حوار في الثقافة والسياسة من إعداد الإعلامي.. د.وسام حمادة

في زمن العولمة والإعلام المرتهن وترسيخاً لمفاهيم الثقافة والمعرفة الراقية والتي تعيش غربتها القاتلة تعيد مجلة كواليس وموقعها الإلكتروني نشر لقاءات ثقافية وسياسية كان قد أعدّها وقدّمها لفضائية الإتحاد الإعلامي، د. وسام حمادة عبر برنامج 24 /24

ولقاء العدد مع الشاعر، الأستاذ، شوقي بزيع ..
عنوان الحلقة: ” الشّعر بين الحبّ والبندقية “

أغنية بعنوان “العائد”
كلمات الشاعر: “شوقي بزيع”
ألحان وغناء: د.وسام حمادة

“الأغنية”:

تمشي جنازته الهوينى
ثم ترفعها الأكفُّ إلى مكانٍ غامض
يمشي جنوبيون خلف النعش
تتبعهم يدُ امرأةٍ تشمُّ قميصه
وتعشب الأيام من دمه البهي.. هو الجنوبي
هو الجنوبي.. الشهيد مروّض القمح العنيد
يعود نحو الأرض
ملفوفا بكيس الرمل والعلم الممزّق
يا ذاهبين إلى الجنوب خذوا دمي حجراً
فلدي سنبلة هناك
أريد أن تنحني فوقي
ويشرب خوفها جسدي الجريح
ولكن المدى بحر
وهذا السير فوق الماء ينقصه المسيح

– لقاء يحرص كلّ الحرص على الذائقة الإنسانية، الذائقة التي تتعرّض لأقسى أنواع التهشيم والتهميش على أيدي مُدّعي الثقافة ومتوسّلي السياسة، لذلك سعيُنا دؤوب لإيصال فكر يساهم بحركة وعي تحمل رؤيا للمستقبل وتحفظ ذاكرة الإنسانية لأجل غدٍ أجمل.
وفي هذا اللقاء يأخذك ضيفي من خلال نصه لشرائح واسعة من البسطاء والنُخب، من عشّاقٍ مهزومين يجمعون أشلاءهم على أرصفة الإنتظار والحنين، تعيش معه براءة الأطفال وقداسة الشهداء، وبساطة الفلاحين والكادحين وهموم المثقفين وبنادق الثائرين، لتصدح الحناجر أغنية للمقاومين.
ضيفي الشاعر الكبير شوقي بزيع، أهلاً وسهلاً بك ضيفاً عزيزاً .
معاً سنتابع تقريراً نسلّط الضوء من خلاله على اليسير من مسيرة شاعرٍ عشق الكلمة حتى سكنته واستوطنت كلَّ خلاياه.


 

التقرير :

ملاحمٌ الحبِّ والمرثيات والأمكنة تلازم قصائدَ .. شوقي بزيع، إنّه الشاعر الدونجوان الذي لم يُطلّق العزوبية قبل الخمسين بعدما تفرّغ للكتابة عن الحبّ والنساء.
شوقي بزيع .. جنوبيُّ الهوى، مواليد – زبقين قضاء صور عام 1951 – حصل على شهادة الكفاءة في اللغة العربية وآدابها من كلية التربية في الجامعة اللبنانية عام 1973، عمل في التدريس، كما عمل في الصحافة الثقافية، وترأس القسم الثقافي في جريدة السفير عام 1992، أدّى بزيع برامجَ إذاعيةٍ متنوّعةً في عدد من الإذاعات اللبنانية الرسمية والخاصة، كإذاعة صوت لبنان العربي، التي واكب عبرها الإجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وساهم بقصائده في التحفيز على الصمود إبّان الحصار الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية بيروت.
ولأن الأدب لا بدّ أن يُنشر، ساهم بزيع في العديد من الصحف والمجلات، أبرزها الآداب اللبنانية والراية القطرية والإتحاد الظبيانية، وكانت إنطلاقته الفعلية في إتجاه طريق الشّعر الشائك، حيث وضع بزيع لمساته الشّعرية في العامية والفصحى؛ فامتازت قصائده بتوصيف تراثه الإسلامي والمسيحي بنفحة من التصوّف؛ فأصدر ديوانه الأول “عناوين سريعة لوطن مقتول” ، وبعد ذلك كرّت إصدارات شعر الدونجوان.
نشر بزيع قصائده في مجلة مواقف مع مجموعة من شعراء الجنوب، كما نشرها أيضاً في السفير والنهار والآداب، شارك بزيع في العديد من المهرجانات الشّعرية في جرش وقرطاج واللاذقية وفرنسا ومصر، ولأن الشاعر لا ظهير له سوى نصّه، وهو الذي سيبقى، وهذا الذي سيواجه به الزمن لاحقاً، عرف شوقي بزيع كيف يقطف قصيدته من على شجرةِ الأيام، ويُطلقها نجمةً في سماء المخيلة، وسهماً في كبد الزمن.

 

 

– أهلاً وسهلاً بهذا الحضور الذي يزيّن اللقاء وهو إضافة جميلة إلى عالم الثقافة السوداوي الذي أحاط بنا في الآونة الأخيرة، خاصة من مُدّعي الثقافة، وقد أصبحوا كُثُراً في هذا العالم للأسف.سنبدأ بسؤال من وحي التقرير، لفت نظري آخر جملة تقولها، “إذا مات إنتَبهوا”.

