الجناحان

بقلم الدكتور مخائيل قنبر

في الزمن الذي تجنح فيه أمور الوطن نحو الهاوية. وفي الوقت الذي يعيش فيه اللبنانيّون أقسى الظروف الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة وأصعبها على الإطلاق. وفي الحين الذي تذرُّ فيه المذهبيّة البغيضة برأسها هنا وهناك. رأينا أن نسلّط الضوء على حقبة مجيدة من تاريخ العيش المشترك في جنوب لبنان، جسّدها المثلّث الرحمة المطران يوسف الخوري راعي أبرشية صور المارونيَّة حتى العام 1992، والإمام المغيّب السيّد موسى الصدر، عجّل الله فرَجه. هدفنا من هذه الإضاءة تذكير اللبنانيّين بكافة أطيافهم، أنّ هذا الوطن لا يُمكنه أن يحلّق في فضاء هذا العالم بدون جناحيه المسيحي والمُسلم.

إنّ ما نسوقه لكم قرّاءنا الأعزّاء، هو فصلٌ من كتاب الحبر المتعدّد الأبعاد عن المطران يوسف الخوري الصادر عن دار المشرق سنة 2013. عَسَى أن يكون لهذه الإضاءة صدًى إيجابيًّا يُسهم في إعلاء صوت الاعتدال، والوطنيّة الصادقة، والسعي الدؤوب للحفاظ على العيش معًا مسلمين ومسيحيّين في الوطن الرسالة الذي هو “أكثر من وطن”، على ما قال يومًا البابا القديس يوحنا بولسس الثاني.  

  1. الرجاء

رفع المطران يوسف الخوري صوت الرجاء عاليا في عزّ الحرب الطائفيّة، يوم كانت خريطة لبنان الموحّد تتمزّق إربا، مستعيدًا تاريخ الإرث البطولي للبنان. قال أمام ممثلي الدول: “نحن أبعد ما نكون عن اليأس. إن وطنًا تحمّل ما تحمّل، منذ أكثر من ثلاثة عشر سنة (سنة 1988)، لا يعرف أن يموت. إن وطنًا محبوبًا من مواطنيه كلبنان، لا يسمح لأحد بأن يضع حدًا لأيامه. إن وطنًا قدّم نخبة شبابه جهادهم وحياتهم من أجله، لا يمكنه إلا أن يعرف خلاصه. إن وطنا مدركًا لتاريخه الطويل، والشهادة التي يحملها على مستوى الحضارة، والعلاقة بين الأمم، والدعوة الملحّة أكثر من أي وقت مضى للتفاهم بين الديانات، لا يعرف أن يتخلّى عن دعوته.[1]

نعم إن لبنان هو بلد رسالة. هو وطن مدعو للعب دور جامع في هذا الشرق. آمن المطران يوسف بهذه الدعوة التي حملها لبنان منذ تأسيسه. فبشّر بوحدة هذا البلد، يوم كان الجميع يسعون إلى تفتيته. أمِل بقيامة طائر الفينيق، يوم كان كلّ أنبياء الشؤم يحضّرون لدفنه. إن الوحدة الوطنيّة بالنسبة له، والتي هي ضمانة “العيش المشترك”، لم تضمحل، بالرغم من تمنيّات البعض وطموحاتهم. وبالرغم من المآاسي التي اجتاحت بلد “العيش المشترك”، بقي المطران يوسف يأمل دوما، ويبشّر بوحدة هذا الوطن، حتى في أكثر أوقات التفكّك. ” لم تندثر أطر الوحدة الوطنيّة: هناك دوما رئيس للجمهورية، ولو متنازع عليه. هناك دوما مجلس نوّاب، ولو مُجدّد له. هناك حكومة، ولو أنها تجتمع بالمراسلة. والحالة هذه، فلا المواطنين ولا الأمم أخذوا علما بموت “العيش المشترك”.

حمل المطران يوسف في صلاته وطنه بكل أبنائه. كان لأبناء الجنوب؛ الشيعة والمسيحيين المرجع الصالح في كل المسائل. كان كبيرا بالقول والفعل، وكان في نظر عارفيه، رجل الله فيما بينهم: “هذا الكبير بإيمانه والرجاء، والقابض بقلبه على كلّ ذرّة تراب من وطنه لم تُقعده السنون عن حركة دائمة حول مركزها الإنسان ولم تنل من عزيمته الأعاصير التي عصفت بلبنان. كان جبلًا لا يميد وهو بين متكأيه الإنجيل والقرآن والعين على ما بعد الأفق لأنه كان يرى ببصيرته ويسمع بقلبه.[2]

  • الوحدة وحوار الأديان

صمدت الوحدة الوطنيّة في لبنان، بالرغم من كل المعارك والصراعات التي جرت بين المواطنين اللبنانيين من كل الطوائف. هذا ما دفع المطران يوسف الخوري على التأكيد بأن استواء الحالة في هذا الوطن بات قريبًا؛ لأن العيش المشترك أقوى من التنافر، ولأن اللبنانيين كلّهم واحد، بالرغم من متطلّباتهم المتناقضة. “إن  المسلمين والمسيحيين في جميع مناطق لبنان، بإستثناء المناطق الدرزيّة – التي تنادي أيضا بعودة المهجّرين – لا يكرهون بعضهم أو يتنافرون، بل ينتظرون عودة الحالة الطبيعية، بالرغم من مصالحهم المتضاربة.[3]

كان المطران يوسف الخوري يؤكّد في أكثر من مناسبة، أن اللبنانيين صادقين في مقاربتهم للوحدة الوطنيّة، لأن “كل الذين يحلمون بالتبعيّة هم من الخارج؛ إما أنهم لا يريدون وجود لبنان، أو لأنهم يحلمون بالتبعيّة، أو بتقسيم لبنان وتسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على حسابه. حتى الذين يمتدحون الجمهوريّة الاسلاميّة لا يفكّرون بتقسيم البلد، إنما بـ (كلمة غير مقروءة).[4]” تحدّى المطران يوسف الخوري، على عكس كل أبطال الحرب والتفتيت، كلّ العالم، مؤكدًا أنه مع عودة الوحدة إلى لبنان، وأنه لا يمكن للطوائف إلاّ أن تتعايش مع بعضها البعض. ” ليس السؤال كيف نقسّم لبنان، بل كيف نعيد الوحدة إلى مؤسساته، التي تحافظ على الحقوق والحرّيات، وعلى المستقبل المؤمّن لكل مكوّناته. فلنحرّره إذا من الاحتلالات، والرهانات، وهذا حقّه الطبيعي كأمّة، ولنرى عندها إذا كانت الطوائف ستتفاهم، وتتعايش، وتعيش معا أو لا.[5]” 

هذا التعايش الذي كان ينادي به، عاشه المطران يوسف الخوري في الصميم. “فكان رجل حوار وانفتاح. عندما استلم مقاليد الرعاية في أبرشية صور والأراضي المقدسة المارونيَّة،  كان الوطن بحاجة إلى لحمة أمتن بين أبنائه، وثقةٍ أعمق بين جميع المواطنين، فخاطبهم بلغة جديدة تشع منها روح الالفة والآخاء، روح التسامح والمحبّة، روح العدالة والمساواة. وعندما انفجر بركان الحرب التي خلّفت الخراب والدمار، التهجير والتشريد، الضحايا والشهداء، كان دائما يقول أن مشاكل لبنان لا تُحلّ إلا بالحوار والتفاهم والاتفاق بين جميع اللبنانيين.[6]

