الحاح حسيب عواضة صاحب “مؤسسة حسيب عواضة التجارية لجميع أنواع الدهانات ولوازمها”، أمين شؤون اللجنة الإجتماعية في الهئية الإدارية لـ”هيئة تكريم العطاء المميز” ومن مؤسسي غرفة التجارة في النبطية

 الحاج حسيب عواضة

منذ طفولتي وأنا متمرس بالعمل الخدماتي وأعمل فيه من كل قلبي وبكل جهدي وقدرتي المعنوية والمادية

أهداف “هيئة تكريم العطاء المميز” إجتماعية، معرفية، علمية، ثقافية، تشجع الإختراع، تكرم المميزين وبعيدة عن التعصب الديني والطائفي

بعد إصابة والدي بالشلل تحملت مسؤولية عائلتي وأنا في الخامسة عشر من عمري

نشأت في بيئة متفتحة علمياً وإنسانياً وإجتماعياً أباً عن جد

كان جدي لوالدتي والياً لعكا قبل أن يكون مختاراً، وجدي لوالدي من مشايخ النبطية، وكنت ساعي البريد بين الجدين

زوجتي “فاتن” تحملت معي هموم الحياة وأطلب منها أن تسامحني

ليست غريبة تلك الحيوية النابضة حباً وخيراً لرجل تخطى السبعين من عمره المديد وهو الذي سار على طريق العطاء منذ نعومة أظفاره، ليس مستحيلاً أن يكون تاجراً ناجحاً من دون غش أو كذب أو سرقة، وليس صعباً أن يتحدى صعوبات الحياة بما يملكه من عزيمة وتحدي وبسمة رضا ومصالحة مع الذات وحب الناس.

الحاج حسيب عواضة صاحب “مؤسسة حسيب عواضة التجارية لجميع أنواع الدهانات ولوازمها”، هو أيضاً مشاركاُ لتأسيس العديد من الجمعيات الخيرية والصحية والبيئية والثقافية إضافة لغرفة التجارة في النبطية، هو واحد من أبنائها المخلصين المعطائين الذين لهم بصماتهم المشرّفة والمشرقة في مجتمعه، فقد أصبح رجلاً وهو طفلًا صغيرًا، عندما وجد نفسه قسراً أمام مسؤوليات ضخمة تجاه المهجرين من أهلنا الفلسطينيين إبان  نكبة عام 1948، وجاهد مع أقرانه وأهله في النبطية لتأمين البيوت والغذاء والدواء لهم، وسار في طريق العمل الإجتماعي على هدى فطرته وحسن تربيته وخصب بيئته المؤمنة بالتكافل والمشاركة، ليتفاجئ وهو إبن السادسة عشرة من عمره بتحمل مسؤولية عائلته بعد إصابة والده بشلل أقعده عاجزاً عن العمل، وتابع جهاده بهمة الرجال لتأسيس أمبراطوريته كتاجر ناجح دون أن يهمل عطاء أو يصم آذانه عن أنين محتاج، لدرجة أن إسمه رافق كل عمل خير وكثيراً ما يوقع “العبد الفقير لله حسيب عواضة – إبن النبطية”..

مع تجربة الحاج حسيب عواضة الغنية بصور إنسانية تضج صبراً وتشع إيماناً يترجمه عملاً صادقاً فاعلاً، نتحاور مع الإبن البار والزوج المحب والأب المضحي والتاجر الناجح بصدقه ومحبته لمجتمعه..

*ما أهمية العمل الإجتماعي عند الحاج حسيب عواضة؟

العمل الإجتماعي هو أخلاق وتربية وقد خاطب المولى عز وجل رسوله الكريم (ص) بـ”وإنك لعلى خلق عظيم”، وهذا يعني أن الدين الحق هو أخلاق وتربية إذا فقدها الإنسان فقد دينه. بدأت بالعمل الإجتماعي مع “هيئة الخدمات الإجتماعية” التي تأسست برخصة دينية سنة 1948 مترافقة مع النكبة الفلسطينية، وتهجيرهم إلى النبطية، وكنت يومها طفلًا، ولم أزل مشاركًا فاعلًا بنشاطات الجمعية بكوني رئيساً لها.