الضيف: الناس نيامٌ فإذا مات الشاعر إنتبهوا، طبعاً هو اقتباس من حديث منسوب إلى الرسول الأكرم “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا”، وشعرتُ أن هذا الأمر يظهر أكثر حين يموت الشاعر، لأن أغلب الناس تجدهم غافلين عنه، لا يُعطى قيمته ويكون مهمَلاً ويعيش حياةً مزرية على عدة مستويات وبالأخص على المستوى المادي، وأُعطيك مثلاً، المُغنّي الذي يُقدّم نصوص الشاعر غالباً يجمع ثروة كبيرة، وكأن عملهم تحصيل الثروات وغيرها.

 

حتى أنهم لا يذكرون إسم الشاعر أو الملحن على المسرح.

الضيف: غالباً هذا ما يحصل، ولكن فجأة يُذكر الشاعر، أي متى ..!! عندما يرحل، فإذا الناس انتباهٌ، كأنهم يشعرون بالذنب، أو أنهم يريدون تخليص وتبرئة ذمتهم اتجاهه، وقد شهدنا ذلك خاصة في موسم موت الشّعراء مؤخراً،
ففي العقد الأخير تقريباً رحل كوكبة من الشعراء الكبار وكاد الشّعر العربي أن يخلو من القامات الكبيرة، وفجأة جيلنا الذي كان يُعتبر أنه جيل وسط وجد نفسه في الواجهة، والآن إذا استثنيت إسمين أو ثلاثة مثل أدونيس وسعدي يوسف وعبد المعطي حجازي، أصبحنا في الواجهة ولذلك أُشبّه الناس حين يموتون بالجيش الروماني، فعندما يسقط خطّ الدفاع الأول في نظام الجيوش يتقدّم الثاني والثالث، وخطّ الدفاع الأول بالنسبة للناس هو الجد والجدة، وحين يرحلون يبقى الأحفاد متمترسين وراء الأم والأب، وإذا رحل أحدهما أو الإثنين معاً يشعر المرء وكأنه مكشوف أمام الموت فيتقدّم إلى الواجهة مباشرة.
وموت الشاعر فعلاً فادح ومأساوي أكثر، لأن المفروض أنه هو مصنوع من مادة مناهضة للموت، من مادة الخلود، ويبني أمله على قاعدة “كأنّك تعيش أبدا” كما قال الإمام علي.

 

 

– ولكن عملياً الشاعر الحقيقي يُخلّد، فهناك قصائد من آلاف السنين حملت أسماءها حتى هذا اليوم. وحتى في حديثك أستاذ شوقي ألَا تعتقد أن خُلوَّ الصفّ الأوّل كما وصفت هو الأمر الطبيعي، لأنّ الصف الثاني يجب أن يأخذ الصف الأول إذا كان حقيقة لديه ملَكةٌ شعريةْ أو ملكة ثقافية معيّنة.

هل برأيك أن خسارة هؤلاء العمالقة ترك فراغاً لا أحدَ يستطيع ملأ أو يسدّ هذا الفراغ ؟

 

الضيف: لا لم أقصد هذا، ما قصدته أنّه في كثير من الأحيان على مستوى التراتب الزمنيّ، والتراتب الزمني ليس امتيازاً، لا التقدّم في السنّ امتياز، ولا الحداثة في السنّ امتياز، لأنّ البعض للأسف يفترض أن اللاحق أفضل من السابق تلقائياً، لأنه يقوم بنوعٍ من الإضافة أو ما شابه، وهذا قول مردود لسبب بسيط، لأنه حكماً إذا كانت الأمور هكذا فيجب أن يكون أبو العلاء المعرّي أشعرَ من المتنبّي، مع أنه شاعر مهم، ولكن هو نفسه إذا قلت له هذا لا يُصدّقك، لأنّه كان مفتوناً بالمتنبّي، أو يجب أن يكون الأخطل أشعر من امرؤ القيس، ليس صحيحاً أبداً، وهذا ما أقوله دائماً للأجيال القادمة بعدنا من الشعراء، لا تعتبروا أن حداثة السنّ إمتياز، حتى بالنسبة للنساء ليس بالضرورة أنه إذا كنّ أصغر سناً منّا أن يكُنّ هنّ (الدونجوانية) هذه على سيرة (الدونجوان) لأنها أعجبتني وبخاصة في هذا الوقت، إذ أن الواحد منّا بحاجة إلى دعم، فالإمتياز الفعلي يُقاس بحجم خدمتنا لموهبتنا ولهذه الفرصة الثمينة جداً التي أعطانا الله إيّاها ومنحها لنا وهي الحياة، كيف نخدمها وكيف نستحقّها، ولذلك يجب أن نكون جديرين بما أُعطيناه، لأنه ليس سهلاً أن تُمنح لنا هذه الحياة، وهي كما قال “شوبنهاور” الفيلسوف الألماني، هي وجود بين عدمين، فنحن قبل أن نولد لم نكن شيئاً وبعد أن نموت لسنا شيئاً، طبعاً بصرف النظر لاحقاً عن الآخرة، أنا أتكلم عن الوجود الإنساني كيف أنه وجود بين عدمين، فيجب فعلاً أن نترك هذه الفسحة عبارة عن منارة وإشعاع وجمال فاتن ومتوهّج، وإلّا يمرّ المرء مرور الكرام وسط مليارات البشر الفانين دون أن يُقدّم شيئاً.

