أسامة القاضي: البوح في زمن الحرب؟!

الحب الناقص
(1)
هيفاء
.

• “هيفاء” نسمة بحر تحيي من تهواه.. نظرتها تزيح عن الكاهل تعب محتدم يصطك ببعضه.. تمسح عنه براحة كفيها ركام حزن طال، وتقادم عهده.. تطفئ لواعج وحرائق من تشتاق.. غيث يهمي على الأرض الحرّى؛ فتخضر، وتلبس رونق.. هي هبة الله في أرضه البكر.. قبس من روح الله وسره.. “هيفاء” تسبيحات صوفي مسكون بالواحد، وشلال غفران دافق لا ينضب.. هيفاء في ملكوت الله وتسبيحات الكون باسمه، وصلاة عوالمه لجلالته.. هيفاء فتاة لا يشبهها أحد..

• خلقني الله في قاع البئر، أحاول إنقاذ ما بقي منّي، فيأبى قدري.. لا أحد يسمع صوتي المخنوق في أعماق الغور، مثقول بالحزن وبالوحشة.. البئر المهجورة جفّت حتى صارت صلدة.. ونزفتُ فيها حتى آخر قطرة.. حاولت أن أخرج منها فعجزت، وتخلّى عنّي الكل.. أعيتني الحيلة، فتحجّرت فيها، حتى صرت بعض منها..

• ومجرَّة تتمدد في أقاصي الكون ولا تتوقف.. إن الفارق أكبر، كالفرق بين مخلوق وخالقه الأول..؟!! هي بنت النور من بيت عالٍ، وأنا إنسان بسيط جدا.. مسحوقا بين رحاها والحب الناقص.. أنا إنسان خلقت منكوبا من أول يوم.. ولا زلت أعيش خواي، وبؤس أسمع صريره في صلب عظامي، وأعيش فراغا في عاطفتي، بحجم هذا الكون وأكبر.

• قبل سنين من معرفتي بهيفاء، وأنا عمري دون الرشد.. كنت أبحث عن مأوى بمساحة قبر، فوجدت الخيبة أكبر من مقبرة تتسع وتكبر.. فسكنت على سطح “مصباغة”.. كل يوم تضحي الشمس على ظهري وتشويني في رابعة نهار يشتد.. يلهطني الحر.. من يرحمني من حر الكاوي، وغضب الشمس؟! وحُبيبات الحر تسلخ جلدي، وتشوِّه جسدي المنهك، ولا تترك مكانا فيه إلا وأصابت مقتل..

• تغز كنت أذرع شوارعها وأجوس.. أتمنى أن أجد فيها بيت تأويني أو تتبنى ما فيني عام أو شهر.. فراغي وحنيني يهرس عظمي.. أبحث عن أسرة حانية تهتم بأمري.. أشبه بمن أكمل دينه ودنياه وظفر بفردوس الرب..

• أنا يا الله لا فرش لي ولا مأوى.. وعندما ابتسمت لي الدنيا، وجدتُ بيتا لم يكتمل بنائه، كانت تشبه بيت الفئران، فيما بيت من أحببت تتعالى في منزلة تسمو جواره.. تحت ظلاله.. وإن فحش الوصف، أنزل درجة لأنال غفران الرب.. هكذا بدا لي الفرق بين الاثنين..

• يا لفارق يقسم ظهري أعشارا، و يا عشرة اعسار تفتتني كحجرة جير رملي.. ماذا بقي منّي؟! طلبي يجعل فمي مكتظ بلساني المعقود بخرس الصخر، لمجرد تفكير غامر ومغامر في أن أطلب يدها، ولو حتى في الحلم المشفوع بالنوم الغارق في العمق.. كيف لأصابع مجذومه بأمر الله، أن تحفر نفقا في الجبل وصم الصخر؟!! لازلت أبحث عن عدل مفقود، في بلاد القسوة والظلم..

• كيف يمكن أن أجمع أشتاتي وشجاعة باتت تخذلني؟! كيف أفكر بطلب اليد، ويداي مقطوعة بالحاجة من الجذر.. أني أشبه بثائر يفكر بالثورة على مقدَس متجذر في عمق الوعي، ومتأصل في عمق الوجدان في وسط جامع غارق بالتهويم والتحريم الأشد غلاظة..

• هل أنا باغ يا رب لمجرد تفكير في طلب الحب أو عقد قران.. حب صيرته منّي أبعد من عين الشمس.. كيف أسافر؟!!

الحب الناقص
(2)
كتمان وارباك وامتلاك .

كنت كتوماً جدا يا هيفاء.. أخبيتُ الشوق اللاعج في فج شجيته عميقا في قعر البئر.. أودعت السر في عمق الفج بعيدا عن عين الشمس.. كتمت أنفاسي حتى لا تذروها الريح.. قمعتُ آهات الوجع الصارخ في عمق الروح.. كتمت الحب في أعماقي وعشت مهدود الحيل.. مهما كان حيلي مشدودا كخرسانة برج عالٍ، أو راسيا كالجبل الضارب عمقه، فالحب المكتوم يا “هيفاء” يهد الحيل.. حبك سري الأول، مدفون في العمق الداجي، لا يعلمه مخلوق غيري أو شاشة رصد..

كنت كتوما وعصيا على البوح.. لن أوصي وأبوح بسري حتى لظلّي.. لن ينتف منه الموت قلامة ظفر.. سري لن يعرفه غير القبر المغلق أن وافاني الموت.. كتمانه في أعماقي سحقني يا “هيفاء” كدكاكه.. عجنِّي حتى صيرني كمعجون الأسنان، فرمني بأحدث آلة فرم.. صيرني ككتلة لحم مفروم بعناية.. ظل السر المغلق يأكلني كمنشار، ويتفتت حيلي كنشارة خشب تأكلها النيران.. الحب يتلظّى ويتأجج في أعماقي كبركان..

سنتين من الحب يا “هيفاء”، بلغت بي عمر الستين.. بالصمت أمضغ خيباتي بالطول وبالعرض.. أحاول أداري عنك إرباك الأعين، وعيونك تدري ولا تفهم.. الشوق المجنون يشعل حرائقه في شراييني، وصقر يتحفز محبوسا في قفصي الصدري بين ضلوع تأكلها النيران..

تيَّمني الحب الناقص غصبا عني يا هيفاء، وتخفيت وتواريت خلف “التقية”.. ضربت على نفسي أسوار العزلة.. البوح في الحب الآتي من طرف واحد خزي ودوس كرامة.. الكتمان عزّ من ذلٍ ومهانة.. ما أقسى هذا الحب يا “هيفاء” وما أشده على من حب.

