النَشْوَة الإخبارِية والمُلَوِعَات التلفزيونية!

محمد حمادة

(لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتِ السَّاعَةُ): سِفْرُ الرُؤيا، العَهْد الجديد

تصريح:

المُتَنَبي

يُخيَّلُ لِهذا المواطن العاقل أنه عُنصر فاعِل في الأحداث، وأنه جُزءاً لا يَتجزأ مِن الخبر، بلّ أنه صاحِب الحدث ومُحَرِكه، وأنّ المُقَدمة والخبر الوارِدين في نَشَرات الأخبار قد خَطَّها بِيَمينه، ولَدَيه اعتِقاد جَازِم دَفين (واجِبٌ عَلينا دِراسة أصول هذا الاعتِقاد!!!) بِأنه مُحلل فَذّ للأحداث، الذى لا تَفوتَه شَارِدة أو وارِدة، لا فى ابتِسامة صَفراوية اللّون كَانت أم أقْحُوانِية مِن الزَعيم، أو خُطوة لسياسي كانت سَليمة أم عَرجاء لهَمزة أو لَمْزة مِن مُقَدِمات النَشَرات الجَوِية، ويَعتَقِد هذا الفرد العاقل جازماً أن مُقارَبته للأمور يجب أن تُدَرَّس فى عُلوم السِياسة والإجتِماع، وفي أرقى الجامِعات، هو وفقط هو، صاحِب الرأي السديد في الإجتِهاد والتقليد، ومن فَرْط نَظَرِته الثاقِبة للأمور كَأَني بِه (طَيّرٌ جَارِح حَطّهُ الغَيّم من علِ) وفي السياسة لا شيء عَصي عَليه، ولا نُبَالغ إن قُلنا أنه مُتَنَبي الحَدث!

المَشهد الأول: نَشْوَةُ الأخبار

قد جَاءَت سَاعة نَشوة الأخبار، وانقَشَعَ عن السَّاحة الغُبار، وتوقف الزَمَن فى البِلاد والعِباد، التَوَتُر سَيّد المَشهَد، الأعصاب مُتَصَلِبة، ولا مكان هُنا لِتَفويت النبأ الهَام، نبأ يتكرر منذُ مِئة عامٍ وعَام.
كلٌ في منزِله بين أهله وخِلّانه، التِلفاَز على أهِبة الإستِعداد و (الاستِعداء) لتقديم المُذيع المقدام.
المُشاهِد المُتَقَاعِس يَتَمَوضَع على أرِيكَتِه، وكوب الشاي فى يُمْناه ويَفصِله عن تِلفازِه مائِدة مِنْ حَواضِر الطعام، ذلِك أنّ هذا المواطن العاقل يَنتابُه حَالة مُفرِطَة من الشهِية خِلال مُتابَعَتِه لنِشرة الاخبار، وخاصة إذا كان هُناك فائِض من المشاهد المُؤثرة على شاكِلة الحروب والكَوارِث والحَوادِث، أو خبراً يُكرِمنا به المسؤول ويَجُود عن أُفقِ طموحِه المَسدود.

وَيَستغِل المُشاهد المواطن الفَرد العادي، فَترة النَشرة الجَوية عَادة على أهَمِيتها، بالتَمَوضُع وتأهيل حَيّزَه وَتَدبُر أمر مَنزِله، لِيتناسب مع الحدث، ويهِمُّ بفَرضِ سَيطرَتِه على مَمْلَكتِه وأرِيكَتِه، ويبدأ المشهد بالصُرَاخ، بل بالعَويل أحيانًا، لإسكات كُل من حَوله، وخلْق مشهد يحمِلُ في طياته الرهبة والدراما على حدٍ سواء!.

أما المواطن المُثقف دَمِث الأخلاق، يَتَوجه بالملاحظات القاسِية لأهل بيتِه وبأوامر صَريحة لِزوجته أن تُخرِج أطفاله من حَاضِنَتِه إلى مكان آخر، وإن كان لا وجود لِلآخر! وإذا صادف أن هناك أحداً ما في ضٍيافَتِه، يُصِيبه نَوع مِن الحَوَل (EXOTROPIA حَول العين الواحِدة)، فتجده عَين على ضَيفِه وعين على التِلفاز.
إلى أن يستَقِر المُلك لَه
خِلال النشرة والحَدث والحديث عن الزعيم، فالمُدَاخلات نادِرة وموجزة، إلا من جملتين متلازمتين كمَرض عُضال مُزمن، تتردد دائماً وأبداً، فإن كان من الأنصار (أنصار الزعيم) أطال الله في عمره، أو يخليلنا اياه حسب المنطقة.
أما الثانية:
(ما خَلّوه) تحمل آلاف المعاني، فاستخدامها يكاد يغطي العلوم السياسة والإجتماعية والإنسانية كافة، والمعنى يتوقف على المشهد، فيمكن أن تعني: لم يدعوه أو لم يتعاونوا معه أو تركوه وشأنه…. ليكمل ما بدأه أو ما كان يصبو له، إلى أن تصل إلى النوايا..
(ما خَلّوه) مُفردة بسيطة، ومع ذلك تَحمل فى طَياتِها مأساة ومعاناة وطن بأكمله.
و عِند ظُهور الخَصْم أو خَبَر عَنُه، فهُنا تحديداً يُمكن أن تَقصُر المُداخلة أو تَطول حسب سِعة المُعجم ومَعرفة المُشاهد بأنواع السُبَاب واللّعن وصولاً إلى لُغة الإشَارة.