 

 

– ولكن السؤال هل هذه ظاهرة خاصة بالعالم العربي، وهي أننا دائماً نذكر مبدعينا بعد رحيلهم وليس فقط الشعراء، وهو أمر لافت إذ أن هذه الأنظمة وبشكل عام لا تذكر مبدعيها إن كان على المستوى الثقافي أو الأدبي أوالفني أو أي قطاع من قطاعات الإبداع إلّا بعد أن يتوفّاهم الله وكأنه أصبح أمراً واقعاً، بينما المثقّف والمبدع الحقيقي هو الأكثر حاجة إلى الدعم المعنوي وأحياناً إلى الدعم المادي لأنه قد لا يملك أيّ مصدر للعيش ولتقديم إبداعه، باستثناء القلّة القليلة.

الضيف: السبب أن الكاتب والمبدع الحقيقي لا يجد وقتاً وهو يحتاج إلى كلّ عمره لأنّه يعمل على مادة لا نهائية، وليست عملاً محدّداً، كأن تستلم ورشة وتنجزها أو تأخذ إستثماراً كما يفعل المقاولون، هي مقاولة من أشقّ أنواع المقاولات، هذه مقاولة ليس لها حدود، لأنّه كلّما اقتربت كلّما شعرت بالحاجة إلى المزيد وبأن المسافة تبتعد بين الواقع والمُتخيل، وكلّما أنجزت تشعر أنك ما زلت على الشاطئ وخاصة في مجال الشعر والفنون الجميلة تحديداً، والأمر الآخر أن الإنسان المتفرّغ لِفنّه لا تناسبه دائماً المهن التي تناسب الآخرين ويجمعون الثروات، لذا نحن نستطيع أن نمارس نوعين من العمل دون أن نشعر بالخجل، وهُما، الصحافة والتعليم، وأنت تلاحظ هذا الأمر.

 

 

صحيح معظمهم يتجّهون إلى الصحافة أو إلى التعليم

الضيف: كارثة حين يعمل تاجراً، حكم على نفسه، فأنا أذكر أنه كان لدي صديق وشاعر معروف إسمه فؤاد الخشن، وبالمناسبة هو من روّاد الشعراء، كان لديه صالة للمفروشات على كورنيش المزرعة وكنا نزوره، كان دائماً يشعر بشيء من الأسى والمرارة، إذ أنهم يستكثرون عليه أن يكون لديه مورد رزق من التجارة، وهو كان قد سافر إلى البرازيل وعاش فترة في أميركا اللاتينية وعمل هناك وجمع بعض المال، وكان الأمر مرفوضاُ، فإمّا أن تكون تاجراً أو شاعراً، لأن كلمة تاجر يراها الآخرون نقيض الشاعر حتى وإن كانت التجارة نزيهة، وأنا برأيي هذا خطأ لأن الرسول الأكرم كان تاجراً وليس المهم إن كان تاجراً المهم كيف يُتاجر.

 

 

– لكن أحياناً الموروث يفرض علاقة معيّنة مع كلِّ صنعة أو مهنة ويعتبر تجاوزها أو الإبتعاد عنها يعني الوقوع في المحظور.

 

الضيف: وربما مرتبطة هذه المسألة بتنزيه الشاعر والإسباغ عليه برُتب متميّزة جداً من أيام الجاهلية حتى اليوم، ولكن في كلّ الحالات أرى أن الأسوأ من الصورة التي نُقدّمها الآن ليس فقط إذا ماتوا انتبهوا، بل أننا لا ننتبه حتى بعد موت الشاعر، فالإنتباه خجول ووجيز جداً، أنت تلاحظ دكتور وسام أنه يموت الشاعر أو الكاتب أو الفنان بعد أن يتعرّض في حياته إلى الهجوم وإلى ما هو أسوأ، إذ أنهم يتجاهلونه بالكامل ولا ينشرون له حتى في بعض الصحف، وينظر إليه البعض من المسؤولين عن الصفحات الثقافية باستعلاء وغيره، هم أنفسهم حين يموت يُباشرون بالغزل والتأوّه والتحسُّر، والإعتراف بأنهم لم يعطوه قيمته، ولكن هذا الأمر يستمر أسبوعاً أو أسبوعين ثم يغوص في النسيان، حتى أن هناك أسماء كانت مميزة نسبياً بوجودها وبحضورها، ونلاحظ بعد أن تموت لا تحصل على الأمر الذي كانت تطمح إليه، وهم الذين ضحوا في الدنيا لأجل الآخرة، الآخرة بمعنى الخلود ما بعد الموت.

 

 

– إلّا إذا الله حباه بأولاد أو بأحد من الأقارب أو الأصدقاء قد يساعدوا بإعادة نشر إصداراته، وإلّا على مستوى المؤسسات والدولة والنُظم هذا مستحيل.

 

الضيف: لا شيء أبداً سوى حركة بسيطة تشبه براءة الذمّة وتأنيب الضمير وإلى آخره وبعدها يغوص في النسيان، ولنتكلم بوضوح أمام المتابعين، باستثناء محمود درويش الذي منذ سبع سنوات حتى اليوم وهو من داخل قبره يدقّ بقوّة الوجدان العربي، فحين تفتح “الفيسبوك” تشاهد مئات النصوص، وذكره دائم وإسمه متداول، وهذا الأمر يُناقش ويحتاج إلى لقاء خاص به.
لماذا محمود درويش وكذلك نزار قباني موجود بحدود كبيرة، أي أنّه هناك إسمان أو ثلاثة، وتجد أن شعراءَ كانوا مكرّسين ولهم قيمة وليسوا عاطلين لا يُذكروا أبداً.