كان هذا الرسول الملتزم العيش المشترك، واثقًا أن المشاركة العريقة في الوجود معًا في لبنان، بالرغم من روائح البارود والدمار التي خلّفها القصف، ليس في خطر. لأن الجميع راغب في الوحدة على حساب الإنقسام. ” هل وضعت الأزمة الحالية حدًا للمشاركة العريقة في الوجود؟! بالرغم من المعارك الدمويّة التي دارت رحاها في لبنان وما خلّفته على كلّ الأراضي اللبنانية، لا يمكن لأحد من المتخاصمين أن يدّعي إلغاء لبنان بالتبعيّة، أو بتقسيمه إلى كونتونات مذهبية.[7]” إذا كان جميع اللبنانيين ينشدون هذه الوحدة، فلأنهم كلّهم متشرّبون من روح العيش المشترك. ” يدّعي الجميع المحافظة على لبنان موحّد بحدوده الرسميّة المتعارف عليها من كل أمم العالم. إذا كان اللبنانيون يريدون لبنان دومًا موحّدًا، وإذا كانت الأمم من نفس الرأي. لماذا إذا الإصرار على التساؤول عن العيش المشترك؟[8]” لا يتوقّف “العيش المشترك” عن الانبعاث بإستمرار، في لبنان. هو شبيه بطائر الفينيق الذي يتجدّد بعد كلّ تدمير وحريق. مع أن هذا “العيش المشترك” قد مُسّ في لبنان، غير أنه لم يُفقد. “لقد سلِمت كل كنائسنا وأديارنا ومدارسنا والمباني، في أقصى الجنوب. لقد صمد كهنتنا بشكل مدهش في الرعايا، والراهبات في المدارس. مع أن “العيش المشترك” قد تعرّض لنكسة، غير أنه لم يُفقد. ماذا يخبيء لنا الفصل الأخير من المأساة؟ الله وحده يعلم. ونحن نحافظ على الرجاء.[9]

كان هذا الرجاء الذي لا مثيل له، مع الصلاة، هو الميزة الأساسيّة عند الحبر النادر الوجود، حبر العيش المشترك. بإمكان كلّ اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين أن يطلبوا شفاعته عند الرب من أجل لبنان، لكي يحميه من كلّ شقاق. وبكلمات المثلث الرحمة المطران خليل أبي نادر، يمكننا كلّنا أن نصلّي: “أعطنا روحك والتزامك وفهمك وانفتاحك لواقع لبنان الخاص في عيشه المشترك. ما حياتك لنا إلا رسالة. أعطنا شيئا من رسالتك هذه، وستبقى لنا، أنت، بعد ممات، مثال الراعي الصالح، بل الراعي القدوة.[10]

  • الأخوّة

إن ميزة لبنان الأساسيّة هي المعرفة المتبادلة بين أبناء الديانتين السماوتين اللتين تتعايشان على أرضه. المطران يوسف الخوري الذي كان يعرف عن كثب الإخوة المسلمين الذين يعيش معهم في الجنوب، رفع الصوت عاليًا في وجه الانقسامات العبثيّة بين المسلمين والمسيحيين. كان يعتبر نفسه قادرًا على التوجه بكلامه لمؤمني الديانتين، من دون تمييز. وكان الجميع يسمعون له ويقدّرونه. قال يومًا: “إن مأساة وطننا الكبرى تكاد تكون هذا الانقسام العبثي بين طوائفه وفي داخل كلّ طائفة. لا يوجد سلام من دون العودة إلى الأخوّة التي اخترنا أن لا ننفصل عنها، بل بالعكس أن نناضل من أجلها كلّ الأيام، بشكل أقوى، ولو كلّفنا ذلك أغلى التضحيات، من أجل أن لا نضحّي بالبلد نفسه.[11]

كان المطران يوسف الخوري يقول أنه إذا كنا نريد ألاّ نضحّي بهذا البلد علينا أن نلجأ إلى من يجمع أتباع الديانتين السماويتين فيه. من يستطيع ذلك، إذا لم تكن العذراء القديسة مريم. هذه الأم التي نمجّدها جميعًا من دون إستثناء. هذه الأم التي نالت منّا كلّ الإكرام الموجود في العالم وكلّ نكران الجميل الموجود عند شعوب العالم.  يستطيع الحبر والإمام أن يبشّر بهذه الأم. توجّه المطران يوسف الخوري بحديث حار إلى أتباع الديانتين، من أجل حثّ المسلمين والمسيحيين على المحافظة على العيش المشترك، تحت عباءة العذراء مريم، قال: ” لقد أَعطَينا سيّدتنا مملكة نعتقد أنها تليق بها. لقد غنّيناها بما لم يُقَل عن أي أحد في الكتب المقدّسة… ومن ثمّ هزّأناها كأولاد غلاظ. لقد اتخذناها لنا في لبنان نصيرة، وتباهينا أنها لكلّ اللبنانيين على السواء؛ للذين يحييونها كأم الله البريئة من الخطيئة الأصليّة، أو للذين يقولون عنها أنها سيّدة نساء العالمين، النقيّة. ومن ثمّ شليّنا حركتها…[12]”  

هذه البريئة من الخطيئة الأصليّة، هذه السيّدة لنساء العالمين، هي التي تجمع كلّ اللبنانيين. لقد أطلق المطران يوسف التحدّي لكل اللبنانيين المؤمنين بالإله الواحد، ودعاهم ليعيدوا قراءة كتبهم المقدّسة، ويتآلفوا مع تعاليم الأنبياء. بيّن لكلّ المتحاربين بإسم الدين أنهم يتصرّفون بخلاف ما يؤمنون ويعتقدون: “إن أفظع ما يكون هو أن البعض يعتقد أنه يحارب بإسم الله. هل أوصى إله المسلمين بإلغاء المسيحيين، وهل أوصى إله المسيحيين بإبادة المسلمين. هل أصبح دعاء “الله أكبر” صرخة حرب؟ والصليب هل أصبح شعار معركة؟

إن روح الأخوّة التي عاشها المطران يوسف الخوري في مفاصل حياته اليوميّة بين أهله وعارفيه وأبناء القرى الجنوبيّة، جعلت المفتي عبد الأمير قبلان، أعلى مرجعيّة روحيّة شيعية في لبنان يقول في ذكرى مرور اسبوع على وفاته: “يعزّ علينا فراقك أيها الجندي وكان يفترض أن تقام هذه الذكرى في النادي الحسيني لكننا أرجأناها إلى ذكرى الأربعين. أنا أتكلّم بإسم الشيعة في لبنان ومع هذا التوجّه نلتقي بإستمرار في الأفراح والأحزان ونبعد عن كنائسنا ومساجدنا كلّ تعصّب وحقد. المسيحي هو عبد لله والمسلم هو عبد لله، وواجبي أن أعترف بالمسيح عليه السلام وإن لم أعترف به فلا أعترف بالنبي محمّد. فأنا مسيحي قبل أن أكون مسلما وكلّنا مسلمون لله.[13]

  • السلام وإعلاء شأن الإنسان

كان المطران يوسف الخوري يذكر أمام الجميع أن الوثنيين كانوا يحاربون باسم الآلهة، في أيام الديانات الوثنيّة. أما في الأديان السماويّة فقد ظهر لنا الله كإله للسلام، والمؤمنون في هذه الديانات مدعوون لعيش التوافق. كان يدعو اللبنانيين لنبذ الفرقة، ويحثّهم على تجنّب ثلاث مخاطر تهدّد العيش المشترك. قال يومًا في إحدى الرياضات الروحيَّة: “في بلدنا لبنان لا وجود للوثنية الأولى فيها أتباع للأديان الموحدة الثلاث اليهوديّة والمسيحيّة والاسلاميّة وكلها تدين بالإله الواحد. ولكن هذا المعتقد الواحد تهدّده آفات ثلاث:

  • أولها التباعد بين الأديان الثلاث التي تحوّل دينا إلى العداء لدين آخر حتى القتال، وهل من شر أفظع أن يقتل عبّاد الله واحدهم الآخر بإسم الله الذي هو المحبّة.
  • وثانيها التعبّد للمال والتقاتل في سبيله وكل متفرّعاته من حب التسلّط، واشباع الشهوات، والتنكّر إلى ما يلزم لكل إنسان من سبل العيش.
  • وثالثها أن نعبد الله إسمًا وننكره فعلًا لأننا نتجاهل كل ما يمثله الله في الحياة من عدالة ورحمة ومحبة. وقد نبّهنا المسيح قائلًا: ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات بل من يعمل إرادة أبي الذي في السماوات.

منّا من يجمع الأضّاد فيدّعي أن يكون مسيحيًّا وبالوقت نفسه شيوعيًّا أو ماسونيًّا أو شاهدا ليهوه إلى كل ما هنالك من شيع تعيث بالأرض فسادا.