المشهد الثاني: حَظُنا العاثِر

مِما جَادَت به علينا الإبتكارات من مِحَن، خروج هذه القنوات إلى الفضاء الرَحب، وليتها بَقِيت قابِعة فى أرضِها مستَتِرة بين ناسِها، لكنها أبَت وخرجت لتكون رافعة للمغترب ربما، أو لإطلاعِ العالم على إنجازات حكوماته المتعاقبة الفذة! أو ربما طمعاً في الإنتشار والوصول إلى العالمية، مَن يدري!!!

نُحسَد بِلا شَك على هَذا الإنتِشار.

غالبًا البرامج العلمية (لعلماء الدين فقط)
الفنون يجوز عليها (الرُقِية) منعاً للحسد، فالموسيقى والغناء على سبيل المثال لا الحصر، تحمل سُلماً موسيقياً جديداً غير المُتداول والمألوف، وبرامج الترف والترفيه، خفة في الظل والدَم، خِفة وزنها يكاد لا يتجاوز البيكو غرام، وفصيلة دم نادرة، تأخذ من الجميع كل الوقت ولا تهِب أحداً شيئاً.

إلى أن نَصل إلى إفتتاحية نشرات الاخبار، مُقدِمات دَسِمة وممتَلِئة وتحمل من بَديع المحسنات و الحلى والزخارف اللفظية والمعنوية يفوق الوصف، تكاد لا تتعرف على أصل الخبر من كثرة السجع والجِناس وحُسن التقسيم والطِباق، ناهيك عن الترادف أو التطابق
مُضافاً إليها تشكيلة منوعة من التضاد.
والشخوص دائماً مبنية للمجهول!!! ما أجمل لغة الضاد!

أما حِرَفِية ذاكَ الإعلامي الفَذّ فلا غُبار عليها ولا تُراب، له قُدرة على الإبتِسام والضحِك والإنشِراح في مشهد مأساوي يُدمي العين قبل القلب، ويُمكن أن يُصاب بالدهْشة بخبر خَرج للعَلن مُنذ الألفية الأولى قبل الميلاد، أو مثلاً عندما يُجهد نفسه في تغيير تقاسيم وجهه (على مقام البيات أو الصبا لا يهم) بأنه اكتشف لِلتَو سِر الوجود، علماً أن الحديث يدور عن إنجازات النائب بين الكَذِب والوعود! أما إذا بدأ ورمى شِباك الحِنكَة بأسئلته، فعليك بِكوب من الليّموناضة تجنُباً لِما هو آت.

المشهد الثالث: أهلاً وسهلاً
وتنتهى النشرة، ويبدأ المواطن وبِواسِطة مِن جِهاز التلفاز استقبال واستِضافة الوفود من كل حَدب وصَوب ومِما هَبّ ودَبّ في استباحة موصوفة لِحُرمة بيته ومجلسه، شخصيات ونماذج تَشيبُ لها الوِلدان، من زعماء وسياسيين، من إعلاميين ومحللين من راقصات ومطربين، يتخللها بين الفينة والأخرى بعض الهرج والمرج (تسمى مجازاً بالمُلَوعات).
وهنا.. هل تَطيب الجلسة للمُشاهد إلا بحضور البنين والبنات؟! فلذة الأكباد والشباب، لتسليمهم الراية وتعليمهم فَنّ السُباب!

المشهد الأخير
هنيئاً لك بهذه الصُحبة والعِشرة والمَعْشَر، وهنيئاً لك بمأكلِك ومَشرَبِك، استمتع بما تَبَقّى من الوقت، ولا تُطفأ التلفاز اللعين فربما قريباً يخرج الخبر اليقين، أَنَّهُ قَدْ جَاءَتِ السَّاعة!

المشهد الآخر!

قُمّ وانفض عنك غُبار الداء، تخلص من هذا البلاء، أقلها قنوات الرِياء، جالس الأهل والأصدقاء، إقرأ كتاباً لأطفالك وشاركهم بما لذّ وطاب من خبزٍ وزيتون على شُرفة منزلك.

الخاتمة…
محمد حمادة

شاهد أيضاً

الفنان الفلسطيني سانت ليفانت يكشف عن أغنيته “قلبي ماني ناسي”

سانت ليفانت يقدم “قلبي ماني ناسي” بأسلوب موسيقي متنوع ومعقد رسالة عميقة ومؤثرة من خلال …