حقيبتان

ناريمان الجمل

عُمرٌ من النضال في الوطن والكِفاح في العمل، والإيداع داخله والتوفير من أجله لتأمين مستوى عيشٍ، يحفظُ فيه الإنسان كرامته وماء وجهه ووقاية شيخوخته وحماية الكهولة في أعوامها الأخيرة!!

عُمر من الغربة المتقطِّعة لأفراد وعوائل كثيرة في بلادنا والأمل الوحيد كان هو الإستقرار والإستكانة في بيت من بيوت لبنان وقُراه الجميلة!

سنوات مرَّت ونحن ندفع فيها إستحقاقاتنا وواجباتنا على أمل أن ينتصر الحقّ وأن ننتهي من الأشرار المتربصين بِالبِلاد..
عُمرٌ ابتدأ مع الحرب الأهلية وإنتهى بإنفجارٍ نَووي أسقط البلاد في أودية من الجحيم وشرّد عائلات وطردَ كفاءات وما تلاه من سرقات لذخيرة العمر (الكريم)..!

سرقوا كل شيء.. وبقي لنا حقيبتان.. إثنتان لا ثالث لهما..حقيبتين فقط لأن ثمن الثالثة هي كلفة إنتظار أسابيع في طوابير المِئة دولار أسبوعيًا عندما أبتدأت مهزلة الهيركات..
حقيبتان لطيّ وتوضيبّ عقود من العمل والعذاب والنجاح والذكريات والأحلام والثياب والمفروشات والمُدَّخرات والأواني والتُحف والمفروشات وكل ما يربط الإنسان لِعُقودٍ خَلَتْ…، حقيبتين للسُترة و فقط..

بعد أن سرقوا كل شيء في المصارف ومن الجيوب، من الطرقات ومن البيوت وجيوب العائلات.. خرجنا بِحقيبتين فيهما إلى جانب الألم والدموع، فيهما حُفنة من الكرامة وقد أنقذناها وبعضًا من سلامة العقل بعد العبث بها الى حد الإستحالة!

خرجنا بِسلامٍ وعافية إلى حيث الضوء والحرية والكرامة.. إلى بلاد أنتَ فيها رقم ولكنه كافٍ لوجود الإحترام وتحصيل حقوقك وضمان أيامك المتبقية في “بيت زغير بكندا” ع قولة فيروز.. فيروز التي تناجيني كل صباح أو مساء تُسائل لبنان:

“كنت متوَّج بالاخضر خبرني ليش مغيَّر؟
وين زهرك؟ وين سحرك؟ … خبـِّرني!
وين الْكانوا حُرَّاش صنوبر، شو قولك صاروا ذكرى ؟
ما في أتعس من أنك تقعد تتذكرْ!”

وصوتها الحزين عندما تصدحُ بحنين:

“إحكيلي إحكيلي عن بلدي إحكيلي
يا نسيم اللي مارق عالشجر مقابيلي
عن أهلي حكاية.. عن بيتي حكاية..”

أمّا كلمات هذه الأغنية التي كُتبت عام ١٩٧٩ وكأنَّها اليوم!!

“سكَّروا الشوارع
عتَّموا الشارات
زرعوا المدافع
هجَّروا الساحات
… صرنا الحب الضايع صرنا المسافات
إشتقنا للايام السعيدة أيام السهر ع الطريق عجقة سير ومشاوير بعيدة
ونتلاقى بالمطعم العتيق
يا هوا بيروت يا هوا الأيام
ارجعي يا بيروت بترجع الأيام

إجا الصيف التاني والقمر مكسور
.. رجعت على بيتي ما لقيتو لبيتي
دخان وزوايا لا وردة و لا سور..
قولك الأصحاب وين بيكونوا..
وين بيكون الدمع والحنين”!

صحيح إنني حزينة ع الوطن والوطن باقي وموجود غصب عن الكل، ولكن هل يُصلح للعيش للكل.. ؟!
أكيد لا، هذا الوطن يُصلح فقط للذي إنتخبَ الطبقة الفاسدة وسمحَ لهم بِعبث وتشريد المئات والذين بالتالي شاركوا الدولة الفاسدة بالقضاء على كل حرّ أو شريفٍ مستقلّ كان يحلم بلبنان جديد ووعدَ الأجيال بها ثم عادوا قصقصوا الرواية الخرافية هذه وغادروا.. أو اعتكفوا في زوايا منازلهم يائسين عن كل محاولة!
والكثيرون مثل جبران خليل جبران الذي فعلها وهاجر منذ حوالي مئة عام قائلًا: “لكم لبنانكم ولي لبناني” قالها وفَرَدَ أجنحته المتكسرة في المهجر وحلّق عاليًا إلى أن عادَ جسد بلا روح.. لأن الارواح لا تسمو في لبنان!!
لبنان مقبرة الشهداء والشُرفاء.. كما هو مقبرة الأحلام والكفاءات!

في نهاية السنة ٢١ من القرن ال ٢١ أقول للغائبين والحاضرين, للحبيب كما للعدو, للجميع أقول شكرًا على كل أثرٍ جميل سيبقى في الذاكرة يمرُّ كالشعاع يلمعُ كلما شدت فيروز.. ومرَّ طيف الذكريات!

بِدايات جديدة تنتظرني في أصقاع العالم وأنا أفتح ذراعي لها بعد أن أختم سنة من عمري بالشكر الجزيل وأبدأ أُخرى أيضا ودائمًا بالشكر الجزيل والحمدُ الكثير, وأهمسُ لِقلبي بأنِّي سأكونُ الأقوى.. وسأفعل!

وأنا على تمام اليقين أنه عندما نرحل، تذهبُ معنا كل أشياؤنا الصغيرة والكبيرة، ولكن ما نزرعه يوماً في قلوب الاخرين سيبقى يحدثهم عنَّا في الغياب..

نرحل ونبدأ من جديد، حتى لو كان كل ما نملك.. حقيبتان!!

ناريمان الجمل،
٢٩/١٢/٢٠٢١

شاهد أيضاً

الشيخ الرشيدي:”متمسكون بخيار المقاومة والبندقية، سبيلًا وحيدًا لاستكمال تحرير الأرض والمقدسات”

أكَّد نائب الأمين العام للجماعة الإسلامية في لبنان الشيخ خضر الرشيدي: “أننا، كوننا لبنانيين، لا …