*ما الذي جعلك تهتم بالعمل الإجتماعي وأنت في هذا العمر الصغير؟

نشأت في بيئة متفتحة علمياً إنسانياً إجتماعياً، كان جدي لوالدتي المرحوم “الحاج عقيل فهد” مختاراً للنبطية، كان ذو شأن في ذلك الوقت، من ناحية قوته الجسدية ووقاره وهيبته وفكره وحكمته وتجربته الإنسانية، وكانت تخبرني جدتي بأنه كان والياً لعكا قبل أن يكون مختاراً، وكان والده المرحوم الحاج قاسم فهد من شعراء النبطية، كما كان جدي لوالدي من مشايخ النبطية، وكنت ساعي بريد أنقل أحيانًا بعض الأوراق بين الجدين لكون المسافة قريبة بينهما، بحيث كانا ينجزان معاملات رسمية لما فيه مصلحة النبطية.. بقينا في العمل الإجتماعي عندما تألفت لجنة بالنبطية لمساعدة المحتاجين الذين تهجروا من فلسطين، وأستضافهم أهل النبطية في بيوتهم، وبنوا لهم الخيام في أراضيهم، رافقت كل هذه الأحداث لأن بيتنا كان في ساحة النبطية التي جعلتني مطلاً على كل ما يحدث في البلدة. وفي إحد الأيام جاء وفد جديد من المهجرين، بعضهم على البغال والبعض الآخر سيراً على قدميه وكانوا في حال يرثى لها، ففتحنا لهم المساجد والمستوصف وجمعنا من البيوت الخبز واللبن والطعام حسب الإمكانيات، وعندما طال مكوثهم أعتبرناهم كأهلنا خاصة وأنهم كانوا يتوافدون على فترات أستمرت حتى عام 1955 وكنت يومها قد دخلت في الكشافة التي كانت تحثنا على الإهتمام بالنازحين من الناحية الصحية والغذائية والإجتماعية، فكنا ننظم حملات التلقيح، ونقدم لهم المساعدات الإنسانية بمشاركة أهل البلدة، وأصبحنا نجمع التبرعات لتأمين “الأعاشة” التي يحتاجونها، كما كنا نساعدهم بدفن موتاهم، وعلاج مرضاهم ولم يكن يومها في النبطية كلها إلا أربعة أطباء: هم الدكتور علي بدر الدين، الدكتور محمد صبّاح، الدكتوروديع بحري والدكتور.. ومستوصف واحد، ولفعالية مشاركتنا أشترينا سيارة مع ميكرفون يساعدنا على الإعلان عن توزع الأعاشة ومساعدات الـ UN، وقد أتجهنا للتعاون مع كل الجمعيات الإنسانية نجمع الحرامات والثياب والأغذية ومن ثم نقوم بتوزعها، كما تعاونا في جمع ثمن سيارة اسعاف من 450 شخصاً واصبحت تخدم كل المنطقة خاصة أثناء الإعتداءات الإسرائيلية التي كانت متكررة في تلك الفترة، وعندما حدثت الحرب الأهلية غيرت الكثير من المفاهيم وقلبت الموازين مما تطلب المزيد من العمل الإجتماعي والتوعوي والصحي والوطني.

