رسائلُ .. إليًّ .. غداً

 

 

أحمد عبد اللطيف وهبي

هو الوقتُ الذاهبُ فيه، كلّما مضيتُ إليه، تضيقُ أوراقي، وبعض الصفحات، تصير مجرّد محاولاتٍ كحملاتِ النسائم العليلة، ومساحات الملاعب تتناهبها الرؤوس الحامية، كما لو أعرف المساحة المُتاحة لهذا الخيال  ..

غداً، حين تدهمُ الغبراءُ أرخبيلَ هذا الجسد، سوف تتمزّق ستارةُ الليل، ولسوف أرمي رؤاي للبحر، سوف يلتقط قواريرها بعض المحظوظين، لأنها المسكونة بحروف الضياء والنّور، وكلّ حرفٍ بألف ليلةٍ وليلة، خلفها، تلك الليلة الأخيرة، هذا النهار الطويل، صدقاً لا أعرف خاتمةً لهذا العشق السرمديّ ..

وأولاً، فاض قانياً نجيعُ الكؤوس، ولا ثانٍ لجمالٍ أنهلُهُ باحتراف أنفاس الصباح، وكلّما أصبحتِ المصابيح خاليةَ العشق، همستُ يللعناصر، تستحيلُ لمناجاتي، لأستبيحَ وسنَ الجمادِ، بفكرةِ لشكلٍ في غاية الإبداع، وذاك، الظلّيل في مهاوي الزّمن، يسترقُ فتنةَ الرّاح، فنهوي عالياً كأبخرةِ المعابد، وليست سوى صلاتي الوحيدةِ بين الغمامِ والركام ..

كنتُ، وقد أسرجتُ كوابيسَ لا أخشاها، وتلك الجباهُ المُعَفّرة، يلوذ بها الضوء، ودائماً أطبع فوق جبيني دموعَ وردةٍ شمعةٍ نظرةٍ ندىً وترٍ كأسٍ .. وفأس، وفوق الوقت المضرّجِ فارسٌ، أمضي إليه في الأسطورة، بعض الآلهة ..

وهم راجعون، ثمة راكعون للأصنام، يحتسون الدّماءَ المتراميةَ الشعوب، وبي اشتعالٌ لجآنٍ وإنسٍ، لأطفالِ سقطوا من قماطة الحنان، لأمهاتٍ انتظرن العيونَ الغافيةَ تحت التراب ..

وأعرفُ، أجهلُ عددَ الليالي في دمي، ماذا في دِنانِ الربّ .. في تلك المغارة ؟ كيف صار الماءُ نَسَباً للأقوام ؟ لا يقومون ليومهم، لغدهم، لدمٍ يشهبُ، يشخبُ من الشفق حتّى الغسق، أعراقٌ، أعرافٌ لكُحلٍ من دقيق الأرجوان والأحزان والآلام، وفي الكفِّ عينٌ زرقاء، أرى بها افتتان الكواكب، مواكب لا يحملها صِراطُ الأوّلين، وعَقِبَ الرمادِ، طينُ الضفافِ لسُعاةٍ، كلّما حملهم الطوفان، كلّما أليسار ابتنتْ مدينةً من جلد ثورٍ، ثوراتٌ، ثوّارٌ حيث تشاء الأقدار، وأشاء كأساً مقدّسةً منذ تلك الأعوام السِمان، فأنّى في بلاد الرُّعبِ أوطاني، نقع في السنين العِجاف، وليس للجيَفِ سوى الضباع ..