في جحيم الحب الناقص صليت منفردا دون جماعة، ومن أبحث عنها لا تسأل عني، ولا تدري أني مصلوبا بالحب الناقص بين ذراعيها.. الحب بدون تكافؤ فُرصه، عدالة تشبه أسنان التمساح.

جازم إنسان رائع.. أستاذي ورفيقي ومسؤولي الحزبي.. طرق يوماً باب القلب المثقل بأحمال الحب البالغ فيه حد الإعياء.. سبر أغواري كخبير وطبيب مختص، وأشار بلمح سؤال خاطف، ونحن نتمشى على أرصفة الشارع: لماذا لا تقطف زهرة من هذا البستان؟! البستان أمامك والأزهار على مد اليد.. اقطف زهرة !! لا تترك زهرات العمر تأكلها الأغنام!! فشعرت بأن مجس طبيب أصاب وجعي والداء.. أحسست أن رفيقي عرف مصابي البالغ.. عراف عرف ما بي من حب وصبابة.. فتسألت مع نفسي في لحظة إرباكي: كيف نفذت إلى أعماقي يا رفيق المبدأ والنقد الذاتي؟! كيف سمعت صوت نبضاتي وخفقات القلب؟!!

ما أصعب حالي وأنا أداري ما في نفسي من حب بات أكبر مني.. لم أعترف لرفيقي بمصابي.. حاولت أكابر على جرحي الغائر في أعماق الروح، وأنكرتُ دوائي والداء، فيما النار كانت تشب في كل كياني، وأنا أحاول أن أخمدها في لحظة ارباك، فيما كان الخجل يطويني كقرطاس.. أسأل نفسي: كيف أطلب يدها ويدي مخلوعة من الكتف!! كيف أطلب يدها، وحالي أضيق من خرم الإبرة!!

كيف يمكنها أن ترضى بي للعمر وللمستقبل، وأنا أذوي مكسوراً مهزوما أمام الشمس كشمعه.. محسوراً منحسراً لا جاه لا مال لا بيت يليق بملكة.. كيف يمكنني أن أتجاوز هذا الحب اللاعج والمخزون بكثافة، وهي تطل بوجهي كل صباح، وتمر عليّ في الحلم كنسمة بحر..

أجمع أشتاتي وألملم أشلائي، وأعزم أن أكشف لها حبي الجم.. لا بأس هنا أن أبحر بحديثي من أطراف الدنيا وأجتاز اليم.. لا بأس هنا أن أفعل ما يفعله زميلي قائد مع الأستاذ حامد في الدرس.. سأنتظر مهما تمادى الوقت لأطيل حديثي معها.. سأحشد ما أملك من ذخر الكلمات، لأحدثها عني، وعما يعتلج في القلب من آوار الحب.

وحين تحين اللحظة لأبدأ.. تفوت اللحظة وأنا أحاول بمشقة من يحمل صخره أكبر منه.. أبدو كسيارة أدركها العطب في أول وهلة.. تتلاشى الكلمات ولا تبقي كلمة.. أتبدد وأتلاشى معها.. وكأن هيفاء تملك تعويذة، أو مفعول سحري يبدد كل الكلمات.. لا يبقى مني شيئا غير إرباك يشبه زلزال..

شجاعتي التي أجمعها من شهر طال للبوح لها عمّا في النفس، في لحظة تصير حطاما ونثار، بمجرد أن ترمق عيناها عيناي.. يمتقع وجهي ويشحب.. يحمر ويسود ويصفر.. ولساني تلت كلاما بلغة لا أفهمها.. مرتجف ومرتعش كالمغزل.. وسهام من سحر عينيها تفتح في القلب نفقا ومغارة، فأعود أجر قدري المنحوس، وأنا مهزوما مكسورا خائب..

جسدي ملكي وزمامه بيدي، وفي حضرتها يتخلى جسدي عني، بل ونصير الاثنين مملوكين لها.. أصير أنا لا أملك نفسي ونفسي لا تملك جسدي.. الكل هنا رهن بنان أشارتها، وطوع اليد.. ننتظر منها أن تفرج عنّا ونحن نتصبب عرقا.. نرجوها أن تطلقنا في لحظة تشتد علينا، ويشتد فينا الإرباك؛ فتطلقنا شفقة لوجه الله..

الحب الناقص
(3)
عندما تكتب للرياح.

عيون هيفاء جميلة وناعسة.. موغلة في العمق ومُستغرقة في المدى.. سحر عينيها يخطفك وإن كنت في مكان قصي.. عمقها يجذبك ثم يشدك إلى الأسفل حتى يصل بك إلى بُعد لا تعود ولا تنفك منه.. من ركب بحرها مثلي ما نجي، ولا عاد إلا رقم في قوام الضحايا الفاشلين..

دعاني سحرها من بعيد لاقترب.. اقتربت لأرقص رقصة الموت الأخيرة.. جئتها كفراشة بأجنحتي أطير.. دعاني ضوئها في الدجى الشاتي لآتي؛ فأتيت لأحترق في الضوء الذي جلبني من بعيد.. كنت الضحية، وكانت للضحايا ولائم، ولم أكن غير رقم في العدد..

سحر عينيها يغلبك، وتحديه يهلكك.. إن أردت اختبار صلابتك، ستدرك مدى هشاشتك والوهن!! حديدك مهما صلب، وعودك مهما قوى، يفل بسهم من سجى.. لا تكابر حتى لا تجد نفسك مغلولا بأصفاد الحديد.. أنقلب الحديد على صاحبة، وصار طوع سحر عيونها.. لا تعاند حتى لا تطوى كحبل الرشاء، أو تكسرك كثقاب صغير..

في عينيها حوريات السماء، وأسرار الذي خلقنا من علق.. يا خيبة “الشهداء” حين لا يجدون حورية أو نصفها!!.. ويل لنا من أقدارنا، ويل لنا من خيبات الرجاء، والانتظار الطويل..

***

كتبت عن عينيها في نشرة حائطية أشرفتُ على تحريرها.. كتبت بدم قلبي النازف بحبها.. كتبت حروف الحب بالحرائق والأرق.. وعن بحر عيناها العميق كتبت ما أجيد، وبما أجيش من الحنين.. كتبت عن حبي الضارب في خيبته، خيبة بحَّار مضطرب أكثر من اضطراب البحر الذي يحاول أن يعبره.. لا حيلة لي لأعبره.. لا لوح ولا مجداف ولا قطعة من خشب..

شاهدتها تقرأ.. فقلت يا إلهي!! الآن أريد أن تكبّر المآذن وتقرع أجراس الكنائس وتحتفل معنا السماء.. الآن أريد أن أعلو كل المآذن وأصلي للرب حمدا ألف ركعة.. هيفاء تقرأ ما كتبتُ.. أردت أن أجعل من ذلك اليوم قيامة الحب النبيل.. ولكن بحجم ما ظننت كبرت خيبتي، وزادت نكبتي حتى صارت مهلكة..