 

 

– ربما هناك أسباب لعبت دوراً في حياتهم الشّعرية حين ارتبط جزء أساسي من أعمالهم بالأغنية، وأحياناً الأغنية تساهم في مكان ما، أي أننا نلاحظ أن مارسيل دائم التذكير بشعر محمود درويش، وكذلك نزار قباني، لدي الكثير ممّن غنّوا له، أعتقد أنه جزءٌ من اللعبة.

 

الضيف: أنا ابتسمت لأنّنا كنّا نأمل منه أن يُذكّر بغيره أيضاً، مارسيل صديقي وأحبّهُ، ولكنّهُ أثناء تأديته للأغنية قليلاً جداً ما يذكر أن هذه القصيدة لشوقي بزيع أو لحسن عبدالله أو لآخرين.

 

– مع أن أجمل القصائد للصديق المشترك مارسيل في مسيرته الفنية – وهذا ليس مدحاً – هي من هذه الكوكبة التي تفضّلت بها، حسن عبدالله، وما قدّمته لأيمن وحادية العيس وجبل الباروك وغير ذلك.

 

الضيف: ولحسن عبدالله أجمل الأمهات، وأنا يا رفاق من الجنوب .. وغيره، أيّاً يكُن، هذه المسألة نتركها لمارسيل هو يقيّم الأمور، ولكن أحبّ أن أقول بالمناسبة أننا سنشارك أنا ومارسيل في صيدا في مركز معروف سعد لتكريم محمود درويش في ذكرى غيابه السابعة.
أتينا على هذا الحديث لأنّني كنت أقول أن أحدنا يُضحّي بهذه الحياة الفانية، ويقول أنا أريد أن أحرم نفسي من متعة الحياة لكي أحصل على الخلود، وفي النهاية معظم الكُتّاب والشّعراء لا يحصلون على الإثنين.

 

– هذه ظاهرة عالمية أم أنها ظاهرة محلية؟
مثلاً، أنا أقمت بأكثر من دولة أوروبية، لا تتخايل حجم الإهتمام بالكاتب القديم والحديث وحتى جيل الشباب لديهم مسافة ومساحة يعجز عنها كبار كُتّابنا لأنه ربما ليس لديهم إمكانيات مالية أو إعلامية.

 

الضيف: بشكل عام هي موجودة، وكم هو الزمن سفّاح ولئيم، هو الفيصل العادل الذي يحسم بأمر الشعراء والكُتّاب، وليس بالضرورة أن يتمّ هذا الحسم بعد الموت مباشرة، فبعض الكُتّاب قد يتم تغييبهم لمدة خمسين أو مئة سنة ثم يُعاد اكتشافهم، لذلك من الأفضل أن يكون أحدُنا مُتحفّظ اتجاه من يبقى ومن لا يبقى، لأنه أيضاً سنة وسنتان وخمسة غير كافية للحكم، فمثلاً الآن شاعر كمحمد القيسي لديه أربعون مجموعة شعرية وهو شاعر فلسطيني وصديقي على المستوى الشخصي، لكنه يكاد لا يُذكر، والشاعر ممدوح عدوان وهو قامة وصديق عزيز أيضاً، لا أرى أنه أخذ الصدى الذي كان يجب أن يأخذه، وكذلك علي الجندي وغيره، وإذا أردنا أن نستشهد هناك عشرات الشعراء، ربما لاحقاً يُكشف النقاب عنهم ويُنفض الغُبار ويُعاد ذكرهم، وخاصة أن العالم العربي الآن لا يحتفل بأحدٍ أصلاً وسط هذا الموت الدائم.

 

 

– الآن يحتفل بموتاه مع الأسف، على كلٍّ أخذتنا المداخلة وفتحت أبواباً، وشرّعت نوافذَ لنُكمل العبور.
كنّا قد بدأنا بمُدخل، لنأخذ فكرة عن هذا الموضوع الذي بدأت به، وقد فتح لنا أبواباً .. وأبواباً حقيقية، ومن الواضح أنك كشاعر تمتلك هذا الكَمّ من الأحاسيس والغضب على واقع تعيشه الحياة الثقافية في العالم العربي وفي لبنان تحديداً مع الأسف، لبنان الغارق في كثير من الأمور باستثناء أمر واحد، فهو لم يعرف الغرق في بحر مُبدعيه.
أستاذ شوقي أنت من بلدة زبقين، وهذه البلدة تتمتع بصفتين جميلتين، إذ أنها تعيش زُرقةَ البحر من صور، ونقاءَها من ثلج حرمون.

الضيف: هي ممتدة بين قوسين على مساحة الرؤيا.

– حضرتك عشت داخل بيئة تتمتّع بالطبيعة، أحببت التراب والشجر وعشقت هواء فلسطين.
كم أثّرت بك هذه النشأة قبل الإنتقال إلى بيروت، والواضح أنه حتى هذه اللحظة لم تستطع بيروت مع كلّ محاولاتها الجادة أن تسحب منك إبن القرية.