يقول الرب: لو كان لكم من الإيمان كحبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل إلى البحر فيكون لكم ذلك. ولو جاء إبن الإنسان إلى الأرض أتراه يجد إيمانًا على الأرض؟ فلنضرع إليه أن يزيدنا إيمانًا.[14]

ليس السلام هو إنتفاء الحرب فقط، إنما هو إعلاء شأن الإنسان. ورسول السلام هو الذي يسعى لتحقيق إرادة ومشيئة ملك السلام في حياته اليوميّة، وفي خدمته الكهنوتيّة، أو الأسقفيّة. تحقيق هذه الإرادة تعني أن يكون الإنسان قبل كل شيء عادلًا، أمينًا وغفورًا. وأن يؤدّي رسالته فيكون في خدمة الإنسان، كل الإنسان وكل إنسان، دون التمييز بالعرق، واللون، والدين. والمطران يوسف الخوري “كان سراجًا على منارة، وعين رعاية وقيادة؛ ونقاء دعاء وإبتهال ورائد وحدة وطنيّة. دافعه إلى العمل الراعوي كان خير الانسان كل إنسان دون تمييز بين دين أو طائفة أو مذهب.[15]” رسول السلام هذا هو الذي يعمل على إزالة أسباب الحروب والخصومات، والتي غالبا ما تنحصر بالجهل والفقر. كان المطران يوسف الخوري في حياته، هذا الرسول الذي سعى لإزالة الجهل والفقر من محيطه، من دون تمييز، فحطّم الحدود الطائفيّة، وبنى جسور المعرفة والإنفتاح التي أمّنت لأبناء منطقته درعًا واقيًا ضدّ التعصّب والاقتتال. بخلاف ما جرى في مناطق لبنان الأخرى: “لقد بنينا مدرستين كبيرتين مخطلتتين، واحدة في صور بعهدة المرسلين اللبنانيين الموارنة تساعدهم فيها راهبات العائلة المقدّسة المارونيات. وأُنجِزت الثانية بعناية الراهبات الأنطونيات المارونيات في النبطية، المدينة الثانية في الأبرشيّة. تجمعُ المدرستين أكثر من 5000 طالب، 90 % منهم هم من الشيعة. حتى المدارس التي تديرها راهبات استدعيناهنّ لذلك، أو كهنة أبرشيين، في مختلف قرانا المارونيَّة الصرف، تستقبل أولاد الشيعة الذين يأتون في بعض الأحيان من أماكن بعيدة.[16]

عمل المطران يوسف الخوري ليس فقط على ترقية الإنسان، من خلال تأمين التعليم فقط، بل من خلال تأمين الرعاية الطبيّة للجنوبيين من كل الألوان الطائفيّة: “لقد بدأنا على الصعيد الإستشفائي زيادة عدد المستوصفات المفتوحة للجميع. حتى المشفيين اللذين بنتهما الحكومة تحت كنف الجيش اللبناني، واللذين يهتمّان بجيران الحدود. لم يستطيعا أن يعملا لو لم نعهد بإدارتهما إلى راهبات العائلة المقدسة في صور، وراهبات الصليب في تبنين في الجبل، بعد طلب السلطات المعنيّة.[17]

تخطى المطران يوسف الحدود الطائفيّة على كل هذه المستويات، لأنه كان رسولًا دينيًا عابرًا للأديان. كان من رعيل الأحبار بلا حدود، الذين وقفوا حياتهم من أجل خدمة الإنسان. عنه قال المطران يوسف مرعي في ذكرى الأربعين: “وبروح إنسانيّة ووطنيّة جَمَعت اليتيم والمحروم وسعيت من أجل لبنان حر واحد يتعايش فيه كل المواطنين مسلمين ومسيحيين.[18]

  • التضامن الوطني

كان المطران يوسف الخوري من أولائك الأحبار الذين تمّموا تعليم الإرشاد الرسولي، “رجاء جديد للبنان”، حتّى قبل صياغته بسنوات. فهو كان من الملتزمين بخط التضامن الوطني العميق. أدرك أن ” الحوار الإسلامي – المسيحي ليس حوارًا بين مثقّفين فقط، بل يهدف، أولًا، إلى تشجيع العيش معًا بين مسيحيّين ومسلمين، في روح من الانفتاح والتعاون لا بدّ منه، ليتمكّن كل منهم من الشعور بالرضى بإعتماده في حرية الخيارات التي يُمليها عليه ضميره القويم. ومتى تعلّم اللبنانيّون أن يتعارفوا جيدًا ويرضوا رضى كاملًا بالتعدّدية، وفّروا لنفوسهم الشروط الضرورية لإقامة الحوار الحقيقي، واحترام الأشخاص، والعيال، والجماعات الروحيَّة. [19]” هذا الإدراك لم يكن إلّا ترجمة للتضامن الأخوي الذي عاشه المطران يوسف الخوري في تفاصيل حياته اليوميّة. ولم يكن إلا تأكيدا للبعد الوطني الصادق الذي كان يتحلّى به. فهو منذ نشأته في الجنوب اللبناني المتعدّد الطوائف، فهم أن رسالة مسيحيي الشرق عامة، ومسيحيي لبنان خاصة، هي أن يكونوا رسل تضامن ورجالات تلاقي. وما إن وصل إلى مراكز القرار في الكنيسة والحياة العامة، حتى بدأ يسعى بكلّ طاقاته، وبكل ما أوتي من روح قياديّة، وهيبة، وتأثير في سامعيه، لنشر ثقافة الانفتاح، والحوار، والعيش معا. ” كان المطران يوسف الخوري قد اكتسب خبرة أوسع خلال إقامته في بكركي، وبنوع خاص، في الجنوب وفي مطرانيّة صور، حيث تبلورت شخصيّته القياديّة وجمعت المرونة والدبلوماسيّة إلى الحزم ومعرفة أخذ القرار. كما أن قناعاته اللبنانيّة قد توضّحت رغم وجوده في اقصى الجنوب وتعرّضه للتهديد والخطف وقد أصبحت محطّ إعجاب الكثيرين، وبنوع خاص، الشباب المثقّف والمندفع في سبيل الدفاع عن الوطن.[20]

وتجلّى البعد الوطني في حياته من خلال مواقفه الوطنيّة الجريئة، ومن خلال تكوكب النخب الوطنيّة حول شخصه في حياته، ويوم مماته. ” لقد ظهرَ البُعْدُ الوطنيُّ لشخصيَّةِ المطران يوسف، في حياتِه ومماتِه، إِذْ دأبَ الكثيرون مِنَ العُليَةِ في استشارتِه، ومن النُخْبَةِ، في الرجوعِ اليه، والتمثُّلِ به، ومن الصَفوةِ، في الإِلتفافِ حولَه، وعَقْدِ الأَمَلِ عليه. ولعلَّ رجلًا فردًا، في العقودِ الثلاثةِ الأَخيرة، لم يَحْظَ، في بلدتِهِ ومنطقتهِ وابرشيَّتِه، وعلى مستوى الطائفةِ والوطنِ كِليهما، بمثلِ المكانةِ التي احتلَّها. ثُمَّ حَسْبُهُ أَنَّ الحُسَينيّاتِ بَكَتْهُ كالكنائس، وأَنَّ المآذنَ نَعَتْهُ كالأَجراسِ، وأَنَّ كوكَبةً من رجالاتِ البلادِ ومفكِّريها، رَثَتْهُ على المنابرِ والصِحاف، وقد أَصابَ نعيُهُ مِنَ القلوبِ الشِغافَ![21]

