية بين المعلّم(الكتاب) وبين القارئة الحسناء.
كما يعطي الحائط الخلفي باللون القاتم بالاضافة الى الوسادة وراء الظّهر لنجمة اللوحة انطباعاً بالاستقامة ويعكس مفهوم الّصلابةً في الجلسة المستقيمة والتي تعكس شخصيّة محافِظة ,ومع ذلك تمكّن الرسّام الفذّ من ابراز أنوثتها دون اظهار مفاتنها الأنثوية وبفعل غير ايروتيكي, لذلك يظهر الحائط بلون داكن وكأنّه تأطير للفتاة ذات الثوب الفاتح ,ما يُسبغ معالم الرونق الدافىء.
اذاً,تشكّل لوحة “القارئة الحسناء” رأس الهرم في أعمال الرسّام العبقري,حيث تقرأ الفتاة ذات الثوب الأصفر كتاباً صغيراً ,ترفع شعرها بشريطة أرجوانية ,وتملأ وجنتيها حُمرة الحياء,مع الاشارة الى أنّ الرسّام اختار تفاصيل لوحته بعناية بالغة,ذلك أنّ فتاة اللوحة ترفع شعرها عن وجهها,لكي لا تنشغل به أثناء القراءة,كذلك لكي يكون نظر المتأمّل مركّزاً على جوهر الأيقونة.
وفي سِياق استقراء الأبعاد لفلسفة الألوان ,ينمّ اللون الأصفر الأخّاذ عن سُطوع البهاء,ويدلّل اللون الأبيض على معالم الهدوء والسّكينة,كما يكشف اللون البنيّ النقاب عن سِحر الانتماء لملاذ العقل.
اذاً تجمع الفتاة بين نموذج الأنوثة وجمال المظهر,وكذلك يسلّط الرسّام الفرنسي الضوء على أناقتها الشّخصيّة وجمال الجوهر المتمثّل بالقراءة,تلك المطالعة الموجّهة بدافع الشّغف للمعرفة وذلك لكي يسلّط عين الرّائي بشكل أكبر على موضوع اللوحة الرئيسي,ما يدفعنا للتساؤل حول ما تقرأه, انّها المتعة البصرية التي حققتها اللوحة لابراز سحر القراءة المتماهي ألقاً مع لعبة الظلّ والنور.
ولعلّنا نستذكر بجدير الاعجاب مقولتي سقراط:”اعرف نفسك بنفسك.” Know your self,و”المعرفة قوة” knowledge is power,للفيلسوف العظيم فرانسيس بايكون.
وفي الخلاصة نلتمس حكمةً ساطعة ألا وهي: ما أروع تركيز حاسّة النظر (ملكة الحواس) كما أسماها أرسطو على حدائق الفكر….لتتسامى النفس أكثر وأكثر مع خير جليسٍ لها (الكتاب) على دروب أنوار العقول والقلوب (الحكمة).

شاهد أيضاً

التطبيع العربي: بين هزيمة الكيان الصهيوني وانتصاره

أ.د.فرح موسى*  عُقدت قبل أشهر القمة الإسلامية بوحي النصرة لفلسطين،واستمع العرب والمسلمون إلى خطاب الوحدة …