 

الضيف: في الواقع وبتقديري أن الشّعرَ هو من مصدر ريفي، أي أنه فنْ ريفي، فإذا كانت الرواية فن مدينةٍ باعتبارها تقوم على الإحتكاك بين الجماعات وعلى مسألة الإختلاط والتنوّع وعلى البيئة السكانية المختلفة، ولذلك هي فنٌ معاصر إلى حدٍّ كبير، والشّعر تحديداً يأتي من مصدر ريفي لأنه دائماً يبحث عن اللغة البكر وعن المُخيلة البريّة وعن الفطرة الأولى وعن اللغة قبل أن تعتق وقبل أن تتّسخ.

 

 

– حتى فضاء الرؤيا ..

الضيف: تماماً، ولذلك الشّعرٌ متصلٌ بالينبوع، فالنهر كلّما جرى اتّسخت مياههُ والمكان الأصفى هو الينبوع، فإذاً، الشّعر هو حالة العودة إلى الينابيع البكر، ولذلك تجد الشعراء .. كانوا دائماً يستخدمون رمز الغجرية أو رمز البداوة أو الصحراء أو الغابة أو الكهف ليُعبّروا عن حالهم، لأنها تحمل جمالية الأشياء، أي النظرة الأولى، الإبتسامة الأولى، الشمس الأولى والعلاقة الأولى بالأشياء، فكلّ شيء بحالة تفتُّحٍ في الشّعر وهذا الأمر تراه في الريف، بالريف المساحة مفتوحة بالمطلق، كيفما نظرت ترى نفسك شاخصةً أمام فضاءٍ كونيٍّ ليس له حدود، وعلاقتك بالنجوم والسماء والقمر والموج من جهة كما ذكرت، وثلج الجبال من جهة ثانية، وكلّ سحر الطبيعة، وهناك مسرح واسع من الجمال، وهذا أين تُخزّنه أنت، فكما تُخزّن الجبال مياهها الجوفية وتصبّها على شكل ينابيع وسواقي وأنهار، كذلك الشعراء والكُتّاب وأهل الفن يُخزّنون هذه المساقي داخلهم، ويُطلقونها على شكل قصائد وموسيقى ولوحات وغيرها، أما المدينة يأتي دورها في صقل هذه المواهب الخام، ولذلك نحن نتجه إلى المدينة، لأنه إذا بقينا في مكاننا تبقى هذه المواد خاماً، ولا يصح لها أن تتبلور وتصقل، لأنها تحتاج أيضاً إلى إعادة إنتاج ليس على شكل فلكلور فقط، لو أردتها أن تكون على شكل فلكلور يمكنك أن تبقى في القرية، ولكن لتُطلقها في إطارها المعاصر يجب أن تتصل بالعصر، والذي يُشكّل العصرَ .. الإنصهار الإجتماعي في المدينة ووسائل الإعلام والأندية والجمعيات والآخر في المدينة، الآخر الذي في داخلك قبل أن يكون في غيرك بالأصل، هذه الأصوات التي تتصارع والمدارس الأدبية، كلُّ هذا يُغنْي ويضعك على مساحة توتّر مستمرة، لذا ترى أن شعري من مصدر ريفي ولكن تمّ صقله في المدينة.
أما بالنسبة لبيروت، هذه المدينة التي أحبّها كثيراً ولها علينا الكثير، والحقيقة أنها لم تُكَتّبني شعراً ولو أنّني أتمنى كثيراً أن أكتب شيئاً عن بيروت، فمجرّد ما أبدأ بالكتابة سرعان ما أذهب باتجاه مسقط رأسي، طبعاً بالإضافة إلى شعر التأمّل والحكمة والعلاقة بالتراث واستعادة الرموز الكونية والفلسفية والدينية وغيرها، ولكن لكي أُبرّئ ذمّتي قليلاً من المدينة ماذا فعلت، حين كانت بيروت عاصمة عالمية للكتاب، قدّمت مشروعاً لوزارة الثقافة، وهو بيروت في قصائد الشعراء، جمعت الشّعر الذي كُتب عن بيروت، والذي استطعت أن أحصل عليه من أيام العصر الفينيقي والإغريقي والروماني وغيره إلى اليوم، مع قصائد مترجمة وأصدرته في كتاب وأهديته إلى بيروت.

– الحوار معك غنيّ وشيّق لذلك قد نُصرّ على تكملة الحوار في لقاءات مقبلة. ولنستفِد من الوقت معك أستاذ شوقي، ماذا يمكننا أن نسمع من شعرك، وماذا تستحضر من الشعر الذي وصفته الآن .. أنّه ما زال مرتبطاً بالأرض وتحديداً قريتك.

الضيف: الحقيقة كان يجب أن أُحضّر أكثر ولكن حصل هذا اللقاء على حين غرّة ولم أُحضر معي النصوص التي تتوافق مع مناخ هذا اللقاء.

 

 

– كل ما تقوله يتوافق مع الجوِّ العام.