* ماذا غيرت الحرب الأهلية في الواقع الإجتماعي؟

 كان مجتمعنا شبه مثالي، من الصعب أن يغلط أحد بحق غيره من دون أن يتدخل الكبار للمصالحة، أو إعتذار الصغير من الكبير، أو الظالم من المظلوم، ولكن هذه البنية الإجتماعية السليمة نسبياً تغيرت سلبياً أثناء أحداث 1975، حيث توقفت المدارس وتهجّر الناس وتشتت العائلات، سافر الكثير طلبًا للأمان، أو لتحصيل لقمة العيش، فأنخفضت نسبة المتعلمين والمثقفين، فالذي كان عمره 10 سنوات أو 20 سنة أصبح بعد نهاية الأحداث في الثلاثين سنة أو تعداها، وبطبيعة الحال يتزوج هذا الشاب من فتاة بنفس مستواه الفكري والثقافي، مما ساعد على نشر بعض الجهل في المجتمع مما ينعكس بدوره على الأولاد الذين لم يكمل بعضهم الدراسة، من هنا نشأت جمعيات  متنوعة الأهداف، ومن بينها كانت “هيئة الخدمات الإجتماعية” الغير ربحية التي كانت تعتمد على التبرعات، وقد حصلنا على ترخيص لها عام 1969، واليوم أصبح عمرها رسيماً 50 سنة، وسبق الترخيص عشرين سنة عمل بترخيص ديني، يعني عمرها العملي 70 سنة، ولم تزل تعمل مع تغيير في الأعضاء وأنا اليوم رئيسها، كما نشأت في النبطية عدة جمعيات منها “جمعية البيئة” التي كنت بكل تواضع من المؤسسين فيها، وعملنا مركزًا للبيئة أنجز العديد من المشاريع رغم قلة الدعم من الدولة، كما توجد جمعيات “تقدم المرأة” و”جمعية التنمية” وقد كنت عضواً في هئيتها الإدارية، وكان لها الكثير من الإنجازات في النبطية على مستوى الهاتف، ومراقبة المدارس والمستشفيات، كذلك أنشأنا “غرفة التجارة في النبطية” وعملنا أول اجتماع في بيتي، وأسسنا مجلس إداري لها وما زالت تحتاج لمجهود أكبر ونعمل على الحاقها بغرفة الصناعة والتجارة والزراعة في صيدا والجنوب لتكون أكثر فعالية. كما تأسست في النبطية منذ أربع سنوات “هيئة تكريم العطاء المميز” وقد أنتسبت لهذه الهيئة المميزة بأهدافها الإجتماعية والمعرفية وتشجيع العلم والثقافة والإختراع لخلق مجتمع راقٍ مثقف وتكريم المميزين، وهي بعيدة عن التعصب الديني والطائفي، تتضمن الهيئة خيرة المثقفين بكافة تخصصاتهم، هيئتها الإدارية مؤلفة من 11 شخصاً، وفي أي إجتماع يتعدى العشرين مشاركاً، بمعنى أن الإجتماع ليس مقتصراً على الهيئة الإدارية بل لجمع الأعضاء الذين لديهم حق إبداء الرأي والإقتراح والنقد، لأن الغاية هو المصلحة العامة للمجتمع بشكل عام.

 *ما لاحظته أنك تعطي “هيئة تكريم العطاء المميز” الكثير من وقتك ومالك وجهدك؟

كما ذكرت آنفاً، منذ طفولتي وأنا متمرس بالعمل الخدماتي وأعمل فيه من كل قلبي وبكل جهدي وقدرتي المعنوية والمادية ، ولليوم ما زلت أعمل بالهئية وكأني إبن العاشرة من عمري وأنا من مواليد 1941، لا أجد أية صعوبة ولم أشعر بأي كلل أو ملل.

*هذا العمل الإجتماعي الذي تمارسه بكل هذه الحيوية والطاقة والمقدرة، هل هو الذي أعطاك أم أنت الذي أعطيته؟

كنت بالكشاف العاملي من أيام المرحوم الحاج رشيد بيضون، وما زلت بالمفوضية لغاية اليوم مع أن العمل متوقف، الكشاف هذبني إخلاقياً من ناحية عدم تعاطي المشروب أو غيره من الموبقات التي يشجع عليها الشارع وتكون مرغوبة من الشباب في بداية حياتهم وفترة الأزمات، كما شجعني جسدياً على الرياضة، وللآن ما زلت حاملاً للقيم الاخلاقية المضافة إلى تربية صالحة بكل معنى الكلمة، والجواب أننا تبادلنا العطاء، هو أعطاني المعنى الجميل لحياة الإنسان عندما يسعد الآخرين ويخفف من أوجاعهم وأنا أعطيته صدق الجهد المادي والمعنوي والمواظبة على تحمل مسؤولياتي مهما كانت صعوبتها.

*أنت رجل أعمال ناجح  كيف تجد الوقت الكافي للعمل الإجتماعي المزدحم بالعطاءات المادية والوقتية؟