  • شراكة الحبر والإمام

كان العام 1960 تاريخًا لا ينتسى بالنسبة لمسيحيي صور، ومسلميها. فهو تاريخ بدايةِ حبريّةِ المثلث الرحمة  المطران يوسف الخوري على أبرشيّة صور والأراضي المقدّسة. هذا التاريخ طَبَعَ المدينة وجوارها. خاصة أن إطلالة المطران يوسف، لم تكن فقط إطلالة روحيّة لأبناء كنيسته المارونيَّة وحسب، بل كانت إطلالة وطنيّة بامتياز، طالت مفاعيلها كلّ الجنوبيين من دون استثناء. “وكان في الوقت ذاته يُطل على صور وعلى الجنوب رجلُ دين آخر تطلعاته إيمانيّة وإنسانيّة ووطنيّة. فالتقى المطران يوسف الخوري والإمام الصدر على خط واحد، خط نبذ الطائفيّة والتزمت والتفرقة والفرز الطائفي، وأخذا يعملان معًا، جنبًا إلى جنب بروح التعاون والتضامن في القضايا الإنسانيّة والاجتماعيّة، وأسسا مدرسة عيش مشترك ووحدة وطنيّة.[22]” كان وجود هذين العملاقين في الجنوب اللبناني، ورقة رابحة للمسيحيين والمسلمين الذين يتقاسمون نفس الهموم، ونفس الأرض والجغرافيا والتاريخ. وعندما فقدهما الجنوب ولبنان كل واحد منهما في الظروف المختلفة والمعروفة، والتي تراوحت بين التغييب والغياب الأبدي. شعر الجنوبيون بالفراغ الكبير. “حين يكون وقع الحضور صدى لهدير الغياب، والتواضع قمة الكبرياء، والحسّ الإنسانيّ الهوية، والمحبّة جسر عبور بين متوازيين. تستدير بنا الأيام لنشهد مساحة جهاد كبيرين من بلادي: المغفور له سيادة المطران يوسف الخوري والإمام المغيب السيد موسى الصدر أعاده الله سالمًا.[23]

كان التضامن الذي بدأ ينمو رويدًا رويدًا بين هذين الكبيرين وجماعتيهما بمثابة ضمانة لحياة هانئة تمتّع بها الصوريّون لزمن طويل. هذه العلاقة القدوة من العيش المشترك في لبنان كانت بمثابة استقراء لما سيعلنه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في الارشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان” والذي قال فيه: “إن الخبرات العمليّة في ممارسة التضامن، هي ثروة لجميع الشعوب، وخطوة واسعة هامة على طريق مصالحة الأفكار والقلوب، بدونها لا يمكن القيام بعمل مشترك طويل الأمد. إنَّ الحكمة الطبيعيّة تقود الأفرقاء، إذن، إلى تواصلٍ بشري غنيّ، وإلى تعاضد يُمتّن النسيج الاجتماعي.[24]” تمتين هذا النسيج في المجتمع اللبناني كان النتيجة الحتميّة للشراكة، التي طالما ساهمت في ترسيخ السلام الحقيقي، الذي لم ينحصر فقط بانتفاء الحرب العسكريّة. إن ما أعلنه قداسة البابا في الإرشاد الرسولي، عاشه في جنوب لبنان الحبر الجليل يوسف الخوري والإمام الفضيل موسى الصدر، أربعين سنة قبل إعلانه بوثيقة كنسيّة رسميّة. جاء في الوثيقة أن استمرار الخلافات بين اللبنانيين: ” يجب ألاّ تشكّل عقبة في سبيل حياة مشتركة وسلام حقيقيّ، أي سلامٍ يكون أكثر من غيابٍ للنزاع.[25]” وفي نفس الإطار قال المطران يوسف: “كانت علاقاتنا مع الرؤساء الروحيين مطبوعة بطابع الاحترام المتبادل والمودّة القلبية، بالأخص مع الإمام الجديد الذي اتخذته لها الطائفة الشيعية بشخص السيد موسى الصدر، الخارج عن المألوف.[26]

هذه الأخوة والشراكة التي ربطت الحبر والامام، انسحبت على مكوّنات المجتمع الجنوبي بكل أطيافه، فأصبح قبلة الأنظار بطريقة عيش أبنائه في إطار العيش المشترك. “يوم تآخت في صور كاتدرائية سيّدة البحار ومؤسسة جبل عامل بلغ الجنوب عزّه، ورنت كل مناطق لبنان إلى مدينة أليسار تسألها فيضًا من عطائها الحضاري ومجدها العظيم. يومها خفقت رايات العيش الوطني، والتفاعل الروحي، والازدهار التعليمي والثقافي، على تلال الجبل العاملي، انطلاقا من قدموس مرورًا بالبرج الشمالي. ويومها، كرّس مطران صور وإمامها التعدّد الديني والمذهبي مدماك تكامل روحاني وخط تفاعل حضاري وفعل إدانة للذين جعلوا من التنوّع الرسالي خط تصادم وتذابح.[27]” هذا التضامن عاشه المطران يوسف بكلّ قناعة وإيمان. وكان يتكلّم عنه ويبشّر به في الحلقات الواسعة كما في الحلقات الضيقة التي كان يتواجد فيها. فكان يعيش أسقفيّته الإنسانيّة مع المسلم تماما كما يعيشها مع المسيحي. “وهو إلى ذلك استطاع أن يكون مطران صور بكل طوائفها الاسلاميّة والمسيحيّة، فكان صديق الإمام موسى الصدر وخدينه، ويرتبط معه بصلات وثيقة. إضافة إلى صداقة انعقدت بينه وبين علماء ومشايخ صور. وكان رحمه الله مرجعًا لشخصيّات المنطقة، ويشكّل ثقلًا انتخابيًا مؤثرًا ليس في أوساط المسيحيين فحسب، بل الشيعة والسنّة أيضًا.[28]

  •  رسالة القداسة

هذا الاحترام، وهذه المودّة القلبيّة، هما في أساس أي حياة مسيحيّة، لأن كلّ مسيحي مدعو ليكون متحدًا مع إخوته من كلّ الديانات، ولكي يفكّر في مصالح غيره وأن يكون في شراكة معه في كلّ ما يوطّد العيش المشترك. هذا العيش المشترك هو نتيجة الغيريّة المطلوب أن يعيشها كلّ مسيحي متخذًا الله أبا ومؤمني باقي الديانات إخوة: “وأننا كلّنا أولاده وبالنتيجة كلّنا إخوة، بعضنا لبعض. وأنه يجب أن نتصرّف كذلك ليس من أجل منفعته – فهو ليس بحاجة لذلك – إنما من أجل خيرنا الشخصي. قال لنا أنه الخير المطلق الذي ينتشر بحدّ ذاته. وأنه يجب علينا بدورنا أن لا نفكّر في خيرنا الشخصي بل بخير الآخرين. وأنه يجب أن لا نضحّي بالآخرين من أجل مصالحنا، بل أن نضحيّ بأنفسنا من أجل مصلحة الجماعة.[29]

إن التضحية بالنفس من أجل الآخرين هي سِمة كلّ مسيحي، وقديس. وماذا نقول عن مار شربل قديس لبنان الذي طبع تطويبه سنة 1965 كلّ اللبنانيين من كلّ طوائفهم ومللهم. ” أما تطويب الأب شربل فهو ليس فقط كما نظر إليه الكثيرون ساعة مجد لرهبانية أو كنيسة أو لوطنه – مع أن ذلك حق – ولا هو مكسب أي كان، بقدر ما هو دعوة مجدّدة من الله إلى شعبه يوجهها من حين إلى حين بواسطة أنبيائه ورسله وأوليائه لكي يرد قلب الضعيف إلى ربّه، ويقيه المزالق والمعاثر، ويرفعه درجة أيضًا إلى ذلك السمو الذي يقوده إلى أعلى الأعالي. فتطويب الأب شربل هو دعوة كريمة جديدة إلى ما يدعو إليه الإنجيل، وإلى ما لم يخف عن القرآن؛ إلى الصلاة، إلى السكوت، إلى التقشّف، إلى الترفّع عن المادّة (سكب) كل ذلك مجد للخالق وخير لخلائقه. [30]” هكذا خرج تطويب الأب شربل من إطاره المسيحي، ليلامس الإطار الوطني، ويقويّ الشراكة والتضامن بين مختلف العائلات الروحيَّة. ” وعلى هذا المستوى لا يبق الولي أو القديس ملكا لبيئته الخاصة بل هو للبشرية جمعاء، وهذا ما حصل للأب شربل الذي حسبته كل العيال الروحيَّة اللبنانية كفرد من أفرادها وما أرادت أية عائلة ينتمي إليها بحسب الجسد أن تحبسه عن سواها. ولقد شاء الله كما تعلمون أن يثبّت طريقته بالعجائب فتحقّق فيه ما ورد في الترنيمة الطقسيّة: بسيول دموعك أخصب القفر العقيم فصرت كوكبا متلألئا بالعجائب… [31]” هذه الشراكة في القداسة والتضامن الروحي بين كلّ العائلات الروحيَّة دفعت المطران يوسف لإعلاء شأن القيم الروحيَّة والتبشير بها، أينما حلّ ورحل.