تعوي الذئابُ وفاءً لنقاء دمائها، لا تخالطها سلالات الرذيلة، يقول الراوي، يومَ تعرّتِ الأثوابُ من أجسادها، انفلقتِ الجِفانُ عن أمطارِ حبيسةِ الوقت، وتنابشتِ الحيّاتُ والسهامُ جثثَ الجيوش الغابرة، هناك، عند المغيب قُبّرةُ أبي فراسٍ الحمداني، والروم يسقطون من ثغرِ الراية، لا ثغورَ عند انثيال السهوب، لا ظلَّ لظلِّ حين انتهال السيوف لبريق الشموس، وفي اكتمال البدر، لرائعٌ كيف تخرج علينا ذئابُنا ؟
يومَ ألقيتُ حصاةً في بركةٍ رهيفةِ الإغواء، سحبتُ من بنات أفكاري صورةَ الطفلِ عنّي غداً، وغدا الرجلُ إلى منفى حاضرهِ .. مسكوناً بظلالٍ، يظلُّ يدفعها بصَيْبٍ من صنوان التكوين، وفي الياسمين ائتلاقٌ، ائتلافٌ لأوصال الآهات والحنين، وفي مرايا السابلةِ عناقُ غُبارِ الإنفجار الكبير، فكُّنّا في الكرى نتلامسُ العشبَ، ولإقراء الحواشي ننصب الخيام، والحمقى عند باب الليل .. إذا جَنَّ، جنّتِ الدّهورُ لعقودِ الرياش، تتلاشى، إذا حطَّتِ الأنفاس فوق صدرٍ، أُقبِّلُ قلبَهُ الورديَّ المنامات ..

وكالمجانين، كانتِ الأسماء، الأسمالُ والأسماك في سلالٍ .. كما لو مملؤة الماء، فوق ثغرِ الماء فراشاتٌ خفيفة الظلِّ، عند ثغر الماءِ قصبُ النّايات، كالمجانين نجرُّ أذيالَ التنانين والخيبات، وكلّ النيران تنزع أرديةَ المُثخني الجراح، حين تهوين في أعماق الروح والوجدان، والتاريخ يصير أستاذاً يُلقى به في مهبِّ التاريخ، لا حديثَ للقفار، وَحْدَها الأفنانُ تقشعِّرُ لصهيل الشطآن، وكلّ الآلهةِ الأوثان دبّتْ فيها الحياة، يومَ الحلّاجُ قلَبَ ظهرَ المِجَنِ، يومَ تبدّى على عودهِ كإلهٍ من بلاد الإغريقِ .. منفيّاً، وأمضي إلى سجن يوسُفَ، لعلّ أحظى بصولجان الفراعنةِ وكنعانَ وبلادِ ما بين النهرين، وديكُ الجِنِّ يُراقصُ ثوباً فضفاض المهود، لعلَّ أصلُ ما بين عصرين .. عصر الجاهلية وجاهلية عصرنا، لعلّ أؤاخي ما بين الأجداد والحَفدة، وقد غلبتْ علينا السِلّةُ والذِلّة، لعلّ لا نوأدُ مرّتين، في ” الأوّلة ” بناتُنا، وفي الثانية عقولنا، يا سبحان مَن أسرى بقبائل الرمال، إلى مهاجع ومخادع حريم السلطان، وإنُهُ لمسلسلٌ طويلُ الأنيابِ والأشجان ..