أنا تركت المدرسة وعمري 16 سنة عندما أصيب الوالد بالشلل في أول يوم أفتتح فيه محل الدهانات نتيجة وقوع صندوق عليه، فأصبحت مسؤولاً عن عائلة مكونة من ثمانية أطفال أنا أكبرهم، والأم بالكاد تستطيع غسل ثياب العائلة وتحضير الطعام، والأب مقعد لمدة 38 سنة، لذلك أستلمت مكانه بالعمل في المحل ليلاً نهاراً، ورغم عملي المتواصل تسجلت في سوريا ونلت شهادة الكفاءة وعندما أفتتح المعهد العربي في النبطية أنهيت فيه دورة محاسبة تجارية بتفوق وحصلت على المركز الأول، وهذا ساعدني لأكون تاجراً ناجحاً، حيث تعلمت كيف أنظم الحسابات وتسجيلها، ولا أنكر الرعاية الثقافية والإجتماعية والإحتضان الأبوي الذي تلقيته من أصدقاء والدي، منهم السيد عبد اللطيف فياض وغيره، الذين أصبحوا رفاقي بغض النظر على فرق العمر. لقد عشت إنسانًا عمليًا، وكان شعاري: “أسعد إنسانًا تكون سعيدًا” وهذا ما كان والحمدلله.

*ما هو وجه القرابة بينكم وبين أهلنا في فلسطين؟

كما ذكرت بأن جدي لوالدتي كان والي عكا، (وكان عديله عبد الرزاق كنفاني الذي هو جد زوجتي فاتن كنفاني)، وهو من أكبر تجار فلسطين في عكا، تزوجا أختين من صيدا، ما زلت أتذكر عندما كان الدكتور لبيب أبو ظهر يزورنا في النبطية ويقبل يد والدتي لكونهاعمته، وعندما حدثت النكبة  تهجّر أهل فلسطين إلى النبطية وقصدوا بيت جدي إنطلاقاً من علاقاته مع أهلنا في فلسطين إضافة لكونه مؤمنًا وطاهرًا وسباقًا للأعمال الإنسانية والخيرية، فكانوا يأتون كأصحاب وأقارب. أما جد زوجتي عبد الرزاق كنفاني  فقد سلك طريق البحر حتى وصل إلى بلدة الغازية ومعه كميون شحن من زيت الزيتون وزعه على الناس لإعتقاده بأنه سيعود بعد فترة قصيرة، كان تاجرًا للزيوت وعنده بساتين وأراضي لدرجة أنه كان مالكًا لجميع أراضي بلدة “شعب”،  وفي الغازية أستأجر بيتًا لعائلته وبقي هناك فترة ومن ثم ذهب إلى سوريا بعد أن أيقن أنه خسر أرضه وتجارته في فلسطين، لكن رأسماله الأقوى كان تعليم أولاده الأربعة الذين كان لهم شأن في سوريا وبعضهم شارك ببناء دولة الكويت في بداية نهضتها، فكانت شهاداتهم العليا هي الثروة التي أعتمدوا عليها لبناء مستقبلهم، ومنهم كان حفيده المقاوم الأديب غسان كنفاني الذي كان من الكتاب والشعراء الكبار والصحافيين المعروفين، كما كان حفيده أيضًا غازي كنفاني من أكبر المحامين في سوريا، ومن أولاده والد زوجتي الذي كان من أكبر تجار سوريا، وكان يتردد دائماً إلى النبطية برفقة زوجته التي هي خالتي، وذاكرتي مشحونة بالصور الحميمة والحنونة بين أهلنا وقاربنا وجيراننا. خاصة وأن خالتي السيدة “نجلاء فهد” كان لها شأن كبير في عالم الأدب والصحافة ومن كبار الصحفيين في استراليا حيث أسست أول مجلة عربية هناك، وفي زيارة لها إلى أميركا ضمن وفد إعلامي أعجبوا بها كعربية لبنانية تملك هذه القدرات، فردت: “أنا أقل سيدة من بين السيدات العربيات اللبنانيات في مختلف المجالات”، وقد أجرت لقاءات صحفية مع كل الزعماء ورؤساء الجمعيات.

*في ظل هذا الإنشغال العملي والعطاء الإجتماعي كيف تعرفت على زوجتك؟

قصة زواجي ممتعة وغريبة، بدأت عندما أنجبت خالتي “نجلاء فهد” بنتاً في النبطية، وكان عمري عشر سنوات، قالت لي جدتي: “خالتك جابتلك عروس إسمها فاتن”، وهكذا أصبحت فاتن عروستي، أحسست بمسؤوليتي تجاهها، ربيتها وهي صغيرة، وعندما تمرض كنت أخذها عند الطبيب. وبعد فترة غادرت خالتي إلى سوريا، فكنت أزورهم في الأعياد والمناسبات حاملاً الحلويات والهدايا، وعندما يقولون جاء “حسيب” تفرح “فاتن”، تحضنني وتقبلني كما كانت تفعل والدتها، وعندما أخبرتها بأنني أحبها وأريد الأرتباط بها، خجلت وتغيرت معاملتها لي وأصبحت تحسب حسابًا للسلام عليَّ، وفي ذلك الوقت عرض عليّ العديد من الفتيات كعرائس لكوني شابًا وتاجرًا ناجحًا وأتمتع بحسن الأخلاق ولي نشاطاتي الإجتماعية، لكنني لم أفكر إلاّ بـ”عروستي فاتن”، وبالطبع أحببتها وعندما أرتبطنا زاد حبي لها.