بعد هينيهات شاهدتها تدير ظهرها إلى ما كتبت.. أحسست أنني كتبتُ لريح عابرة دون صفير.. بدت لي باردة وغير مبالية.. لا ترى ولا تحس ولا تجس ولا تكترث.. وربما كنت أنا البليد والغبي الذي جهلت كيف أوصل إليها رسائلي.. فشلت في إيصال ما بي من اعتلاج الشوق، واحتدام الحب في أغواري السحيقة.. لابأس أن اعترف أنني الفاشل مع مرتبة الشرف..

ظننتها ستقرأ ما كتبتُ وتعيد القراءة مرتين.. ولا أدري إن مرت على عنوان “في سحر عينيها” مرور الكرام أم لم تمر.. كانت كعابر سبيل لا تبحث عن ضحايا حبها الذين تركتهم خلفها يندبون حظهم.. يومها غادرت بدموع تشتط بالغضب، ولم أكمل بقية الدوام المثقل بالنحس الثقيل.. شتمتها في نفسي التي خرجت عن طورها ، وشتمت نفسي حتى ضاقت بي السماء، وشتمت خجلي مرتين، وأنا الذي لا أجيد الشتم ..

الحب الناقص
(4)
حينما تتمنى أن تبلعك الأرض.

كنت يا هيفاء أعيش مشاعر متناقضة كموج بحر يتلاطم، ويعترك مع شاطئه الصخري الصلب، أو طقس مضطرب ومنفلت ومنقلب مجنون.. كزوبعة الجن، ودوامة بحر تركض وتدور كحال رجل تلبّسه شيطان في نوبة غليان.. وفي أحايين أخرى أشعر بالضيق، كمعتقل في زنزانة أضيق من قبضة يد، ليس فيها فسحة أو منفس لأجمع أشتاتي وشوارد أفكاري من أرجاء التيه..

مضطرب ومتناقض بين الفعل وضده.. بين الإقدام لطلب اليد، وتردد اكبر منه.. زحام من حزن، وفرج يشق طريق الضيق.. حصار يسد الطرقات، وأمل في وجه جدار اليأس يحاول أن يحفر فيه منفذ للنور.. وتضيق الجدران أحيانا حتى تلتصق بي، وتريد أن تنفذ إلى تحت الجلد، فأبدو كمصاب بلوثة أو نوبة أو مرض الصرع.

حالما ألمحها أشعر بقلبي يقفز من بين ضلوعي كعصفور يخرج من قفصه، أو إنسان حر يتحرر من زنزانة التصقت به.. أبتهج بمقدمها كل صباح، وأرقص على إيقاع خطوات الحلم الراقص، وتشتد لحظات إرباكي، وتظهر جلية في السطح العاري، وأنا أحاول بكل قواي أداريها عن الأعين، وقد صارت أكبر مني.. أخفيها في جب البئر.. أخنقها في أحايين أخرى، أو أقمعها كطاغية أو دكتاتور..

عندما تعرض عني، ولا ترنو لي بطرف العين، أشعر ببعثرتي وتشظي الروح، وتناثر أشلائي ورجائي في كل الأرجاء.. وبحزن يضرب في بالغ أعماقي والوعي، وأرى قلبي قد ذُبح كعصفور، أو إبريق صار شظايا، أو كأسة أنيقة كانت تطربني، وقعت من سطح عالي، وارتطمت بقاع صلد..

كنت أريد أصارحها بحبي الجم، ورغبة تعصف بي، وطلبي لعقد قران، وزواج يدوم العمر.. ولكن كنت أتأنِّي لألتقط رد إشارة تساعدني على استجماع شجاعتي من أطراف الأرض؛ لأكون جريئا بعد الآن.. وعندما لم أجد ردا أو بُدا أتردد خجلاً، والخوف يقمعني من أن ترفضني، وهذا الرفض كنت أراه سحقا للعمر الباقي.. داء لن أتعافى منه بدواء أو بإكسير السم.. ولن تخرجني منه حتى قيامة..

في إحدى المرات كانت تؤشر نحوي باليد اليمنى، وأنا شغف شارد في عالمها، متسمر في وجهتها، أنظرها بولع الحب الجارف.. بدت إشارتها صارخة الاستدعاء.. إيماء لي بوضوح أن آتي إليها!! كانت حركة يدها كبرق في ليل مسود.. كاد قلبي يقع أو يسقط دهشة.. يا هول مفاجأة أكبر من قدر قادم ببشارة.. نبوءة في حلكة جهل أسود.. ولادة أمل مثل الشمس في وجه اليأس المعتم.. تسألتُ: هل يمكن يا الله أن يكون عبوري للضفة الأخرى بهذا اليسر!! ما أسعدني يا هذا الحظ!!

حبيت أن أستوثق أكثر من باب دفع الاستسهال، فيما كان قلبي يطير فرحا في العالي.. أردت أن أتأكد ما بات في ذهني مؤكد، ظنا مني إن الأمر يلزمه بعض رزانة، حتى لا أبدو أخف من الريشة في الريح.. رديت بإشارة من يدي المرتجفة بالشوق اللاعج، أستفسر إن كنت أنا المقصود بإشارتها.. فتبين إن إشارتها ليست لي، بل لزميلاتها الواقفة خلفي.. في تلك اللحظة تمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني مرات عشر.. تمنيت أن يخسف بي الرب وبالأرض التي تحت أقدامي إلى سابع أرض..

أوغلت في منطقة الحيرة، وترددتُ أكثر.. داهمني الظن العارم إني أحرث في بحر.. ظننت أن الرفض سيكون سيد موقفها، أما لغياب الود أو لفوارق طبقية.. فضلا عن مانع آخر؛ فأنا أكبرها في العمر بعدد أصابع يد تخنقني بعد أن عاجلني الزمن ليضع الفرق خمسا أراها أكبر من عمر الشمس.. وأنا لا أستحمل رفضا يسحقني ويهزمني لآخر يوما في العمر.. لا أريد أن أتهور فتطويني كالرمة وترميني بكبر، أو تكسرني كزجاج لا يعود لسابق عهده.. تحاشيت كسرا لا يجبر ضرره حوريات الله في الجنة..

الحب الناقص
(5)
صدمة ومقلب.

هل خُطبت “هيفاء” من قبل زميل لها في ذروة حبي لها في المعهد.. لم اسمع بواقعة الخطوبة، ولكني فقط لمحت دبلة الخطوبة في أصبعها.. كان وقع الصدمة أشبه بوقع الصاعقة.. شقتني نصفين.. سحقت روحي بمجنزرة.. تطاير رأسي كزجاج وقعت عليه صخرة من شاهق..

