السيد فضل الله ودولة الانسان 

د. وليم علي العوطة
مفكّر وباحث في الفكر الفلسفي


حظيَ المرجع المجدد والعلّامة التنويري الراحل السيّد محمد حسين فضل الله، رحمه الله، باحترامٍ خاصّ في أوساط العلمانيين، يسارًا ويمينًا، على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية والدينية. يكفي التصفّح السريع في مواقع البحث عبر الانترنت ليظهر لنا كم كان السيّد الراحل قطبًا فكرياً-سياسيًا-دينيًا توسّم فيه الوطنيون والديمقراطيون العلمانيون خيرًا، لا لأنه “ساير” هؤلاء أو تنازل عن منطلقاته الإيمانية الإسلامية الحيّة أمام منطلقاتهم، بل بالتحديد لأنّه لم يقدّم تنازلاً أو يطرح تسويةً كان يعلم، وهو المحيط بتاريخ المشرق العربي وخصائص شعوبه، أنّها لن تفضيَ سوى إلى مهادنةٍ مواربةٍ لا تؤسّس لركائز ما كان يدعو إليه من دولة الانسان والمواطنة، ومن مجتمع الاحرار والعدالة والعلم والمؤسسات.
بقيَ الراحل خصمًا-صديقاً محبّبًا لنا نحن اليساريين والعلمانيين المؤمنين بضرورة الصراع عبر الكلمة والفكرة والحجّة لا بالتخوين والاقصاء والعنف. فهو الخصمُ-الصديقُ المتبّحر في المعرفةِ وشؤون السياسةِ والاجتماع والفلسفةِ والشعر والأدبِ، يستثير الأسئلة والاشكاليات، وبعينٍ نافذةٍ على المستقبلِ يستشرفُ حركة التاريخ ومآلاتِ المشروع الانسانيّ، وبروحيةِ المجاهدِ لا يساوم على مبدإٍ أو إيمانٍ يستقي من القرآنِ والاسلام مصدر بأسه، ومن منابع الشعرِ والأدب والفلسفةِ رهافةَ الابداع والحلول.
وهو القائد الروحيّ والملهمُ الحركيّ بعيدًا عن الشعبويةِ والتشدّد والتفكير والشكّ بانتماء الآخر المختلف، لا بل هو من قضى حياته الاجتماعية والعلمية يحارب هذه التعصبّات الجاهلة، ويجاهد لإخراج الذات المسلمة من انغلاقها على نفسها أمام العالم المتعدد في أفكاره ومعتقداته؛ وبحركيته هذه، ألزم السيّد الراحلُ الآخرَ المختلفَ، في الداخل أو القادم من الخارج، على انتهاج سبل الحوار والاحترام المتبادل والنقاش المنتِج لفضاءاتٍ جديدةٍ من طرائق التفكير في الشؤون العامة للبشر.
ولكنّ الحركية الحوارية هذه لم تبقَ في فكره، رحمه الله، مجرّد مزاجٍ أو فكرةٍ “دارجة” ، بل على الضدّ من ذلك، فقد مورست هذه الحركية الحوارية يوميًا، وتشهد رحلات السيّد بين هذا الصرح الأكاديمي والعلمي أو ذاك على رغبته الحقّة في تعميم هذه الحركية، وتشهد دارته على ضيوفٍ ومحاورين متعددي المشارب والانتماءات،حتّى تكاد ترى في السيّد نفسه مؤسسةً علميةً حواريةً تستقطب طلاب المعرفة من كلّ حدبٍ وصوب. مؤسسةٌ تتتمازج فيها الآراء، وتنصهر من خلال المواقف والافكار والتطلّعات لتمنح الزائر والقارىء والمستمع زادًا من سعة الافق وحيوية التفكير.
هذه “المؤسسة” كفكرةٍ دافع عنها السيّد وكمشروع اسلاميّ عربيّ نهضويّ آمن به، اقترنت بدعوةٍ ذات طابعٍ سياسيّ/ثقافيّ لطالما حملها صراحةً أو ضمنيًا في كلماته وخطاباته ومؤلفاته الدينية والفكرية والادبية، عنينا بها الدعوة الى الانسانية، وبالتحديد الدعوة الى دولة الانسان .
خرجت هذه الدعوة استجابةً لتحديات واقع بلادنا التي تمزقها الصراعات الهوياتية المتعصبة، المذهبية والدينية والعرقية والايديولوجية، وأمام هجومٍ غربيّ لم يتوقف منذ عقودٍ كثيرة. دولة الانسان هي الدولة التي تتجاوز ثنائية الدولة الدينية – الدولة العلمانية، وهي الدولة الانسانية التي تتعالى فوق الهويات المذهبية والعرقية والايديولوجيات من دون ان تلغيها، بل هي أيضاً دولة المؤسسات حيث فضاء الحوار والنقاش، وهي دولة حقوق الإنسان النابعة من شروط بلادنا وتعدد ثقافاتها، وهي دولة المواطنة التي تربط المواطن، لا الرعية او التابع او الملحق، بدولته وحكّامه على أساس حقوقٍ وواجباتٍ ودستورّ وقوانين عصرية غير مغلقة على التجديد او التطوير والمساءلة. وهذه الدولة الانسانية هي هي الدولة الاسلامية كما رآها، دولة الاسلام الّذي دافع عنه السيّد وحورب من أجله، الاسلام بروحيته الثورية والتنويرية، اسلام العقل والنقد والشكّ، إسلام المستضعفين والكادحين، إسلام المواطنة والقانون، وإسلام الانسانية جمعاء…

وليم العوطة
علي النهري ٦ تموز ٢٠٢١

شاهد أيضاً

بعد ختم التحقيق الأولي.. الحجار تسلّم ملفّ خطف باسكال سليمان وقتله وأحاله على النيابة العامة في جبل لبنان

تسلَّم النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار من مخابرات الجيش ملفّ التحقيق الأوّلي في جريمة …