ويكمل الحاج حسيب عواضة قائلًا: وقبل أن تسافر عائلة “فاتن” إلى أستراليا، ذهبت مع كبار المشايخ من النبطية إلى سوريا لطلب يدها وعقدنا قراننا وبعد فترة تزوجنا، كان لحبنا البرئ مستقبلاً جميلاً ومثمراً، وأعترفُ أن “فاتن” ضحت معي كثيراً، خاصة وأن والدي كان مقعدًا، فكانت “ست بيت” محترمة وقنوعة بكل معنى الكلمة، حافظت على أولادنا وعليّ، كنت أعمل طول النهار من دون أن يشعر أحدًا من عائلتي بهمومي ومسؤولياتي الكبيرة، لدرجة أن والدتي أحبت أن تذهب إلى حج بيت الله الحرام وكانت الكلفة يومها ألف ليرة لبنانية، فأخذت الألف ليرة من الرأسمال الذي معي على أساس أنها من الخمس، وشرعت لنفسي أنني أستحق الخمس والزكاة، كانت مرحلة صعبة أن تكون مسؤولًا عن عائلة مكونة من أربع بنات وأربع شباب، ووالداي، دون أن أنسى تعاطف الناس معنا، والحمد لله بقينا محافظين على كرامتنا واحترامنا في مجتمعنا، دون أن نؤذِي أحدًا وتعاملنا مع الجميع بكل إنسانية.

*هل تعتبر نفسك تاجرًا ناجحًا؟

أكيد بلا شك، والسبب إنضباطي في العمل ومصداقيتي وتحملي المسؤولية بشكل كامل .

*لكن يقال بأن التاجر الصادق لا ينجح؟

غير صحيح، تثقفت دينياً وأخلاقياً وهما لا ينفصلان أبداً، تربيت في الحسينية لأن جدي كان من مشايخ النبطية، كنا منضبطين نعرف جيداً التفرقة بين الحلال والحرام، لم أخجل من أي عمل، أحياناً كنت أبيع العصير والبوشار في السينما، وفي أحداث 1958 أيام الرئيس شمعون، أستمر الإضراب لأكثر من سبعة أشهر تعطلت الأعمال، فكنا نعمل في أي شي حتى نعيش والذي ينوي على السترة يستره الله.

*كيف استطعت أن تصمد في رحلتك الصعبة من ناحية تحملك المسؤولية منذ الصغر؟

بقيت صامداً حتى أيام الحرب الأهلية عام 1975، عندما تهدم المحل وتبعثرت البضاعة وحرقت، وكان علينا ديون للشركات التي كنا نشتري منها، فكثفت عملي لأسدد ديوني، هذا الإلتزام وهذه المصداقية كونا لي رصيداً مهماً كتاجر، فرغم التهجير الذي عشناه، خاطرت بالذهاب إلى بيروت حيث يوجد أكثر من عشرين حاجزًا، أخفيت أكثر من 40 مليون ل.ل بمجموعة من الثياب القديمة. وكان مبلغاً كبيراً في ذلك الوقت، سددت به ديون كل الشركات، وبعدها سافرت إلى السعودية وعندما رجعت عام 1982 لم يكن معي أكثر من 180 ريالاً سعودياً، لأنني كنت أرسل كل ما أقبضه لعائلتي التي تهجرت إلى صيدا وجباع وبيروت، وفكرت بفتح المحل الذي كان مهدماً بعدما علمت أن الجيش اللبناني سيدخل إلى الجنوب، أستدنت من معارفي ما يكفيني لإصلاح المحل، ووضعت في البداية صناديق فارغة ليبدو أن فيه بضاعة، ثم قصدت الشركات التي كنت أتعامل معها قبل الحرب، فتفاجئت بإستقبالهم لي وقد طلبوا مني أن أكون وكيلاً لهم في منطقة الجنوب لأني دفعت ديوني لهم في وقت لم يدفع فيه أحد ما عليه، فهذه المصداقية والأمانة التجارية التي حافظت عليها والتي كانت السبب الرئيسي في نجاحي، وبالفعل أصبحت من التجار الكبار وهذا يؤكد بأن الإنسان يستطيع أن ينجح بالإستقامة والمصداقية وبالمال الحلال الذي مثله كمثل الخميرة في العجينة، والخميرة الفاسدة تفسد كل العجينة، سمعتي الطيبة بين الناس هي الجواز الذي يدخلني كل المجالات بأمان وأمانة وثقة، أسمي كان الرأسمال الذي ساعدني على الإستمرار والنجاح، من هذا المنطلق تواصلنا في عملنا ونجاحنا حتى اليوم ورغم كل الأحداث ما زالت المصداقية عنواننا ومعبرنا للنجاح الجميل بنكهة الإستقامة والحلال، الكل يحترمنا خاصة الشركات، بقيت محافظاً على كرامتي 100%.