الضيف: سأقول مقطعاً من قصيدة مرثية الغبار والصورة التي شاهدناها في التقرير وأنا أرتدي عباءة الشّعر، هي عباءة أخذتها من جائزة عكاظ للشعر العربي عن قصيدة مرثية الغبار، وهذه القصيدة تعني لي كثيراً لأنها عبارة عن حوار بيني وبين الطفل الذي كنت، وحين وصلت إلى الأربعين كان يقف كلُّ واحدٍ منّا على ضفة من ضفتيْ الحرب، والحرب على شكل هاوية عميقة، وكلّْ منّا يصرخ للآخر ويقول له أين أنت، لماذا لا أراك، أين الأحلام التي وعدتني بها، أين الوعود، أين الوطن الجديد.
للأسف حلٌمنا بوطنٍ من ذهب؛ فحصلنا على وطن غارق بالنفايات أخيراً، لذلك، ممكن أن أستعيد مقطعاً من القصيدة التي أقول فيها:

غبارٌ على أفق الروح يعلو
ويبتعد الطفل فيَّ إلى ظلمةٍ لا تؤوبُ
مُضاءٌ بأحزانه، أَنْهَرُ الأرض مثل قطيع من الذكريات أمامي
وأتبعُ أقدامه صارخاً في الصباحات، لكنه لا يُجيبُ
أحدّقُ مثل المجانين داخل مرآته
فأراه على وشك الموت يرمقني من بعيد ويسأل من أنت
لكنّنا سيدي واحدٌ مزّقته الحروبُ
لا تمُتْ قبل أن يُزهر اللوز في الأرض
لا تتذرّع بهذا الخراب الذي تلمحُ الآن
ما هي إلّا شهورْ وتنبلج الروح ثانيةً من وراء الجبال
وقد شقّ ظلمتها العندليب
شهورٌ وتعلو الشقائق أضرحة الشهداء
كلُّ شيءٍ أُعدُّ كما ينبغي في نهايات هذا المساء
وبعد قليلٍ سيجترح الضوءُ عشبَ الوليد
سيأتي الأحبّة ثانيةً للحياة تواكبهم ثُلّةٌ من عصافير أحلامهم
ودمٌ طازجْ ونهارٌ جديد
ولكنّني لا أرى غير شمسٍ تٌجرجر أمعاءها
فوق رأس الخليقة
والأرض تفاحةٌ تتناهشها في الظلام الذئاب
ولماذا استتبّ ولم تُشرقِ الشّمسُ هذا الخراب
والذين قضوا تحت أنقاض أحلامهم
من يُعيد لهم أعينًا أطفأوها ليحيا الترابُ
سرابٌ ، سرابُ
وكلّ الذي ظلّ من هذه الحرب أضرحة وقِبابُ
سرابٌ، سرابُ لماذا الترابُ
إذا لم تُفتّح من الأرض أزهارها كثغور النساء
ولم ينغلق خلف عُري العروسين بابُ

 

 

– أحسنت أستاذ شوقي، ولقد راودني سؤال.
كم له من الحقّ الشاعر والمثقّف بأن ينخرط في الأيديولوجية الحزبية؟

وأنت صاحب تجربة سياسية واجتماعية وثقافية، ومررت بها وإن لم تكن طويلة، ولكن برأيك هل مسموح لهذا الفضاء أن يُحاصر بقُطُرٍ حزبية؟

 

الضيف: بصراحة كلّ سؤال يحتاج إلى لقاء، لأن الحقيقة حمّالة أوجه وليس هناك يقين في هذه المسائل، هناك شعراء غير حزبيين وأبدعوا والتزموا بالنضال الإنساني وبالمعنى الإنساني، ودافعوا عن البشر وعن الأحلام، وهناك شعراء حزبيون كانوا ضيّقي الأفق وتحوّلوا إلى مجموعة هتّافين وكتبوا خطابات رنّانة فقط وزالت.

 

– أليست هذه هي التي تحكمها العلاقة الحزبية، أي أنها فرضت عليه هذا؟

 

الضيف: أنا رأيي شخصياً، أشعر أن الشاعر أوسع من أن تحيطه أيديولوجية معيّنة، فالأيديولوجية ضيّقة والشّعر جسمه (لبيس) أي أنه أوسع من الأيديولوجية، رغم أنه هناك تجارب عند شعراء مثل “بابلو نيرودا” وهو شاعر تشيلي وكان بالحزب الشيوعي التشيلي وكان من المفروض أن يكون هو رئيس جمهورية بدل “ألندي” وافتداه “ألندي” على كلِّ حال لأنه في ما بعد أطاحوا فيه حين جرى الإنقلاب بمساعدة الأميركيين وأزالوه، ولكن “نيرودا” من أهمّ شعراء العالم وهو حاصل على جائزة نوبل.
ولكن، هناك، شعراء آخرون، شيوعيون أو قوميون أو غيره، وقعوا تحت وطأة السقف المنخفض للأيديولوجية، وأيضاً الأيديولوجية لها أسقف، إما أن تذهب نحو المطلق الإنساني وتتكلم عن القضايا العادلة والكونية والمتصلة بالأحلام وباللانهائي، أو تكون كما قلنا سقفها منخفض جداً وتكتفي فقط بترجمة البيان الشيوعي أو بيان حزب البعث أو الحزب القومي وغيرهم، وتتحوّل إلى صنّاج وداعية ومُبشّر، وهذا سواء كان ماركسياً أو قومياً أو إسلامياً، فهو يُسيء أولاً، إلى العقيدة ذاتها لأنه يُقزّمها، ويُسيء إلى الفن ذاته لأنه يُقزّمه، لذلك القصيدة الرديئة لا تخدم القضايا الكبرى، إذا كان هناك الكثير ممن يتلطّون تحت سقف أو تحت سيف أو عباءة القضايا الكبرى، فهم يسيؤون للقضايا الكبرى، وأنا قلتها مرة، لا يمكن أن نُعبّر عن المقاومة بشعر رديء، لأن المقاومة تُعطي أقصى ما عندها، وهل هناك أكثر من عطاء الدّم، والجهاد بالنفس هو أقصى غاية الجودة.
حسناً، غير مسموح لي أن لا أُعطي أقصى ما عندي من اللغة ومن الصورة ومن الإيقاع ومن الدراما الكونيّة كلّها معاً، والقصيدة التي تُكتب عن المقاومة وهي رديئة غير ممكن أن تكون مقاوِمة، لأنها لا تستطيع أن تُقاوم موتها الذاتي، القصيدة التي تموت بعد أسبوعين كيف يمكنها أن تكون مقاوِمة، والمقاومة حياة، ولذلك المسألة إشكالية جداً وأنا أقول أنّ كلِّ شاعرٍ كبير يتجاوز إنتماءه الأيديولوجي والحزبي وإن كان منتمياً، ليس لدي مشكلة معه كإنسان.