أحسست أن “الدبلة” التي في أصبعها تطوق عنقي كحبل مشنقة.. الأرض على اتساعها باتت أضيق من خرم إبرة.. خيبة كبيرة تخنق أحلامي بقبضة من حديد.. صدمة تداهم عيوني بزغللة تنتهي بسواد يشبه الموت.. أطبق ملك الجبال على أنفاسي الأخشبين.. أحسست أن وجودي بات معدوما، وأن مستقبل حبي آل إلى بدد.. إحباط اجتاحني كطوفان نوح.. أحسست بعظيم الندم، وحسرة تتعدّى أطراف الكون.. ,فقدان وضياع لا حدود له..

تذكرت مَثَل شعبي كرره أكثر من مرة دكتور بمناسبات مختلفة في قاعة المحاضرات.. وهو مثل يُضرب فيمن يستحي من ابنة عمه.. مثل شعبي لاذع ومقذع يدين الحياء ويصعق صاحبة.. أدركني اليأس وصدمتني الحقيقة.. صدمني الواقع بما لا أتوقعه، فيما كان في ظل سلبيتي وترددي يجب أن أفترضه وأتوقعه.. ما حدث كان طبيعيا، وهو الراجح حدوثة، طالما ظللت مترددا ومراوحا في نفس المكان، أنتظر دون أن أتخذ قرارا، ودون تحديد زمن لاتخاذ مثل هذا القرار.. كانت خيبتي في النتيجة كبيرة، وكان فشلي في هذا الحب بالغ وذريع..

أحسست أن حبي لهيفاء بات عبئا يسحق كاهلي.. لم أعد أقوى على الخلاص منه.. صرت منكوبا به، وأعيش ورطته التي لا فكاك منه ولا حيلة للنجاة.. من ينقذني من قيعان هذه الورطة؟! لا حبال ولا سلالم ولا حانية تمد يدها لتنتشلني مما أنا فيه..

الحب الذي بدأ عظيما أنتهى إلى داء لا أعرف كم أحتاج من السنين لأتعافى منه.. حزني الذي أعتله صار أكبر مني، وما بقي مني لم يعد يقوى على حمل بقاياي، فمن هذا الذي يحملني ويحمل حزني الذي أحمله؟!! لم أعد أقوى على حمل حطامي، ولا قدرة على استجماع بقايا قواي، وأشتاتي المبعثرة في القيعان السحيقة..

رغم حطامي وبعثرتي وحزني الوخيم، أردت التحدِّي والمكابرة.. أردت البحث عن فتاة لا تشبهها فتاة في الوجود.. أردت أن أستعيد كبريائي واعتباري أمام نفسي بأفضل مما فقدت.. وفيما كنت أستعرض أوصاف الفتاة التي أريدها زوجة لي في المستقبل أمام صديقي وزميلي أصيل ـ الذي شاركني دراسة مادة الإنجليزي ـ فاجئني بقوله: “وجدت فتاة تناسبك وبالمواصفات التي تبحث عنها”..

كدت أطير من الفرح.. شعرت أن الدنيا تبتهج في عيوني مرة أخرى، بعد أن أحلكت سوادا وأطبقت خيبة.. توقعت أن القدر يريد أن يعوضني عما فات، وعن خيباتي التي تكاثرت، وبأحسن مما طاله الفقدان.. أحياني وبعثني صديقي أصيل من حطامي، وهو يصفها كرسام.. ولا يعلم حقيقة ما أعانيه في كتماني.. ظننتها وهو يصفها حورية من السماء، وبقي السؤال: كيف لفتاة بوصفه أن تفلت من عيون البشر؟!

لقد كانت لكلمات صديقي أصيل وهو يقول: “وجدت من تناسبك” وقعها على نفسي، أشبه بوقع كلمات أرشميدس وهو يقول “وجدتها .. وجدتها..” كنت أستعجله وألح عليه أن يعجل بلقائنا وهو يرجئ المواعيد، وكنت أصبّر نفسي وأقول: وهي بتلك الأوصاف، فإنها تستحق مني الصبر والانتظار والجعجعة..

وعندما جاء الموعد الأكيد، حط بنا الرحال في “جولة القصر”.. كانت لهفتي تسبق خطواتي وتستحثها على أن لا تتأخر.. لهفتي تزداد لمن أظنها عوض الرب، والمنتهى لما سيستقر عليه خياري.. أوقفني أصيل فجاءة، وأنحاز جانبا كمن ينصب كمينا، أمام معرض تجاري فخيم، لبيع ملابس نسائية جاهزة، ثم همس بإذني: “إنها تلك التي خلف الزجاج”

لم أشاهد خلف الزجاج أي فتاة .. ولمّا لم أستوعب الأمر أشار إليها بالبنان، وقال: “هذه هي من تبحث عنها وتناسبك”.. الحقيقة لم تكن فتاة وإنما كانت دمية على هيئة فتاة جميلة بملابس أنيقة.. وبقدر شعوري بالغضب وبالمطب الذي صنعه لي صديقي، انفجرنا بالضحك معا.. كانت ضحكتي أكثر دويا وجالبة للانتباه والفضول.. شاهدنا المارة وهم يتطلعون إلينا بفضول وتسأل.. مشدوهة عيونهم نحونا، دهشة وغرابة تعلو وجوههم جعلتنا ندرك أننا في شارع عام..

الحب الناقص
(6).
لحظات أمل .

في الواقع تبين لي أن هيفاء لم تكن مخطوبة..حينها كنت شجاعا فكتبت عن مدى حبي الجم لها .. لم استطيع ان اتحمل عذاب الحب ..شاهدتها تقرأ ..وصمتت لم ترد ..كان قلبي يكاد أن يتوقف خوفا أن ترفض .. بحجم ماضننت وكبرت نكبتي عن صمتها ..الإ أنها كتبت وردت برسالة طلبت أن نلتقي ..كانت فرحة عارمة لي فقلت يا إلهي!! ألان أصبحت على يقين بقبولها ..

لم تنام عيوني يومها ..حتى وصلت رساله منها بتحديد موعدها ..كاد قلبي يطير فرحا ابتهج منتظرا قدوم الصباح .. شجعتني وبررت لي الحضور لمقابلتها ..فشتدت لحظات إرتباكي ..ولم اصدق ماحدث فوافقت انا على فورها.. لم اكن جريئا بلا مساندتها ..سجدت لله على الفور ..طلبت أن أثبت حبي لها ..وافقت وقطعت وعدا لن اخلف ماحييت ..فحب هيفاء داء قاتل وهي الدواء ..

