“النخلة والجيران”

د. عباس خامه يار

توصلت إلى الاعتقاد بأن العراقيين، رغم أنهم كانوا في ذروة الحصار الاقتصادي الوحشي، بقيت الكتب آخر وأغلى سلعة أجبروا على بيعها بعد نفاد الخيارات.

 

على الرغم من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية، افتتح العراقيون جيراننا الغربيون الأسبوع الماضي، خلال مراسم احتفالية واسعة، المعرض الدولي الثالث للكتاب خلال زمن “كورونا”.

“النخلة والجيران” كان عنوان هذا الحدث الثقافي الكبير الذي استلهم من اسم رواية الكاتب العراقي غائب طعمة فرمان حيث سمي المعرض على اسمه تكريماً له. عمل يعتبر من أفضل 100 رواية عربية ويتناول المخلّفات المدمِّرة للحرب العالمية الثانية على الشعب العراقي.

افتتح المعرض بحضور نخبة من المسؤولين والأدباء والكتاب والشخصيات الثقافية والناشرين والمهتمين بهذا المجال في “معرض بغداد الدولي للكتاب”.

هذا المعرض، والذي أقيم بحضور 300 ناشر من 21 دولة، من بينها سوريا ومصر والأردن ولبنان وإيران وغيرها، قدم لمحبي القراءة نحو مليون كتاب في مختلف مجالات العلوم والفن والشعر والرواية، وغيرها.

كما شارك فيه مئات الكتّاب والباحثين والشعراء والفنانين، وضمّ مجموعة من الأنشطة الجانبية واستضاف العشرات من الأنشطة الفنية والثقافية والإعلامية، من أمسيات شعرية وجلسات حواريّة وندوات حول مواضيع مختلفة. كما لو كانت بغداد تعيد إحياء المقولة الراسخة في العالم العربي: “المصريون يكتبون، واللبنانيون ينشرون، والعراقيون يقرأون”.

يمكن مشاهدة إقبال العراقيين على القراءة في “سوق الجمعة الأسبوعي للكتاب” في شارع المتنبي ببغداد على مدار العام.

المئات من أكشاك الكتب القديمة والجديدة تغطي الأرض والأرصفة على طول الشارع الشهير في العاصمة العراقية، من صباح يوم الجمعة حتى غروب الشمس، ومن بداية الشارع الذي يمتد كيلومترات عدة وصولًا إلى تمثال المتنبي، الشاعر الكبير والشهير في تاريخ العراق والذي يقع على ضفاف نهر دجلة، حيث يسوق الزبائن والسياح لاشعورياً إلى “هايد بارك” العراق ما بعد سقوط الديكتاتور؛ حيث تقدم جميع التيارات السياسية والدينية أفكارها وتوجهاتها ومواقفها المنطقية وغير المنطقية.

المشاهد مذهلة وتخطف الأنفاس، وتعكس في الحقيقة هذا الواقع التاريخي بأنّ الديكتاتوريات لا تستمرّ أبداً.

خلال رحلتي إلى العراق قبل ثلاث سنوات بصحبة الدكتور عباس صالحي، وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي السابق، قمت بزيارة هذا الشارع بالتنسيق مع صديقي العزيز السيد أباذري، ووصفت هذا المشهد الرائع بأنه “حدث ثقافي هستيري” في مجال الكتب!

في ذلك الوقت، توصلت إلى الاعتقاد بأن العراقيين، رغم أنهم كانوا في ذروة الحصار الاقتصادي الوحشي الذي فرضته الولايات المتحدة على بلادهم في تسعينيات القرن الماضي، كجزء من سياسة “النفط مقابل الغذاء” المفروضة عليهم، وبعد بيع معظم احتياجاتهم الأساسية بالمزاد بما فيها نوافذ بيوتهم المصنوعة من الألومنيوم، بقيت الكتب آخر وأغلى سلعة أجبروا على بيعها بعد نفاد الخيارات.

محاربة الكتب وقراءة الكتب من قبل صدام ونظامه الجاهل والقمعي قصة حزينة أخرى سمعتُ عنها خلال محادثاتٍ حميمةٍ مع اثنين أو ثلاثة من بائعي الكتب المعاصرين لذلك الزمن في سوق الحويش في النجف بجوار مرقد الإمام علي، وفي وسط الحوزة العلمية في النجف الأشرف. كان ذلك خلال رحلتي في أربعينية الإمام الحسين، حيث خضتُ تلك الأحاديث بدافع الفضول.

السوق القديم الذي كان مخصصاً للنشر والكتب، والذي حوّله نظام الطاغية إلى سوق بقالة وسوق سلع استهلاكية ومطابخ لرؤوس الأغنام! نقطة مهمة جداً أوردها في هذا المقال، هي التأكيد على ضرورة وجودنا كـــ “جيران” شرقيين لـ “نخلة” العراق.

الحضور الواسع والقوي للكتاب والأدباء والشعراء والناشرين الإيرانيين في بساتين الثقافة والأدب العراقي لاسيما في هذا الحدث المهم، يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أكثر من أيّ وقت من قبل المؤسسات الرسمية، وخاصة القطاع الخاص في مجال النشر والمؤسسات العلمية، البحثية والمعرفية في الجمهورية الإسلامية، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يتمّ الاكتفاء برمزية الحضور الرسمي.

من الجميل أن تكون بلادنا حاضرة في المهرجانات الفنية والأدبية اليوم مثل مهرجان محمد مهدي الجواهري، الشاعر العظيم والمعروف في تاريخ العراق المعاصر، والذي سلبه نظام صدام جنسيته، فيما استضافته إيران ذات يوم، وأن تكون لنا مشاركة حقيقية في يوم تكريم هذا الشاعر الكبير.

بالتأكيد، ليس من الحكمة أن نغيبَ عن الحقل الثقافي في بلدٍ تربطنا به علاقات استراتيجية شاملة، وأن نترك ساحة الحوار لصالح الحاقدين والمنافسين وأعداء العلاقات بين إيران والعراق وشعبيهما.

شاهد أيضاً

قائد الجيش استقبل الامين العام للمجلس الأعلى السوري اللبناني

  استقبل قائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون في مكتبه في اليرزة الامين العام للمجلس …