  • القضيّة الوطنيّة

إن القيم الروحيَّة هي الدم الذي يجري في عروق كل مؤمن، كيف إذا كان هذا المؤمن حبرًا ملتزمًا العيش المشترك كالمطران يوسف الخوري. فإتمام القيم الإنسانيّة على ضوء الكتب المقدّسة جعلت من هذا الحبر رسولًا للعدالة، وداعية للسلام، ومربيًا على القيم الروحيَّة. ولعلّ حب الأرض والوطن هما من أهم هذه القيم الروحيَّة. فالعهد الجديد وصف مرّات عدّة عاطفة يسوع لموطنه وأشار إلى أنه بكى مصير أورشليم التي ستتهدّم. فعاطفة الإنسان لوطنه هي مشروعة. هي لا تتغيّر وتتجرّد من معناها، بل بالعكس من ذلك، هي فطريّة وبمنتهى الوضوح. كان المطران يوسف شديد الولع بوطنه، وكان يدافع عن قضيّته في كل فرصة سانحة، وما شهادة كبير كالكاثوليكوس كراكين الثاني في كِبَرِ وطنية المطران يوسف، إلا خير دليل على ذلك. “كان المطران خوري إبنا أصيلًا للبنان، كان يعيش المحنة اللبنانية بتأثّر بالغ. كان يتألّم بجسده لآلآم أهله وأبناء رعيّته في الجنوب. أتذكّر أنه في كلّ مرة كان يرد إسم لبنان على جدول أعمال الإجتماعات المسكونيّة، يتحوّل هذا الرجل الذي غالبا ما يكون صامتا إلى مِهذار وبليغ، ليدافع عن القضيّة اللبنانية كبطل من أبطال الإستقلال، ومن أبطال السيادة، وتلك الميزة الخاصّة لبلد الحريّة. لا أعلم ماذا كان يشعر حين يقرأ كلمات مواطنه الشاعر الفيلسوف جبران خليل جبران الذي أصبح مواطن العالم كلّه:

“ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين،

ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر،

ويل لأمة تحسب المستبد بطلًا، وترى الفاتح المذل رحيمًا،

ويل لأمة لاترفع صوتها إلا إذا مشت بجنازة، ولا تفخر إلا بالخراب ولا تثور إلا وعنقها بين السيف والنطع ..
ويلٌ لأمة سائسها ثعلب، و فيلسوفها مشعوذ، وفنها فن الترقيع والتقليد.

ويلٌ لأمة تستقبل حاكمها بالتطبيل وتودعة بالصَّفير، لتستقبل آخر بالتطبيل والتزمير.

ويلُ لأمة حكماؤها خرس من وقر السنين، ورجالها الأشداء لا يزالون في أقمطة السرير. ويلٌ لأمة مقسمة إلى أجزاء، و كل جزء يحسب نفسه فيها أمة.[32]

كانت الأمّة اللبنانية الكبيرة والمجيدة حاضرة دومًا في فكر الكبير القلب، المطران يوسف الخوري. وقد شكّلت أكبر طائفة فطريّة بين الطوائف الثماني عشرة التي تشكّل النسيج اللبناني، والتي يقدر كل لبناني من خلالها أن يعيش بتوافق مع نظرائه اللبنانيين. لذلك لم تكن الأمة اللبنانية بالنسبة له واقعًا نظريًا فقط، إنما نعمة على كل لبناني أن يعرف كيف يستغلّها. عندما أطلق فكرة إقامة مجمع للكنيسة المارونيَّة، إنما كان نصب عينيه لبنان بكلّ فسيفسائه. من أجل ذلك حرص على أن يطلق على المجمع إسم ” المجمع اللبناني” وليس الماروني. سنحاول أن نغوص في فكر المطران يوسف الخوري لنتبيّن هذه الرؤية اللبنانيّة للمجمع، أو لنتبيّن “لبنانيّة” المطران يوسف، بحسب تعبير الخوري يواكيم مبارك. “إن الطابع الرعوي لمجمع من أجل لبنان إنما هو مَعلمٌ وسطي بين جهة وأخرى من المجمع. إن الرعوية تتطلّب كشرط أساسي لكل مشروع رصين ومتجدّد، إصلاحا داخليا في الكنائس. غير أنها تدعو بحزم إلى إعادة بناء الهويّة اللبنانية على أسس سليمة ومستدامة، وهذا ما يمثّل ما هو أبعد من الرعويّة، لأن هذا يعني المسلمين والمسيحيين على السواء. إن هجرة المسيحيين واستسلام الباقين منهم في لبنان مع المسلمين للمصير المحزن للعالم العربي، يشكّل همًا وطنيًا لا يقل شأنًا عن الهموم الأخرى. إذا كان يعود للمجمع الماروني ولكل المبادرات البطريركية المماثلة، تأمين ما قبل السينودس بإيقاف الكنائس على أرجلها، لا يمكننا بنفس المنطق، أن ننحرم من إيجاد الطريقة الأمثل لمشاركة المسلمين والمسيحيين من أجل إنهاض لبنان. هذا المشروع الوطني لا يمكن أن يتجاهله المجمع دون أن يقع في هامش التاريخ.[33]

كان نهوض لبنان هو الهدف الذي سعى المطران يوسف الخوري من أجله وعمل له مع كلّ أصحاب الإرادات الحسنة، كالإمام موسى الصدر. كان يعلم أن الأمة اللبنانيّة لا تستطيع أن توفّر على نفسها كأس الحرب الأهليّة، إلا من خلال تعاون القادة الروحيين لكل الطوائف، وعلى كل المستويات. من أجل ذلك عمل معهم على مسار “الوقاية خير من ألف علاج”. “وعندما بدأت الأزمة تذرّ قرنها وتنبىء بهبوب العاصفة العاتية على الجنوب ولبنان. كان هم الجنوب يملأ قلب المطران والسيّد. فأسسا رابطة نصرة الجنوب بالتعاون مع مجموعة من المطارنة والسادة العلماء. وأخذوا جميعًا يتجوّلون في مناطق الجنوب يقدّمون التشجيع، يحملون المساعدات، يبلسمون الجراح ويقرّبون وجهات النظر.[34]

كان هذا المسعى مع الإمام الصدر كثير النفع للمسيحين والمسلمين على السواء. غير أنه كان في فكر المطران يوسف الخوري مشروعًا طموحًا لكل الوطن، يذهب حتّى إلى الانتقال من الجمهوريّة الثانية إلى الجمهورية الثالثة. “في نفس سياق البحث كان يبدو أن  تبديل حقوق الطوائف بحقوق الإنسان في لبنان هو الطريقة الأسرع للإنتقال من الجمهوريّة الثانية إلى الجمهورية الثالثة. بإنتظار هذا المكسب الملح، بإمكان المراجع الدينية أن ترجئ تقديم الحساب الواجب من قبل السياسين للشعب عن الحالة المأساوية التي يعيشها. فالمسؤولون السياسيون يشغلون مراكزهم كلٌ بإسم طائفته. من هنا يرجع إلى المرجعيات الدينية أن تطالبهم بتأدية الحساب بإسم الشعب اللبناني.  وبصرف النظر عن ذلك فإن مصير هذا الشعب في وطنه متعلّق بترقية المؤسّسة العسكرية، والمدرسة الوطنيّة في قطاعيها العام والخاص، والجامعة الوطنيّة بالتعاون مع الجامعات الأجنبيّة والخاصة والمراكز الثقافيّة. كل هذا يجب أن يؤول إلى نجاح الدمج الاجتماعي في لبنان وتأسيس حقوق الإنسان في هذا المجتمع الموحّد.[35]”  لو سُمحَ له ” فإن رجل الدين هذا كان يعيش طموح لعب دور أساسي في سياق إحلال السلام وإعادة بناء وإعمار لبنان.[36]

  • التفاهم الإسلامي المسيحي

بعد عودته من روما إثر مشاركته في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني وتطويب الأب شربل مخلوف. إبتهج المطران يوسف كون المجمع الفاتيكاني الثاني قد وضع في وثائق رسميّة العلاقات بين الكنائس وبقية الأديان. وبمناسبة عيد القديس مارون في صور سنة 1965، وأمام حشد من رجال دين ودنيا، شرح كيف أن عائلتنا اللبنانيّة المتعدّدة الطوائف هي عائلة عيش مشترك، وكيف أن هذا العيش المشترك ألهم آباء المجمع الفاتيكاني الثاني فأدخلوا الجديد للكنيسة جمعاء فيما يعني التقارب بين الأديان، وفيما يخص التفاهم الإسلامي المسيحي. قال أنّ أبلغ وأهمّ ما أتى به المجمع، إنّما هو وثائق ثلاث “بحثت في الحرية الدينية بصفة عامة، وفي تحقيق وحدة المسيحيين والتقارب مع سائر الديانات الأخرى وفي مقدمتها الدين الاسلامي الحنيف.