جاء الصباح يوم الإربعاء يومي الموعود لرؤيتها ..استقظت فدعيت الرب أن يسهل عبوري للضفة الأخرى بيسر ..وحبيت كثرة الدعاء من باب الاستسهال ..فيما كان قلبي يطير فرحا.. لم اكل يومها وكنت بشوق لرؤيه عينها فتذهب ما بي من اعتلاج الشوق ..فذهب لها ويا لهذا الخط !! ما أسعدني لقد وجدتها ..

نعم شاهدت هيفاء من خلف الزجاج ..ذهبت إليها فيما كان بيننا بضع خطوات ..إلا أنها كانت بالنسبة لي سنة من الضوء للوصول إلى الشمس.. تقدمت بكل ما أملك من قوة ووصلت للبدء في الحديث معها ..طرقت باب القاعة الزجاجية وهي بداخلها..فتحركت تجاهي فتحت الباب ..ابتسمت لها رغم مابي من حطام وحزن وخيم..أردت ان أبدوا قويا أمامها ..فتبستمت لي فأحسست أن مستقبل سيكون جميلا معها..فقمت بتحيتها واستعرضت كلامي ..صمتت خجلا وكنت مندهشا وكانني أمتلك العالم ..كنت أصارحها بحبي الجم.. والرغبة تعصف بي ..فقطعت وعدا لن اتخلاء عنها ماحييت حتي يتم عقد قراني بها ..تبستمت مرتين ووافقت ..

شكرتها وقررت الانصراف.. كان سحر عينيها يخطفني ويشدني للبقاء وأنا كنت في أقرب الاماكن اليها..لمحت أحدا يشاهدنا من وراء الزجاج . نظرت فوجدهم زملائها في المعهد.. وشخص أخر لااعرف أسمه ..كنت اراهم يتطلعون ويتكلمون فيما بينهم ..لم اهتم لذلك فواصلت مسيري للخروج ..

وفي اليوم التالي بينما وانا على موعد معها أن اطلب يديها ..حدث مالا يصدق ولم اعد افهم هل كنت ضمن مخطط مكيده “كيد النساء”..حتى أن زملائها شاركوا في أكاذيبهم..حتى من دلني واوصلني لهذا المكان والذي بسببه وقعت في الحب شاركهم ..الأن من ينقذني من قيعان هذه الورطة!! أصبح كل منهم ينسب أخبارا وأفعالا في عيابي.. لم تكن في أخلاقي ..صرت منكوبا ..أصبحت
خيبتي أكبر في النتيجة النهائية ..فقلت يالله ماهو ذنبي لكي تفعل هيفاء كل هذا بي ..
الأن وجودي بات معدوما ..

شعرت أن الدنيا تسود في عيوني ..وأطبقت خيبة مره أخرى .. ولايعلم حقيقة مابيني وبينها سوا الرب.. واني لم احضر برغبتي لها ..كتمت ماأعانيه وحفظ مراسلتي معها بالرغم من غدرها وفضح مراسلتنا ..فتخذت قرار أنني فشلت في هذا الحب ..فشلا بالغ وذريع ..

وأخذت الملم جراحي ورحلت ..بعد أن قادتني قادماى..قررت الهروب والذهاب الى زاوية من المدنية.. زاوية يهب فيها نسيم يخفف عني بعض الضياع ..وأحاول جمع أفكاري المتشتتة.. وفي قلبي الم يريد بي الهورب من هذه الحياة.. يريد الهروب بي من شدة الآلام والمعاناة والماسى التي عاشها معك يا هيفاء..

لحظات من الخذلان ..جعلتني أفكر أن اهرب من هذا العالم الشرس والغادر ..الملئ بالذئاب الجائعة ..والملئ بأشخاص لايعرفون غير الأفتراء والغدر..تلك الزاوية المحايدة المتطرفة في المدينة ..هي التي تخفف عني قليلا من الآلام القاتلة التي لااستطيع البوح عنها.. واجلس لأبكي لوحدي ..

الحب الناقص
(7)
بــــــوح أول

• لطالما تمنيت يا هيفاء أن أكون دمعة حزن في محاجر عينيك.. مسحة حزن خفيفة على ملامحك الحالمة.. الحزن أيضا يزيد عينيك سحرا، ويضفي على تفاصيل وجهك جمالا وجاذبية.. ما أجمل أن أقاسمك حزنك واتبارك فيه، وأتبرك به.. من هذا الذي لا حزن له؟!

• تمنيت أن أكون خصلة أو جديلة في مفرقك.. تطير عاليا خارج المدار.. تسافر إلى الأقاص البعيدة.. تعرج بي إلى السماء.. نستكشف مجاهيل مكتوبنا، وما خطه في اللوح القلم، ونجيب على كل الأسئلة..

• أبحث عنك في كل فسحة، وبعد كل درس، كالحروف الشاردة عن كلماتها، والكلمات الباحثة عن نقاطها التائهة.. دونك الكلمات لا ملح ولا سكر، ولا في الشعر قصائد.. عندما أراك أطعم الأشياء، وأرى الألوان البهيجة.. أرى الحروف محار، وأرى الجواهر في القصيدة.. دونك أشعر بالفراغ يحيطني، ويفرقع داخلي احباطا وخيبة..

• أنا الحروف الشاردة في الفضاءات القصية، أبحث عن نقاطي الهاربة!! كيف لي أن أكتب القصيدة، وأنا الذي أستغرقه الفشل؟!! لازال نصفي يبحث عن نصفه الهارب في الآماد البعيدة؟!! كيف لانكسارات الحروف أن تستعيد العافية؟!! وكيف للحروف الشاردة أن تصنع القصيدة في دوحة الشعر الجزيل؟!

• كتبت عن عينيك يا هيفاء، بجراح غائرة في الروح، وفاه فاغر يبلعني كل يوم مرتين.. حاولت أستعيد نصفي وأسترد بعضك في لواحظي، ولكن عينيك كانت عنِّي شاردة.. فإن رمتك سهامي عادت خائبة، لتصيب قلبي الذي أنفطر بحب التي لا تحبني.. من يصنع الكيمياء بين أرواح البشر؟!

• حاولت أن أشحذ سهامي في جحيمي الذي يصطليني.. أسنها بلواعجي وأواري التي أخبيتها.. أردت أن أقصف بصواعقي قلب الحبيب، و يا ليتني ما فعلت، فكل صواعقي عادت تفجرني بألف خيبة وصاعقة.. أنا المحب الذي أثقل الحب كاهله، وأثخنه ألف مصاب وجرح..