غداً، في ذلك الوقت، أوسعتُ الصفحات بانقلاب الوقت على ذاته، لكنّها ذاتي في حبكة التبويب والترتيب، فأطلقتُ لها فاتحة الروح، وأسلستُ الضوءَ للسابلة، ومَن كان بلا ملامح، سقط عن وقته مقبوض اللسان، ومَن تنجدلَ فوق مسرح الأيام، غطّ في نومه بما يشابه رقصة الغجر، ولي في وهدة هذا المكوث .. ثيابي القديمة، لا أعلمُ كيف كبرتُ عنها ؟ كيف غفت في مكانها هناك ؟ لكنّها الدّنيا، لا تنفكّ تظهر بأقنعةٍ لا نهايةَ لها، وقد رُسِمَ فوق خدي الأيسر حبّة بُنٍ اشتهتها أمي زماناً كما خبّرتني، وحبّةً أخرى على ظاهر يدها اليُمنى، كذلك سيف أبي، أروحُ ما بين هاتي العيون بكُليّاتِ تشكُّلي، بعروجِ شاهيةِ التآلق، أطعمها هذا الوقت لغايةِ عند تلك العتبات الحمراء، وبعض الدِنانِ متآرق الشاربين، الضاربين في عرض الشرايين، ما بينها الفصول، بكاءٌ مفطورٌ بغريزةٍ باصرةِ الرؤى، مقشّرة الفراسخ، تمتدّ آلاف السنين الضوئية، تميدُ هياكل المحيطات، وقد أحاطتْ بنا طيور تجيد العزف على آلة الساكفون، موسيقى الجاز، تلائم ليالي الذِكر، وفي الثقوب اكتساءٌ لأنفاسٍ، تصير نظرياتٍ مشدودة الإيقاع ..
غداً، أن تُشرعَ لكَ مرآتُكَ أبعادَها، غداً، إن تتذوّق فكرةً عابرة، أن تنزع تلك الغيمات من عينين مصفّدتين، من لمساتٍ مصقولةٍ بعناية، أن تمنح التفاصيلَ أعياداً واضواء، غداً، كلّما ذهبتَ في الوقتِ، وأمعنتَ وأنعمتَ البصيرة، غداً، كلّما سحبتَ من الدّماءِ اشتعالكَ، كلّما تفتّحتْ غرائبُ الدّنيا، تكتسيها نوباتٌ بلا ملامح، وقد اعشوشبت أبدانٌ، وقنافذ مدرّعة الأشواكِ مثل سناجبَ تستقرّ في الرماد ..

ثمة توسُّلاتٌ حديثة التكنولوجيا، تمّ الأخذ بها بموجب شرعة الآمر الناهي، ثمة أعمارٌ تُقلِّبُها الأكُفُّ، أنُى رقصَ خيالٌ، ثمة غيومٌ تتزاوج، وقد أنجبَتِ الأناملُ لوحاتها، أذهب فيها كاسراً للأبعاد، ثمة قطرةٌ التصقتْ بهذا العابر، حيثما يلثمُ الأنوارَ عن وجنات الورد، تقول بتلاتُها شوقاً أحمرَ الشّفاه، وما يتباسط عن الأقاح، أكوامُ الرياح .. إلى أكوانٍ تتبرعم بدورُها، وتحت كلّ غمامةٍ رأسٌ .. يكاد كروياً، وقليلاً يستطيل، وفي أُخْذَةِ عينين تذرفان النجوم، اتوسّدُ صقيعَها .. صادراً إلى طوفِ كِساءِ مزركش الرِعشات، حينما أفكُّ أزرارَ ثوبِ الحياة، أقع فيها سدرة المنتهى، كي أكتملَ في رحمها، يوم ولدَتني .. وهبتني روحَها ومضت، وقلبها في قلبي، روحي في روحها، أُغمضَ عينيَّ على عينيْ طفلةِ تضجُّ في صدري وروحي، أتعلّق بضفيرتين، بذؤابات ليلها وفجرها، ولمّا أزلْ أذكر أفراسَ الشّموعِ في دمي ..

لكَمْ .. تعلّقتُ بأرواحِ فوق أعوادها قبل الغياب ؟ أنهضُ بوجهين .. وجهي عنهما، ورائحة الأرقِ تتبعُ صهيلَ الأصيل، فلا يلثم السعفَ هناك .. غير سعفٍ يماثله، ينبسق من عين الشّمس، وما بين خطوط الراح، مسافرون متعَبون .. منهم الرضيُّ، ومنهم الملعون، لكنَّ قلباً ظمِئاً لماءِ مالح العبرات، سادراً ظلال الأفكار والأنفاس، بشيءٍ من شغاف القلق، وإذا رأيتني غداً كيف أكون، لا تيأسَ، لا تضطربَ، لا تنسَ من أين وإلى أين، وإنّهُ لسؤالُ العارفين الجازعين .. !!

شاهد أيضاً

مسيرات جماهيرية حاشدة في محافظة إب اليمنية تحت عنوان ( وفاء يمن الانصار لغزة الأحرار) ..

تقرير/حميد الطاهري خرجت في بمحافظة إب وسط اليمن” مسيرات جماهيرية حاشدة تحت عنوان ( وفاء …