وهي أمور كانت شبه جديدة بل ثورية في أعين الكثيرين من الشعوب التي عاشت حياتها الخاصة منكمشة عن الآخرين غير شاعرة الشعور الوافي بوجود الآخرين. ولكنها أمور كان لبنان السبّاق في تحقيقها والسير فيها قدوة للآخرين ودعوة مباركة. فأي بلد كلبنان قدّس حريّة الأديان بأكمل ما في هذه الكلمة من معاني؟ وأي بلد سواه استطاع فيه المسيحي أن يختار له الطريقة في تفهّم الإنجيل دون التعرّض لطريق أخيه؟ وأي بلد كلبنان، التقت فيه المسيحيّة مع الاسلام في طريق نور، طريق الاحترام المتبادل، طريق المساواة الحقيقية، طريق الحرية والعدل معا؟ [37]

لم يستطع المطران يوسف الخوري إلا أن يتهلّل كون وطنه كان نموذجا للعيش المشترك بالنسبة للكنيسة الجامعة وللعالم الإسلامي. الشعور بوجود الآخر كأخ في الإنسانيّة، وتقديس الحرية الدينية، وجمع أتباع الأديان في طريق الاحترام المتبادل، والمساواة الحقيقية، والحريّة والعدالة، إنما هي قيم يجب أن تُحتذى، حتى بالنسبة لشعوب كثيرة تعيش المساكنة وليس العيش المشترك. كانت فرحته كبيرة أن ما هو جديد بالنسبة للكنيسة الجامعة، كان منذ زمن بعيد خبز الكنائس الشرقيّة، والمجتمع اللبناني اليومي. “هذه القيم التي كانت تفرضها علينا المقومات اللبنانية، أصبحت اليوم من صلب عقيدتنا وتصرفنا المسيحي، وعلينا أن نعتبر أن المجمع قد كرّس طريقتنا في الحياة، بل إنه يدعونا إلى ما وراء التعايش السلمي، أو التضامن الاجتماعي، أو المشاركة السياسية، إلى الخوض في أصول الدين، لكي نجد هناك الكنه المشترك الذي يعرِّفنا بعيدا عن الفوارق إلى وجه الله الصافي الكريم الدائم.[38]

بتوجّهه إلى الجمهور نفسه، دعا المطران يوسف الجميع ليدخلوا في خط إصلاح النفوس من أجل إنقاذ المجتمع اللبناني. وقد حث اللبنانيين على التضحية الشخصيّة من أجل إعلاء القيم الحتمية للعيش المشترك. وقد قال بصوت عالٍ أنه إذا كانت الطائفيّة هي مشكلة لبنان، فالحلّ هو بالعودة إلى القيم الروحيَّة. “هذا الاصلاح كلنا يعرف مهما كانت التضحيات الشخصيّة التي يفرض، نحن بأمسّ الحاجة إليها في كل مستويات حياتنا وليس من شائبة تفوت أيا منّا. هذا الاصلاح يستحق من قبلنا كل تشجيع وكل تقدير وكل مؤازرة. وهنا ينبري الكثيرون لكي يحمّلوا الطائفيّة كل وزر ويجعلونها العائق اللدود دون تحقيق أي صلاح. لا نريد أن نبحث في هذا وهو يقتضي كلاما كثيرا، ولكن إذا أردنا أن نبسّط الأمور لأستطعنا أن نقول: الطائفيّة هي عائق ولكن الدين هو المعين. وكل إصلاح في المجتمع لا يرتكز إلى إصلاح النفوس لا يرتكز على القيم الدينية والروحيَّة والأخلاقيّة فهو عبث في عبث. وكل إصلاح لا تحياه كل يوم في الانتصار على الخطيئة، وعلى الشهوة، وعلى التجربة لا تكتب له حياة.[39]

هذا الإصلاح على مستوى النفوس هو ضرورة لحماية لبنان، وللكفاح ضد المشروع الصهيوني للمنطقة. بحسب فكر المطران يوسف الخوري، فإن التفاهم المسيحي الإسلامي في لبنان يمكنه أن يواجه النظام العالمي الجديد. “إن التفاهم المسيحي الإسلامي في لبنان إنطلاقا من الجنوب هو شرط لا بدّ منه، ليس فقط من أجل تحرير لبنان إنطلاقا من جنوبه، لكن أيضا من أجل مواجهة النظام العالمي الجديد من خلال وجهة النظر التي تتقارب مع الوجهة التي كوّنها البابا يوحنا بولس الثاني عن لبنان. هذه الوجهة التي كوّنها الحبر الأعظم عن لبنان مشابهة لما كان يعمله في الماضي القريب في أرض مولده البولونيّة بمواجهة الشيوعيّة العالميّة. إن التفاهم المسيحي الإسلامي في لبنان يُسهم في معارضة المشروع الصهيوني الفلسطيني. فهو إذا نقطة الإنطلاق، التي ستسمح بمواجهة النظام العالمي الذي تمثّل النقطة المركزية فيه، غرز المشروع الصهيوني في جسدنا. التفاهم المسيحي الإسلامي في لبنان هو شرط أساسي للتفاهم الأوروبي العربي الذي هو البديل الوحيد الممكن في مواجهة التفاهم الأميركي الإسرائيلي الذي يفرض نفسه على العرب وأوروبا وحتى على الأمم المتحّدة نفسها، من أجل مصالح أميركا وإسرائيل فقط.[40]

  1. الخدمة

كانت الخدمة هي إحدى أهم الركائز الخاصة في عمل يسوع الخلاصي. فالمسيح الملك أتى إلى العالم “ليخدُم لا ليُخدم” (مر 10: 45). تجلّت خدمة الرب لحساب المهمّشين على صعيد الأعراق والديانات. لقد بلسم الجراح الروحيَّة، الأخلاقيّة والجسديّة للفقراء والأغنياء على السواء. لقد أعاد للإنسان كرامته كإبن لله. رفع المسيح من مقام الخدمة في تعليمه، كما في مسلكه. لقد قال فليكن كبيركم خادمًا لكم (مر 10: 43). بالإضافة إلى ذلك فقد قرن القول بالفعل؛ هو المعلّم والرب “قامَ عنِ العَشاءِ فخَلَعَ ثِيابَه، وأَخَذَ مِنديلًا فَائتَزَرَ بِه، ثُمَّ صَبَّ ماءً في مَطهَرَةٍ وأَخَذَ يَغسِلُ أَقدامَ التَّلاميذ، ويَمسَحُها بِالمِنديلِ الَّذي ائتَزَرَ بِه. (يو 13: 4-5) إنطلاقًا من هذا الحدث لم تعد الخدمة محصورة بالعبيد إنما أصبحت من أعمال الناس الأحرار الذين يضعون حرّيتهم في تصرّف كلّ الجماعات من دون تفرقة. لم يكتفي الرب بأن يعلن نفسه خادمًا بل طلب من تلاميذه أن يكونوا خدامًا على مثاله، وأن يكونوا علامة لحضوره بين الناس من خلال خدمتهم لهم.” أَنتُم تَدعونَني “المُعَلِّمَ والرَّب” وأَصَبتُم في ما تَقولون، فهكذا أَنا. فإِذا كُنتُ أَنا الرَّبَّ والمُعَلِّمَ قد غَسَلتُ أَقدامَكم، فيَجِبُ علَيكُم أَنتُم أَيضًا أَن يَغسِلَ بَعضُكم أَقدامَ بَعْض. فقَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضًا ما صَنَعتُ إِلَيكم.” (يو 13: 13-15) لقد استخدم المطران يوسف الخوري، هذا الخادم الأمين للرب، سلطته الروحيَّة والمدنية من أجل خدمة جميع العائلات الروحيَّة في لبنان. وقد دعا أيضًا كلّ رجالات السلطة ليكونوا خدامًا متنزّهين لمواطنيهم. كان يؤمن بالعمق “أن كلّ سلطة موضوعة من أجل الخدمة، وليس من أجل التسلّط؛ ولا يجب أن تكون من أجل الظلم؛ وأن العدالة هي حق للجميع، جماعات وأفرادًا.[41]