• كنتِ تنامين يا هيفاء تحت جفوني كل مساء وتصبحين.. تمرين جواري خفيفة كنسمة بحر منعشة، أو إشراقة صبح جميل، ممشوقة كآية في امتشاق القوام، آسرة المشاعر كالمعجزة .. تسيرين سير الحمام، فيزجل داخلي الحب الجميل.. وإذا ألقيتي عليّ السلام، كان سلامك قنطرة تسقي روحي العاطشة، وتمدها بالأكسجين.. وعندما عني تعرضين، أشعر بهول الكارثة..

• لطالما تمنيت أن أكون قلما ودفترا وممحاة في حقيبتك الزرقاء. . أسافر فيما تكتبين دون عودة.. لوحة رسم معلقة على حائط غرفة نومك، تسافرين في تفاصيلها قبل كل غفوة.. وسادة تضعينها تحت خدك عندما تخلدين إلى النوم، وتحلقين مع الأحلام السعيدة.. قنينة عطر تشتاق لك في كل حين.. هدية ملفوفة بالضوء تبحث عنك في الدروب والأمكنة.. شرفة يملأها وردك الفواح بالأريج..إلى المرآة وساعة الحائط وحتى أحمر الشفاه وطلاء الأظافر.. إنه الحب المتيم، والمستبد على الشوارب..

• ولكن كان الختام غير مسك، وكان الفراق.. استهلكت روحي في عناء السفر والزمن المسافر، وعندما أدرك اليأس اللحاق، وبات طول الانتظار دون لقاء أو مجيء أو أمل، ومسافات البين تزداد بيننا، وختامها غير الطريق، كان السؤال: كيف لي أن أدركك!! ومسافات البين تترامى في المدى، ومسافاتي التي قطعتها خائبة تحبو في القاع السحيق..

• استجمع روحي المهشمة والمتطايرة كالزجاج، أحاول بيأس أشد إليّ شواردك، ولكن صوتي مهما علا لا يصل إلى أطراف مسامعك، ويتلاشى صداه في المسافات الطويلة، وبقي حولك زحام المتحلقين وضجيجهم.. ونحسي المثابر بات يعترض كل معابري، وأنا الذي قالوا في يوم ميلادي أنني صاحب البخت السعيد..

الحب الناقص
(8)
بـوح ثاني .

• كنت يا “هيفاء” أخبي حبي في نفقي السري العميق وأسد منا داخل منفذه ومنافسه وأخرج من دهاليزي ألبس الأقنعة ليكمل السر ذروته ودورته.. أغلي في مرجلي واكتم صوت غلياني وأحاصر الأبخرة لأسوقها إلى قنينة نبيذي لأسكر بأوجاعي الصامتة.. لطالما حرصت أن لا يعرف الصمت عما الذي فيني يجيش وماذا يحدث في أعماقي السحيقة.. منعت نفسي عن نفسي ومنعتُ الصمت أن يسمع صمتي وهواجسي التي تجوس وتغلي داخلي..

• أغير عليك دون أن تعلمين أو يعلم أحد.. غيرتي كبلتها بناري وأصفاد الحديد وألجمت جنوني المحتدم تحت قشرة الأرض السمكية ولم تفكر غيرتي يوما أن تفرض الحجاب على الصباح الندي ولا ضرب البراقع على شروق الشمس ولا أسدل سواد الموت على وجه القمر..

• كنت أقمع نشيجي وأسحق بقسوة صهيل خيولي.. سلطتي على نفسي كانت مُفرطة.. أتظاهر بالسكينة والدعة والسلام الداخلي فيما معاناتي وآلامي تزيد ووجع الحقيقة أشد.. يا لعمري وأحماله الثقال وما الجمل يوما شكى لصاحبه بآه وقال له إن أحمالي ثقيلة.. مجرم أنا بحق بوحي الذي لطالما ظللت أقمعه وأخنقه لسنوات طوال..

• من حق الأقنعة أن تشكو قُبحنا وقد ضاقت ذرعا بنا وأرعبها طغياننا ونفاقنا وما نداريه من التوحش والقتامة.. ويل لمجتمع كذوب ومنافق من الحضانة إلى يوم القيامة.. كان إبليس يكره الأقنعة.. فهل يستحق أن نشكره؟!!

• لقد أحسست يا “هيفاء” يوما أنني صرت جلادا وسجّانا وأنا أحبس صهيلي في السراديب السحيقة.. وأخنق بوحي وحبي في مدافني وأنفاقي العميقة.. أقمع أجمل المشاعر بقسوة جلاد وطاغ..

• إذا غبتِ يوما عن المعهد أهوي إلى قاع الجحيم.. ما أقوى اشتياقي والحنين.. يا لعمر مهدر ومصلوب وخائب.. يا لخيباتي الكثار التي أتخمتني حد الانفجار وأقداري التي خذلت مُناي وكان عليها أن تخبرك أن هناك شاب بحبك يموت ويحتضر.

• أحدث نفسي وأسأل: كم هذه الأقدار علينا قاسية وهي ترفض نقل إحساسي إليك.. كان قلبي يخفق ويضطرب كعاصفة فيما أنتِ كجلمود صخر لا تحسين ولا تشعرين.. كنت وأنا أحدثك أشعر إن أقداري لم تتقن صناعة جهازي العصبي وأن فيه ألف خلل وأنا أعيش لحظة إرباك أمامك وكأن على رأسي يقف ألف عفريت وطير..

• قطعاً كنتِ تلاحظين جزعي وخجلي وارتباكِ وتفاصيل وجهي والجسد إن تقابلنا أو تحدثنا في لقاء عابر.. ألم تسألين نفسك يوما ما سر هذا الارتباك الذي يحس به التراب الذي أقف عليه؟!.. هل كنتِ ضريرة؟! أم كان غبائك فاحشا حد الذي لا يرى اضطراب شجرة في وجه العاصفة!!

• أستحضر روحك كل ليلة محاولا أن أبلغك رسائلي وأعلمك بما يدور داخلي.. حاولت بحواسي فوق الخامسة أن أبلغك بعض ما يجيش من حب لا يُحتمل، يشب في صدري كالبراكين العنيفة وفي غمرة المحاولة اكتشفت أني وحواسي نعاني من عطب كبير..

• توعكت بك حتى خانتني الحواس وقتلتني تلك التي تفانت في إخلاصها حرصا عليك ومن الحرص ما فعل الدب بصاحبه.. ما عهدتُ الحرص يوما مُضلل وكاذب.. كنت حر طليق والكاذب من أبلغك أننا قلت عنك شيئا سيئا.. إنه الكيد المظلل والأكيد.. ما يكبح الطيش بالمكايد والمفاسد يا مُخلصين..