 

 

يمكنك أن تكون منتمياً ولكن إذا كان لديك الإمكانية أن تفصل هذا الإنتماء الأيديولوجي عن الإبداع، لأنه برأيي كما الشعر، كما الموسيقى، كما اللوحة، من المقتل إذا وضعتها داخل هذا الإطار، في البداية تشعر أنها في فضاء ولكن سرعان ما يتحوّل هذا الإطار إلى سجن دون أن تشعر.

 

الضيف: هذا تدجين، تدجين كامل وخاصة إذا كان العمل بشكل توصية وتنبيه، تشبه عملية التفصيل لغرفة نوم أو غرفة جلوس عند النجار وتطلب منه المواصفات، للأسف هناك بعض القوى والأحزاب وغيرها تتعامل مع الفنانين والشّعراء على أساس ما يطلبه المستمعون، وعليه أن يُنفّذ لهم رغباتهم.

 

– هذا جزء من تحطيم الثقافة وهي مُساهَمة عن قصد أو عن غير قصد ليس مهماً، المهم أنها أصبحت هذه المسألة واضحة للعيان، أن هناك مؤامرة أو ليست مؤامرة سمّها ما شئت ولكن النتائج واحدة، النتائج هي التي نراها على الأرض، ثقافة وصلت إلى الدرك الأسفل.
مُتعدّون يأخذون المقعد الأول إن كان على المستوى الإعلامي أو على المستوى المقروء أوالمسموع. أمّا المبدعون الحقيقيون، لأنهم لا يستطيعون أن يتزلّفوا، ولا يمكنهم أن يُقدّموا مادةً رديئةً تتمّ مُحاصرتهم للأسف.

 

الضيف: هو ضِيق أفق، دائماً السلطة لا تأبه أبداً للفن العميق والجوهري، كلّ ما تريده من الفنان أن يكون صنّاجة وماسح جوخ ولا أريد أن أقول ماسح أحذية، أو جارية عند السلطان.
مجرّد أن تكون أنت شخصاً معترضاً ومن الطبيعي أن تكون معترضاً لسبب بسيط هو أن الشاعر والفنان لا يرضى عن قصيدته، فهو يتعاطى مع مادة لا زمنية، مادة أصلاً شديدة الحيويّة والخصوبة والغِنى، ومفروض، أن تبقى مع الزمن وهو غير راضٍ عنها، لذلك ينقلب على نفسه باستمرار، كيف يرضى على السلطة التي هي رمز للخنوع ورمز للإستئثار ورمز للإستنقاع (المستنقع)، فأمر طبيعي أن يكون هذا الصدام الدائم بين الشاعر أو الفنان وبين الحاكم .

 

– هذا الصدام أصلاً تاريخي حتى حين كانت السلطة بمكانٍ ما تُقدّم شيئاً، فما بالك بسلطة لا تُقدّم أبسط الأمور كأنْ تُزيل النفايات عن نوافذ الناس.
أستاذ شوقي أتيت على ذكر الميثولوجيات والدّين وما شاكل، وأنت شاعر جريء تكلمت وكتبت نصوصاً مباشرة، ألَا تخشى في هذا الزمن الذي يُحاسَب فيه المرء على الفكرة وعلى النيّة وأحياناً على لون العيون إذا صحّ التعبير، ألا تخشى أن تُصنّفك هذه الكلمة بتصنيفٍ قد يؤدّي إلى مكانٍ سيء؟

الضيف: هناك وجهان لهذه المسألة، فمن الممكن أن يستهدفك الطرفان، الطرفان المتصارعان الآن هما طرف الأنظمة وطرف الظلاميات المتنوّعة، أي أنك إذا قلت أنا مع الثورات العربية بالمبدأ، مباشرة الأنظمة تستهدفك باعتبار أنت تُطالب بإسقاطها، وإذا كنت أنت جريئاً برؤيتك للدّين ودعوت للتنوير، ولقراءة الدّين بطريقة مختلفة عن هذه الأفكار التكفيرية، أيضاً تصبح مستهدفاً على الجهتين، وبالمناسبة أعمالي الشّعرية مُنعت ثلاث أو أربع سنوات في الأردن مثلاً، وهي أُصدرت من المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ولأن فيها “قمصان يوسف” وفيها قصيدة “مريم” ولأنّني تعاطيت مع الرموز الدينية بجرأة كبيرة.

– لكن دون المساس بجوهر الفكرة وأنا قد قرأتهم.