*  ما سبب راحتك النفسية التي تنقلها بسمتك الدائمة والراضية، وكأنك لم تمر بشيء من المشاكل التي صادفتك منذ طفولتك؟

“من شاف مصيبة غيره تهون عليه مصيبته”، صادفت الكثير من المشاكل عند الناس مما أنساني مشاكلي، كنت أشعر بسعادة عندما أستطيع أن أسعد محتاجًا، للآن يأتون ليستعينوا بي ولم أخيب أحدًا مهما كانت حالته صعبة، وعندما نستطيع مد يد العون يخالجنا شعور  من الرضى لا يوصف.

*ما هو دور زوجتك في حياتك، وهل هي جزء من هذه الراحة؟

زوجتي إنسانة محترمة، أم أولادي، هي أخت الرجال، يُشهد لها في المواقف الصعبة، تتميز بالمنطق السليم، كثيراً ما كانت تشعر أنني أهملها، في الوقت الذي كنت فيه أصارع المصاعب التي أحاول أن لا أدخلها بيتي، كنت مليئًا بالوجع، لكن بسمتي لا تفارقني لأنها جزء من تكويني ونعمة من خالقي، صبرت “فاتن” على أيام صعبة بكل رضى، حتى أنني أضطررت في وقت عصيب أن أبيع – وبرضى منها- الذهب الذي كانت تملكه، لذلك دائماً أطلب منها السماح لأي تقصير صدر مني من دون أي قصد، فحبها كان يمدني بالقوة وصمودها معي كان يساعدني أكثر على الصبر، أشكرها وأحبها من كل قلبي..

*ما هو الدرس الذي أستفدته من رحلة الحياة؟

أن يسير الإنسان بشكل صحيح، مهما تبدلت الأيام، هذه نصيحتي الدائمة خاصة للتجار ولكل الناس.

*كعادتك في مساعدة الجمعيات، ماذا قدمت لـ”هيئة تكريم العطاء المميز” مادياً ومعنوياً؟

قدمت لـ”هيئة تكريم العطاء المميز” ما أستطيعه كما كل الجمعيات، قدمت مكتباً مؤقتاً للإجتماع سيكون فيه مكتبة إلكترونية هي الأولى في لبنان، تتضمن الكثيرمن الكتب والمراجع والملفات وتساعد الطلاب في كل مراحلهم على الدراسية حتى رسالة الدكتوراه، هذا جزء من الخدمات الإجتماعية والثقافية والتربوية والتكافل والتعاون بين أفراد المجتمع، فعندما يكون الشعب مثقفاً متعلماً واعياً تنهض الأمة، أما عندما يسيطر الجهل على الأمة تصاب بالإنحطاط والإسفاف، وما نقوم به من مساعدة هو من صلب الدين الحق، نحن نسير على نهج المساعدة للقضاء على الجهل ونشر العلم والثقافة، وأجرنا عند الله، والعمل الطيب يعطى صاحبه في الدنيا وأجره عظيم في الآخرة، والحياة إمتحان لقدرتنا على الصبر عند الشدة والحاجة وعطاءاتنا عندما نستطيع ذلك.