• أكل الحزن والغياب ما أشتهى من عمري وضاع مني الحلم الجميل ورغم ذلك لازلت أنبض بحنين الذكريات أحاول أن أستعيد ذكرى بعض من عمر هرب ولم أدركه لأبوح له بأشجان لها طعم النبيذ المعتق بحنين السنين الطوال..

الحب الناقص
(9)
“هيفاء” التعزية .

• في سنتي الأولى من دارسة اللغة الإنجليزي في المعهد تعرفت على “هيفاء” كانت الأكثر جمالا ودهشة بين الجميع.. هيفاء تنتمي لحي المسبح بتعز .. لم أكن أعلم أن في تعز كل هذا الجمال الغامر، وهذا السحر المبين الذي يملا المحيط ويفيض.. جمالها يسلب الألباب والقلوب، ويجردنا من كل سلاح ومقاومة؛ لنأتي إليها طائعين خانعين مستسلمين.. ما كل هذا الضعف الذي بات يعتريني، ويستولى على كل شيء فيني يا الله.. جمال لا أقوى على تحدّيه، بل لطالما كشف مدى ضعفي وهشاشتي التي باتت لا تحتمل نسمة هواء حتى تخور وتنهار ركاما من حطام..

• أختلس النظرة من نور كلص لـهيفاء، وبقلب مرتجف ومرتعش.. أنا أكره أفعال اللصوص يا الله؛ فلماذا تحولني إلى لص رعديد، وأكثر منه غير محترف؟! هذا الجمال الفارط صيرني خائفا ومتميا، وأنا الذي أثور على نفسي على أن أكون جبانا أو ذليلا.. أنا المتيم بـهيفاء، وقد صرت مملوكا لها، وعلى وجهي أهيم.. لقد صارت سيدتي ولها فصل الكلام؛ فهل هي تقبل عبوديتي إلى الأبد ..

• أعشق الحرية حد الموت، ولكن هذا الجمال المفرط بات يستعبدني.. جمال يمارس الطغيان، حتى حولنّي إلى عبد خائف مرتعد؟! أنا المدموغ بالإنكار، ولكن في حضرة الجمال أعترف، إن جمالها حجة الله الدامغة على وجوده في الأرض الذي يهتز قلبها من شدته ..

• أستفتح بها كل صباح.. انتظر قدومها كسفينة نجاة، أو كأسير ينتظر فاتح عظيم.. انتظرها ساعات طوال لاغتنم لحظة في غفلة الزمن المدجج بالعيون؛ لأختلس نظرة تلتاع بشوق كالحريق.. كل العيون ترمقها بجرأة إلا خجلي ينتظرها ساعات طوال ليغتنم لحظة بلمح البصر، وخلسة من رقابة كل العيون.. أشعر أن العيون كلها راصدة، تراقب كل شيء، وتعدم أمامي خلستي الفاشلة في معظم الأحيان..

• عيوني المتعبة تترصد غفلة لتقترب من ملكوت الإله وممالكه.. أنا محب ولست شيطان رجيم.. أريد أن أدونوا وأقترب لاسترق نظرة أو كلمة في غفلة الشهب الحارسة.. أستلهم الوحي والعلم والسر العظيم.. أحاول أعبر ببصري من ثغرة الرعب اللعين في غفلة الحراس، لاسترق سرا من السموات العلى، لأمارس كهانة الحب الجميل ..

***

• كنت أدرس مع صديقي أصيل بقاعة زجاجية بجانب قاعة “هيفاء” فيما كانت دائما تظل بمقدمة القاعة لتشرح الدروس لطلابها وتأتي أحيانا لمؤخرة القاعة في الاتجاه الآخر نحوي .. كانت ترمقها تسير بالقرب مني وانا في القاعة الأخرى، وأشعر بخجل أن أزاحم الهائمين عليها وهم كُثر يتزاحمون.. كان خجلي يحول أن لا أبدو أمام الآخرين طائشا أو مراهقاً يشبه الصبية الغر في التصرفات المتهورة ..

• كان الأستاذ إذا سأل الطالب سؤال أو أجاب الطالب على سؤال الأستاذ، وكان موقع الطالب أو الطالبة في الوسط أو المؤخرة، أقتنص الفرصة، وأوهم العيون أنني أهتم بجواب السؤال، فيما أنا في الحقيقة أختلس نظرة عجولة من وجه “هيفاء” كنت أنحني برأسي قليلا لأرمق وأسرق نظرة على حين غفلة من الزمن والعيون ..

• كنت شديد الحذر من أن ترمقني أحد الأعين وأنا أصوب سهامي نحو هيفاء، فيما هي مشغولة في القاعة المجاورة وبدائرة أضيق من الجوار.. كنت شديد الحذر وأنا أتحاشى العيون لأصل إلى عين هيفاء.. حذري من العيون يشبه حذر جندي الهندسة وهو يسير في حقل ملغوم، ومعي بغيتي الباحثة عن نظره من جمال الله وابداعه في هيفاء.. إنها نظرة عاشق ولع كتوم ..

• الأن بعد سنتين هيفاء اختفت فجاءة ولا أدري أين ذهبت!! لم تعد تأتي إلى المعهد .. نعم هيفاء غادرت المعهد للأبد، ولكن لا أدري إلى أين!! هيفاء كانت الجمال والدهشة .. هيفاء نور على نور ونار.. قبس من سر ووحي عظيم.. معجزة لا يأتي بمثلها إلا الرحمن الرحيم ..

اصبحت الإنجليزية هي خيبتي الكبيرة التي رافقتني طوال الحياة وبعد كل مراحل حبي، التي عانيت منه طويلا، ولم استطع مغادرة فشلي فيه. كساح الذي لم أتعافِ منه إلى اليوم.. المادة الوحيدة الذي تجتاحني فيها الذكريات كل صباح باكر في كل يوم أقوم بمراجعة اللغة او التحدث بها أشعر أنه يشبه في طوله ونطق كلماته بيوم القيامة.. الوحيدة التي أحس خلالها بالعجز الثقيل، وفقدان طاقتي الإيجابية كاملة.. تفترسني دون أن أقاوم، وليس لدي فيها ما أقوله ..

أشعر بالعك والاكتئاب لمجرد أن أتذكّر مادة الإنجليزي ..أن أردت تفسدُ ضحكتي المجلجلة في اذكرنّي بها أشهد فيها أهوال القيامة ..

الحب الناقص .
(10)
موت .

كيف أنسي وأسافر يا “هيفاء” !! وأنا عالق في غب الحسرة ,منكوب بوجودي ..ملبوق حد الهذيان يبدو أن الله كتب لي في لوحه المحفوظ حظﻲ العاثر بالفقدان ..والمصلوب بالشقاء والبؤس..وغياب يصل حد المعدوم ..