عمل خادم العدالة هذا كي تكون رسالته الروحيَّة الكنيسة غير منفصلة عن رسالته الإجتماعيّة في قلب العالم.  وما كان في قلبه من حبٍ لله ترجمه من خلال حبّه للقريب. ” أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهِنكَ وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ ” (لو10 : 27)

  1. مع الإمام من أجل إحلال السلام

إن إصلاح النفوس يتطلّب وضع اليد باليد وتنظيم العمل الاجتماعي والتضحية المتبادلة. كانت مدينة صور منطقة نموذجيّة لإعلاء القيم الروحيَّة بوجود المطران يوسف الخوري والإمام الصدر. “إننا هنا في صور وفي هذه المنطقة بالذات نشكو من أمور كثيرة. ولكننا لا نشكو من أمر وهو انعدام المحبّة بيننا. ماذا ينقصنا إذا؟ العمل المشترك: أن يضع الواحد منّا يده بيد الآخر، وأن ننظّم عملنا الاجتماعي، وأن يضحي كل واحد في سبيل المجموع حتّى يتم لنا كل ما نصبو إليه.[42]” هذا التعاون جمع هذين الرجلين الكبيرين في رسالة سامية. “مع الإمام الصدر خاضا حربًا ضد الجهل الساكن كلّ الزوايا، وأولما لكلّ العصافير المهاجرة خوف الزناد، وعلما البيادر لغة النوارج والموسم حصاد. لم تكن علاقته بالإمام الصدر عابرة، وصور مدينة الإمام، ولكنّ مسيحيته الصادقة الطاهرة جاءت به إلى حيث كان رفيقًا للإمام الصدر القابض على إسلامه. حتى يكون عناق الرجلين مدرسة لأهل الديانتين حيث لا فرقة ولا فراق.[43]

نعم لا فرقة ولا فراق، فروح الأخوة التي ملكت في مدينة أليسار بين الزعيمين الروحيين ومؤمني ديانتيهما كانت في أساس السلام الذي خيّم على سماء لبنان الجنوبي. ” يمرّ السلام عبر الدأب في ممارسة الأخوة الإنسانيّة، وهي من المقتضيات الأساسيّة، الناجمة عن مشابهتنا المشتركة لله، وتنبع، إذن، من مقتضيات الخلق والفداء. وحيثما تجاهل الناس كل التجاهل ما بينهم من إخوّة ينهار السلام من أساسه.[44]” كما أن السلام هو ثمرة العيش المشترك، فهذا الأخير هو ضمانة السلام. فهم المطران يوسف الخوري هذه الديناميكية وكان طيلة حياته الرسول الملتزم بالسلام والعيش المشترك. هذا الموقف جعل من هذا الحبر الاستثنائي رائدا للعيش المشترك. يمكننا فهم معنى رسالة العيش المشترك بطريقة أعمق على ضوء تعليم الإرشاد الرسولي. ” إن التزام السلام من قبل الجميع، أصحاب الإرادة الطيبة، يقود إلى مصالحة نهائية بين جميع اللبنانيّين وبين مختلف فئات البلد. والمصالحة هي نقطة انطلاق الرجاء لمستقبل جديد للبنان.[45]

  1. التسامح والاحترام الأخوي

ورث المطران يوسف الخوري روحه السلاميّة، وحس الاحترام الأخوي من أجداده مسيحيي القرون الغابرة، الذين سكنوا جنوب لبنان بطلب من غير المسيحيين، بهدف الحفاظ على السلام في مناطقهم. في إحدى مداخلاته، التي كان يدافع فيها ويرافع عن القضيّة اللبنانية، رَسَمَ المطران يوسف بواقعية وافتخار تاريخ بلده وكنيسته المارونيَّة قال: “عندما اندلعت يوما الإضطرابات الخطيرة بين دروز الجبل وشيعة الجنوب، دُعي الموارنة بأعداد كبيرة إلى منطقة جزين، ليشكّلوا حزام أمان بين الطائفتين المتخاصمتين، وذلك بالاتفاق بين الفريقين المعنيين.[46]

كون المسيحيين قد فهموا محتوى البشارة الإنجيلية، وعملوا بحسب مرتكازاتها، فإنهم عاشوا في لبنان باحترام لإخوتهم من كلّ الألوان الدينية. “يفترض السلام، من قِبَل الجميع، إرادةً ثابتة على احترام إخوانهم والقيام بخطوات في اتجاههم. وهكذا يتحقّق السلام، أساسًا، بصيانة خير الأشخاص والجماعات البشرية، التي يتألّف منها الوطن، بما يمكن تسميته “باقتصاد السلام.[47]” هذه الإرادة التي جعلت من الموارنة أبطال “اقتصاد السلام”، كانت لهم في أيام الفتنة والحرب الذخيرة التي حَمَت الكثير منهم. ” ولاحقا عندما حدثت المنازعات المعروفة، وللمرّة الأولى بين الدروز والموارنة، وجد هؤلاء ملجأ لهم عند جيرانهم الشيعة، وذكرى هذا السخاء والكرم توارثناه من جيل إلى جيل وصولا إلى يومنا هذا.[48]

يوم هُزّء التسامح في لبنان، لم يتهم المطران يوسف اللبنانيين بذلك. كان يعلم أنهم الضحيّة على مثال وطنهم. لكنه كان يلومهم لأنهم قبلوا أن يكونوا الضحيّة، وسمحوا للآخرين أن يجلدوهم. ” أنا أعلم مثلكم جميعا أن لبنان هو ضحية أكثر منه مجرما، وليس هذا المكان الملائم لشرحه. ولكني أعلم على الأقل أنه لم يحدث له شيء لو لم يرض هو، أو على الأقل لو لم يوجد المدى الملائم. أي خيبة هي وأي إذلال للوطن الذي أراد أن يتّخذ له عنوان وطن التسامح والأخوّة.[49]” دعا المطران يوسف الخوري العارف بأمور كثيرة وحبر الأمل، كل اللبنانيين لعدم الإحباط. كان يعلم من خلال روحه النبويّة ومن خلال التزامه في مشروع السلام، أن التسامح والأخوّة سيعيدان بناء لبنان. كان يؤمن بطيبة مواطنيه ويعلم أن أتباع المسيحيّة والإسلام لا يمكنهم إلا أن يعيشوا معا لأنهم يعبدون نفس الإله. “ليس هذا سببا للقنوط ولا للتنازل. بل بالعكس، يجب الاستدراك والإنطلاق من جديد، يجب إعادة البناء، هذا وحده بإمكانه أن يمسح العار، هذا وحده بإمكانه أن يدفع ثمن دمّ الشهداء ويزيل بصمات المجرمين… إن مستقبل لبنان، الذي هو مستقبل الإنسانيّة ليس بالإنقسام ولا بالتفرقة، إنما في تنقية الشعور الديني وإعادة تكوينه ليكون خمير التنقية والتوبة للإنسانية جمعاء.[50]

نعم يجب أن تمحى بصمات المجرمين بدم الشهداء. إن مستقبل لبنان هو في التنقية؛ تنقية الضمائر والقلوب التي لا يمكن لها أن تتحقق إلا من خلال تنقية الشعور الديني. كانت هذه قناعة المطران يوسف العميقة. من أجل ذلك كان يبشّر ويدعو الجميع إلى هذه التنقية. في إحدى رياضات الصوم الروحيَّة التي توافقت مع ذكرى انطلاقة الحرب اللبنانية في 13 نيسان. أعاد المطران يوسف قراءة تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي ليس فقط ليؤكد على شرعية هذا الصراع، إنما ليتعجّب من ما يحصل بين اللبنانيين. ” نحن اليوم في عيد، عيد 13 نيسان، عيد القتل والقتل المتبادل، ومنذ ذلك الحين كم مرّ علينا قتال مثل قتال 13 نيسان وأقسى منه. قتال مع الأعداء في الخارج، قتال مع الأخصام في الداخل، قتال بين الأخوة على كل مستوى.