الضيف: هكذا بالضبط، لأنه مجرّد مقاربة سورة يوسف بالإطار الإنساني ليوسف بعيداً عن مسألة العصمة الإلهية وغيرها، ولأن هذه القصة موضوع إلتباس، أنّه هل العصمة هي عصمة بالفعل أو أنها عصمة حتى بالفكر، ولأن هناك من يقول أن الأنبياء معصومون عن التفكير، مجرّد التفكير بالخطيئة، وهذه مسألة حمّالة أوجه كثيراً لأن البشر – ذات تكوينٍ دائم التناقض بين الخير والشرّ، ولكن المهم أن يحسموا هذه المسألة لمصلحة الخير، فلذلك مجرّد أن يوسف وقع في هذا الصراع بين العِفّة والإثم تشعر أن الطبيعة الإنسانية موجودة في شخصية يوسف وإلّا كيف تفهم من القرآن عبارة وهمّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه، وبالعكس أنا أشعر أن الدّين أكثر رحابة من بعض المفسّرين وقراءاتهم، لذلك أنا دائماً حريص على أن أُقارب الموضوع الديني من زاوية إنفتاحه على العصر، وبالنسبة ليوسف لم يعنِ لي كشخص مرَّ في التاريخ، عنى لي كسؤال الجمال في الكون، أنا قلت مرة بإحدى الأمسيات، الإنسان لا يولد جميلاً، الإنسان يصبح جميلاً، هو من يصنع جماله ولست أقصد الوسامة بمعناها الخارجي.

 

 

طبعاً الجمال الإبداعي وجمال النتاج.

 

الضيف: كلّ الجمال البشري هو جمال يجب أن ندفع ثمنه وإلّا يصبح شيكاً بلا رصيد، والنبي يوسف رغم أنه وُلد وسيماً ولكن لم يكتفِ بهذا، نزل إلى البئر لدفع ثمن الجمال وقاوم مراودات زُليخة وكلّ ما أُحيط به من تُهم وغيره وحتى أنه كابد من بئر إلى بئر.

– كنت أودّ أن أستفزك بعدد من القصائد وخاصة أنت الدونجوان، ولكن لضيق الوقت مع الأسف سنختصر العملية بمقطع من أحد أعمالك.
ولكن قبل ذلك سؤال سريع وبشكل برقية.
هل ما زلت مؤمناً بهذا الحراك كثورات تغييرية؟

لأنه نُسب إليك أنك أنت مع الربيع العربي، وقد كنّا نأمل أن يكون هناك ربيع، ولكن مع الأسف تبين أنه بعيد كلّ البعد.

الضيف: علينا أن نُميّز بين بدايات الثورات وبين هذا التوق غير العادي الذي كان ينتابنا باتجاه التغيير في عالم عربي تحوّل إلى بؤرة عفن، وليس فقط في ما يتعلق بنفايات لبنان، إنما بشكل عام، هناك بؤس العفن السياسي والفكري وظلم الدكتاتوريات العسكرية، وأنظمة بدت كما لو أنها أزليّة ولن تتزحزح نهائياً، وشعوب مقهورة ومُداسة، والعبد لا يُحرّر شيئاً، هذه الشعوب إذا كانت مقهورة لا تُحرّرُ فلسطين، لذلك أنا مع الفكرة ومع المبدأ، مبدأ حركة الشعوب، ولكن ما آلت إليه وما يحصل اليوم من القوى الظلامية ومن قوى التكفير لا يمكن أن تكون معه، والمشكلة أنني قلت أكثر من مرة في برامج عدة .. أن شعوبنا هي أرفع وأهمّ من أن تُخَيَّر بين حذاءين، حذاء الدكتاتوريات العسكرية وحذاء الدكتاتوريات الدينية أو الأصوليات الدينية.

 

– أستاذ شوقي على أمل أن يكون هناك خيار مختلف عن السيء والأسوأ، وأن يكون هناك خيار بين الجيد والسيء.

الضيف: الخيار الثالث هو الثورات الحقيقية العقلانية والتنويرية وليست الآتية من أحشاء الكهوف الأولى.

 

 

– سآخذك الآن إلى الجزء الذي أدّيت له قسطاً كبيراً أيضاً، وأعني قصيدة المرأة وأعتقد أنها تحتاج إلى لقاء خاص بعيداً عن السياسة.

الأغنية

على ضفة النهر كانت تغنّي
على نقطة من نقاط العبور
وتركض مكشوفة الرأس
حافية فوق عشب القبور
شعرها من مساءات صيدا
صدرها من بساتين صور
خصرها لو دَروا
ذهب في مزاد الخصور

– شكراً أستاذ شوقي على هذا الحضور الجميل، وشكراً لك على كلّ ما قدّمت وما زلت تقدّمه للنصّ العربي.

الضيف: تقصد أنه انتهى اللقاء .. معقول بهذه السرعة ..!!

– مع الإعتذار الشديد وكلّي أمل أن نلتقي بك مرة ثانية.

 

لمتابعة الحلقة مع الشاعر ” شوقي بزيع “

رابط صفحة اليوتيوب لبرامج “د. وسام حمادة”
https://www.youtube.com/channel/UC0AuXJduId6PcXIkK9x1phw/videos

متابعة وإشراف: سهام طه
إعداد وتقديم: د. وسام حمادة

شاهد أيضاً

هذه هي نعمت شفيق أرادت خدمة الكيان

‏هذه هي نعمت شفيق أرادت خدمة الكيان فتسببت في مظاهرات 57 جامعة أمريكية ضد إسرائيل …