أي جنون هذا.! هل أنا باغ يارب لمجرد تفكيري في طلب الحب أو عقد قران ..حب صيرته مني أبعد بالف سنة من الشمس..ياعشرة اعسار تفتتني كحجرة جير رملي ..ماذا بقي مني!! حلم مشفوع بالنوم الغارق في العمق ..فكيف لأصابع مجذومة بأمر الله ..أن تحفر نفقا في جبل صم والصخر..!! أنا أنسان بسيط مسحوق بين رحاها والحب الناقص ..

أنا منكوب من أول يوم في بحبها. ولازلت بعد سنتين أعيش حواي وبؤس.. وأعيش فراغا في عاطفتي بحجم هذا الكون وأكبر ..

خلقني الله في قاع البئر مكروب الحال بالحب الناقص ..أحاول إنقاذ مابقي مني ..فيأبي قدري لا أحد يسمع صوتي المخنوق في أعماق الغور مثقول بالحزن وبالوحشة..
سنتين أحاول أن أخرج منها فعجزت..وتخلي عني الكل اعيتني الحيلة فتحجرت فيها..حتى صرت بعض منها ..

في جحيم الحب الناقص اصلي كل يوم منفردا دون جماعة من أبحث عنها لاتهتم لأمري ..ولا تفهم أني مصلوبا بالحب الناقص بين ذراعيها..حب بدون تكافؤ ..بينما الشوق المجنون يشعل حرائقة في شراييني ..البوح في الحب الآتي من طرف واحد خزي ودوس كرامة.. الكتمان عز من ذل ومهانة ..ما أقسى هذا الحب يا “هيفاء” وما أشده على من حب ..

ماأصعب حالي وأنا أداري ما في نفسي من حب بات أكبر مني ..
صارحتها مجددا بحبي الجم.. وطلبي لعقد قران وزواج يدوم العمر.. ولكن لم تأتني بإشارة تساعدني على استجماع إشلائي المبعثرة في أطراف الأرض ..كنت ظن أنه ستكون إشارة ولادة أمل وشمس في وجه اليأس المعتم ..تسألت يالله هل ستقبل عبوري للضفة الأخرى بيسر.!!
حبيت أن أستوثق أكثر من باب التفائل والإستسهال فيما كان قلبي يشعر ببصيص من الأمل ..داهمني الظن العارم أنها ستشفق لحالي.. بينما أنا لاأستحمل رفضا يسحقني ويهزمني مرة أخرى لأخر يوما في العمر..

أصابتني اليوم بصدمة تداهم عيوني بزغللة تنتهي بسواد يشبه الموت ..أحسست بعظيم الندم وحسرة تتعدى أطراف هذا الكون ..فقدان وضياع لا حدود له..

أدركني اليأس وصدمتني في ردها ..صدمني الواقع بما لا أتوقعه.. وأنا في أنتظر أتخاذ قرارها دون تحديد زمن لاتخاذه ..هل ستكون خيبتي في النتيجة كبيرة ..

أن حبي لـ “هيفـاء” بات عبئا يسحق كاهلي.. لم أعد أقوى على الخلاص منه.. صرت منكوبا به..ومنذ سنتين أعيش ورطته التي لافكاك منه ولاحيلة للنجاة ..من ينقذني من قيعان هذه الورطة.!! لاحبال ولاسلالم فهل ستمد يدها لتنتشلني مما أنا فيه!..

الحب الناقص
( الأخيرة)
العزيمة والمواجهة

الحب الصامت والخجول والمقموع في ذواتي يا صديقي أصيل هو حب بالغ العفة والصدق والإيثار.. تضحية بالغة من طرف واحد وخيانة من طرف الآخر.. مشقة كاملة غير مقسومة على اثنين.. حب ناقص نصفه ولكنه بالغ لمن يعرف معاناته وصبر صاحبه.. حبي يا صديقي عظيم ومدفوع بجسيم التضحية وقد بلغني فيه من العذاب حد الجحيم.. هذا الحب يا صديقي عشته وغرقت فيه حتى العمق وأبحرت فيه إلى أقاصي حدود التيه والتلاشي ولكنني أيضا استعدت أنفسي من جديد على نحو أكثر حضورا ووجودا وتجددا..

كتمت آهاتي وأوجاع العذاب عن الجميع ولم ابح بسري إلا في لحظات وحدتي المتشردة وانفلات عقالي في الحلم عند النوم العميق.. الحب الصامت يا صديقي أجل وأعف وأقدس.. يعيش داخلنا مشتعلا ومتأججا ونحن نداريه ونخفيه عن الأعين ونحاصره في الوعي وفي اللاوعي ما استطعنا..

إن حُبَّي يا صديقي يشبه البراكين المتأججة والمضطرمة تحت قشرة الأرض.. يذيب صخور الأرض في جوفها وإن تراكمت على سطحها طبقات الثلج وجبال الجليد.. نخنق بوحي ومشاعري في أعماقي وتظاهري أننا على أحسن ما يرام.. هذا يا صديقي لا يفعله إلا الكبار أمثالي..

هذا الحب يا صديقي حتى وإن كان معاقاً ومصلوباً ومعذّباً إلا أنه تجذَّر فيني إلى حد التماهي وعيا ووجداني وذاكرة.. حب كابدني وواريني تحت الضلوع ناراً تصطليني من الداخل كالجحيم إنه الفشل الذي تفوقت فيه وأدركت ما لا يُدرك منه ولكنني عوَّضني بنجاح آخر في ميادين أخرى وبإرادة وإصرار لا يملكها كثير ممن أكتمل حبهم..

هذا الحب بقدر ما سبب لي يا صديقي من العذاب إلا إنه ألهمني إلى مغالبة التحدِّي وإيجاد ذواتنا واقتحام دروب نجاحات أخرى.. لقد أصبحت انت دكتورا وكاتبا فيما أنا شقِّيت طريقا آخر ولم استسلم للموت ولم اقضِ بقية عمري ابكي اللبن المسكوب والحب الذي لم يكتمل نصفه بخيانتها بل استطعت بإرادة مضاعفة مغادرة دائرة الفشل والعبور إلى المستقبل رغم المعوقات والكوابح والظلام الكثيف..

إننا يا صديقي اشبه بذلك المعوق الذي بُترت ساقيه في الحرب إلا أنه غالب وغلب إعاقته وحقق من النجاح بعد الإعاقة أكثر مما حققه وهو سليم معافى بل وحقق ما لم يحققه كثير من أقرانه المتعافون عقلا وحواسا وبدت.. النجاح يا صديقي أن احوّل نقاط ضعفي إلى قوة ونقصي نتجه به نحو كمال انشده..

شاهد أيضاً

حيان نيوف جاءت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العراق في مرحلة حرجة تمرّ …