*كيف ترى ما نمر به في وطننا من فساد ومشاكل إجتماعية وإقتصادية تطال الناس في لقمتهم؟

هذه الأزمة تحتاج للصبر، أتأمل خيراً رغم ما نعانيه كشعب من الشرذمة والفساد من قبل المسؤولين والحكام تحت شعارات واهية كالطائفية والحزبية والطبقية، وأتمنى أن تحل مشاكلنا بتشكيل حكومة تستطيع أن تعالج كل مشاكلنا وتحاسب الفاسدين الذين سرقوا الناس عبر عهود طويلة، وهذا يتطلب الوعي، فالإستعمار عندما يستولي على بلد ما، لا يشجع فتح مدرسة، لكنه يكثر من بناء المساجد والكنائس حتى يبقى الشعب مخدراً بواسطة رجال الدين ليس لبعضهم صلة بالدين الحق، حتى التكنولوجيا التي غزت بيوتنا بالهواتف التي نستعملها تسببت بالكثير من المشاكل النفسية للشباب في كثير من النواحي، ومنها بعض البرامج الخطيرة على الشباب والأطفال.

*هل طباعك نموذجاً عاماً لأهل النبطية؟

أهل النبيطة حسينيون، مصيبة كربلاء خلقت عندهم عاطفة إنسانية ورهافة في الحس، شعورهم بظلم الحسين (ع) وأولاده وأصحابه، هذبت مشاعرهم وجعلتهم يتسابقون لمساعدة المحتاجين، النبطية كانت وما زالت تحيي مناسبة عاشوراء كل عام، وهذا أنطبع في ذهننا وقلبنا، علمنا مناصرة المظلوم ومساعدة المحتاج، لم تزل الصور منذ طفولتي تنبض حية في قلبي ووجداني عندما كان “حي السرايا” يتحول في أيام عاشوراء إلى ما يشبه الفندق لأهل فلسطين وأهل الجنوب الذي يقضون أكثر من عشرين يوماً في أحياء المناسبة، كانوا ينصبون الخيام المضاءة بالسراج، كانت الألفة لغة التعامل مع الجميع من النبطية  أو خارجها، كانت عاشوراء مناسبة حزينة وحميمة في آن، تريح النفوس الطيبة وتحث على الكرامة والعزة والكرم ودماثة الخلق، وكثيراً ما يحدث أن يتشاجر شابان في سوق النبيطة، فيتدخل كبير السن للصلح فيخفضون رؤوسهم حتى ولو كانوا رجالاً ويحل مشاكلهم، كنت أرى الكثير من هذه المشاهد لوجود محلنا في الساحة، كان هناك إعتباراً لكبير السن، هذه الأيام الأب لا يمون على إبنه. نعم، إنا إبن النبطية الحبيبة، أنتمي جيداً لأهلي وما طرأ من تغيرات أصاب كل المجتمعات، خاصة الأجيال الجديدة، وهذا من متطلبات الحياة العصرية.

*هل أنت متصالح مع نفسك؟

الرضى عن النفس والقيام بالواجب أمر مهم جداً في الحياة المليئة بالمشاكل، بحيث تكبر المسؤولية مع إحتياجات العائلة، ليس في الحياة راحة، فكل ما مررت به من مصاعب وخاصة فيما نمر به اليوم من ازمات متعددة أهمها الإقتصادية تسببت بإنهيار العديد من المؤسسات وكشفت الكثير من الناس، فلو لم أكن متصالحاً مع نفسي لأنهرت أو أصبت بالسكري أو..، إضافة إلى أنني أعتبر والدي هو مدرستي الأولى والأكثر تأثيراُ في حياتي، علمني أهمية درس العطاء والمساعدة عندما كنت أبدأ به حملة التبرعات  لشراء “الأعاشة” وتوزيعها على المهجرين فكان يضع ليرة في “المحرمة” وقد لا يكون معه غيرها، وكنت أرى حصيلة البيع تتضاعف في المحل، هذا كان يرحيني وما زلت على نفس الطريق، وإيماني كبير بمقولة الإمام علي (ع)، “أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً وأعمل لآخرتك كأنت تموت غداً”.                                                    فاطمة فقيه

شاهد أيضاً

السفير الأممي أبوسعيد لـ”كواليس”: فرضية الإرهاب وأبعاد استهداف بيروت

 أحمد موسى “11أيلول لبنان” دمّر نصف بيروت موقعاً آلاف الجرحى والقتلىعون “تخزين غير آمن” …