  1. إذا تقاتل اليهود مع العرب فلا عجب لأن اليهود قد اغتصبوا أرض العرب وهجّروهم من ديارهم واستولوا على أرزاقهم كما كان يحدث أيام تيمورلنك وجنكيز خان والمماليك…
  2. أماّ كيف يتقاتل المواطنون بين بعضهم البعض على سياسات والسياسة كفيلة بتبديد مشاكلها بوسائلها وكيف يتحوّل التقاتل السياسي إلى تقاتل ديني فيقتل الإنسان على الهويّة.
  3. وما هو أدهى على أي شيء يتقاتل المسيحيون فيما بينهم إذا كان عن سياسة وارتباطات خارجية فبئس شعب يمدّ يده للغريب وخنجره لأخيه. وإذا كان حبًا بسلطة أو مال فيا لعار المسيحيين وقد سقط من المسيحيين على يد بعضهم البعض وكذلك المسلمين على أي حال أكثر من سقط لهم على يد خصومهم؟[51] 
  4. بنّاء “العيش معًا

ترجم المطران يوسف الخوري مظاهر الصداقة والتفاهم المتبادل من خلال تصرفاته وتعليمه. عمل مع المسؤولين الروحيين الذين كان يعيش معهم على ترقية المجتمع، والحفاظ على العيش المشترك، وبناء صرح “العيش معا” طيلة الأيام الصعبة للحرب اللبنانية. لنستمع إليه يدلي بشهادة حياته عن “العيش معا” يوم كان في صور بين مواطنية المسيحيين والمسلمين: ” وضع المسؤولون الروحيون المسيحيون والمسلمون والدروز في لبنان الجنوبي أيديهم بأيدي بعض، من أجل تلافي أي سوء فهم بين الطوائف ومن أجل مساعدة الأهالي المنكوبين بوحشيّة. فكان أن أسّسنا مع أساقفة الجنوب كاريتاس لبنان الجنوبي التي توسّعت لتصبح كاريتاس لبنان بعد اندلاع حرب 1975 .[52]

لأن المطران يوسف كان رجل قول وعمل، وشفافية وصدق، فقد عاش في حياته ما كان يقوله من دون أي ازدواجيّة أو خبث. كان موقفه العادل هذا هو إحدى أهم الضمانات لبقاء أبناء أبرشيّته في قراهم بعد الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، واندلاع حرب الجبل إثر انسحاب الإسرائليين. “هذا التعاون مع الشيعة الذي لم يعكّر صفوه أي غيمة، يفسّر كيف أنه يوم تسلّحوا بدورهم وتسلّموا السيطرة على المنطقة بعد الانسحاب الإسرائيلي، أعلنوا من دون مواربة وفاءهم للعلاقات الجيّدة وتعلّقهم ليس فقط “بالمشاركة بالوجود”، هذا المعنى الملتبس بالنسبة لنا، إنما “بالحياة المشتركة” التي نتبنّى شعارها بالإشتراك مع الجميع. حصل أنه عندما أراد البعض من رعايانا الإبتعاد عن المنطقة إثر الذعر الذي أصابهم بعد تهجير قرى شرق صيدا، أن الميليشيات الشيعية أعادتهم إلى قراهم ووعدتهم بتأمين الحماية لهم، ووفت بوعدها.[53]

إن ما ميّز الحوار الاسلامي المسيحي في زمن المطران يوسف أنه لم يكن حوار مثقفين فقط، بل كان مخصّصًا لرفع قيمة العيش المشترك. فالتعاون الذي كان قائمًا بينه وبين الإمام الصدر وبين جماعتيهما، كان حالة طبيعية للعيش اليومي بين إخوة وأحبّة. “كان الشيعة، بمباركة الإمام الصدر، يتوجّهون إلينا من أجل طلب المساعدات، وكنّا نستعجل تقديم كل أنواع الخدمات لهم، كما نقدّمها للمؤمنين خاصّتنا، حتّى أنه كنّا أحيانا نساهم في حل خلافات تختص بالإرث بين العائلات المختلفة.[54]” هذا هو نموذج الحياة اللبنانية الأصيلة في تقليدنا اللبناني. هكذا يكون رجالات الوطن والدين. فالحبر والإمام “كانا في الكنيسة والجامع كلّ للآخر صدى، وعلى امتداد مساحة الوطن فارسين يسعى إليهما قصب السبق، وتحت جنح الظلام يسعيان بقناديل من صفاء الروح زيتها ومن خيوط التعب فتيلها حتى لا تكون حاجة لمحتاج، ولا تستمرّ ظلامة لمظلوم.[55]


[1]  وثيقة رقم 8 : 6.

[2]  شهادة السيدة رباب الصدر

[3]  وثيقة رقم 2 : 2.

[4] وثيقة رقم 2 : 2.

[5]  وثيقة رقم 2 : 2.

[6]  المطران مارون صادر، المثلث الرحمات: 12.

[7]  وثيقة رقم 2 : 1.

[8]  وثيقة رقم 2 : 1.

[9]  وثيقة رقم 4 : 2.

[10]  المطران خليل أبي نادر، الرعيّة عدد 263 : 83.

[11]  وثيقة رقم 5 : 2

[12]  وثيقة رقم 7 :1.

[13]  المفتي عبد الأمير قبلان، النهار في 17 – 2 – 1992

[14]  وثيقة رقم 10 : 4.

[15]  المطران مارون صادر، المثلث الرحمات: 12.

[16]  وثيقة رقم 8 : 3.

[17] وثيقة رقم 8: 3.

[18]  المطران يوسف مرعي، المثلث الرحمات

[19]  رجاء جديد للبنان § 92.

[20]  شهادة الأباتي بولس نعمان

[21]  شهادة الوزير إدمون رزق

[22]  المطران مارون صادر، المثلث الرحمات: 12

[23]  شهادة الست رباب الصدر

[24]  رجاء جديد للبنان § 91

[25]  رجاء جديد للبنان § 94

[26]  وثيقة رقم 2 : 2.

[27]  فاطمة غدار، النهار 19 – 2 – 1992

[28] جوزيف القصيفي، السفير 7 – 2 – 1992

[29]  وثيقة رقم 5 : 1.

[30]  وثيقة رقم 9 : 1

[31]  وثيقة رقم 9 : 1

[32]  وثيقة رقم 1 (ش): 3.

[33]  وثيقة رقم 2 (ش):2.

[34]  المطران مارون صادر، المثلث الرحمات: 12.

[35]  وثيقة رقم 2 (ش): 3.

[36]  توفيق الهندي، لوريون لوجور في 8/2/1992

[37]  وثيقة رقم 9 : 1

[38]  وثيقة رقم 9 : 1

[39]  وثيقة رقم 9 : 2

[40]  وثيقة رقم 2 (ش) : 4.

[41]  وثيقة رقم 1 :1.

[42]  وثيقة رقم 9 : 1

[43]  شهادة الست رباب الصدر

[44]  رجاء جديد للبنان § 97

[45]  رجاء جديد للبنان § 98

[46]  وثيقة رقم 8 : 3

[47] رجاء جديد للبنان § 98

[48]  وثيقة رقم 8 : 3

[49]  وثيقة رقم 7 : 2

[50]  وثيقة رقم 7 : 2

[51]  وثيقة رقم 10 : 5.

[52]  وثيقة رقم 8 : 2.

[53]  وثيقة رقم 8 : 2.

[54]  وثيقة رقم 8 : 2.

[55]  شهادة الست رباب الصدر

شاهد أيضاً

ظهور مسلح للقوات الفجر واطلاق نار كثيف ادى الى اصابات بالرصاص الطائش والجماعة الإسلامية أسفت لما حدث .

  طقوش: “سنكمل المسيرة وسنبقى أوفياء حتى تحرير الأرض” كتب مدير التحرير المسؤول: محمد خليل …