ماجدة يا عزيزة الكل ويا حبيبة الكل

الدكتورة محسنة سرحان

يرحلون كما يرحل النهار، يختفون كما تغرب شمسه، فنفتقدهم كما نفتقد نور القمر في الليالي المعتمة، يرحلون لأن كل نفس ذائقة الموت.
هم يرحلون وتبقى ذكراهم.. يرحلون ونشتاق للقياهم، يغادرون ليحملوا قلوبنا معهم لنبقى بعدهم، بلا قلوب وتصبح الحياة فراغ كبير.
رحلوا بأجسادهم ويبقى تأثيرهم وتبقى بصماتهم في الحياة، وتبقى محبتهم ومكانتهم في القلوب بفضل أخلاقهم الطيبة، وسيرتهم العطرة، وتبقى أفعالهم ومآثرهم الطيبة راسخة في الوجدان ويبقى طبعهم منقوشاً على شغاف القلب وجدار الذاكرة يحكي قصصاً.


إبنة أختي يا حبيبتي،

ما زال صدى رحيلك مدوياً لأسرتك ولمن أحبك ممن عرفك. فبالنسبة للجميع كان الخبر صادماً لأنك بكرت الرحيل وليس هذا في الحسبان.

ففقدانك أنت وشقيقتك زينب بهذه العجلة جعلتنا نشعر أن الحياة تخبيء لنا ما لا نستحق. كأننا على موعد دائم مع الأسى.. يستفزنا الحنين ويحك جرحنا بملح الروح ولا نستطيع انقاذ أنفسنا، نحتفظ باللحظات السعيدة داخل قلوبنا وعقولنا. ولن يمحوها الزمن لأنها مقيدة بسلاسل شرايننا ونبضات قلوبنا.


ماجدة يا عزيزة الكل ويا حبيبة الكل


الطيبون يغادرون الأرض سريعاً، وكأنهم يقولون للناس لا مكان لنا بينكم.
فارقتينا بعد أن خضتِ غمار المجهول، تكبدتِ مشاق الحياة، تحملتِ عذاب مرض عضال خبيث وأوجاعه بكل آهة وعناء، ولكل عناء حلم وحلمك كان عائلتك المتماسكة المترابطة.
فيا ليتها لم ترحل ويا ليت الموت أرتد عن أخذها، فكيف لعيد أن يأتي دون بركاتها، أو لشمل أن يجمع دون عطر أنفاسها أو لزوايا البيت أن تلمع دون لمستها.
فارقتنا صاحبة الطلة البهية والوجه البشوش والثغر الباسم، حين تلقاها أو تلتقي بها تبادرك بالترحيب والسلام والإبتسامة التي تحمل في طياتها الشوق والحنان والمودة.

رحلت باكراً والكل بحاجتها، زوج مفجوع بفقدانها، فبالنسبة له كانت بمثابة عمود خيمته الأسرية وألم الفراق وقسوة الإفتراق يغمر كيانه الذي أهتز من دوي الفاجعة. وقبل التلفظ بإسمها وبمآثرها نرى دموع الحزن والألم قد سبقته سيلاً على الخد عندها يتلعثم اللسان من صدمة الرحيل. تراه يمشي ذهاباً وإياباً في غرف البيت تارة ويخرج ليلف البيت والحديقة بين الذكريات وكأنه يبحث عن وليف فقده لعله يجد طيف ماجدة التي كانت بالنسبة له زوجة صالحة محبة وفية نشيطة وحنونة على أسرتها فهي بالنسبة للعالم زوجة أما بالنسبة له فماجدة العالم بأسره.

ماجدة حبيبتي..

وقع موتك بركان انفجر في اعماق اعماق قلب دونا ابنتك وحبيبتك وروح روحك صعدت حممه الى الاعلى فاسكت اللسان عن التعبير وتجمد الدمع في ماقي العين …تنظر الى جسد امها المسجى امامها دون حراك من غير عادته وهو الذي كان يزخر حيوية وحركة ونشاطا واللهفة الحنونة .فاصابها ذهول شديد تصرخ حينا صراخ واهات حزينة وتنحني على صدر امها وتكشف عن الوجه الذي كان يشع ابتسامة وفرحا فتقبله ولسان حالها يقول امي يا زهرة غيبها الموت قبل اوانها تركت كل الاماكن من اقصى الجنوب لاعيش بقربك واشم رائحة عطرك الفواح واسعد بلمستك الملائكية التي حرمت منها كثيرا فكان خياري الذي شجعتني عليه ان اتزوج من هذه البلدة الحبيبة وزدت في حبها لانها تحضن جسد نور العين وشغاف القلب وجدران الشرايين امي ماجدة وستبقين في العقل والوجدان لانك مقيدة بسلاسل شرايني ونبضات قلبي وسابقى احن الى كل شيء فيك فانت بالنسبة لي كل العالم واعدك ان حبيبتي وشقيقتي ياسمينة وحبيبي وشقيقي انيس هما الجناحان اللذان ساحلق بهما نحو الاعلى والافضل ولأنهما جزء منك واشم بهما رائحتك يا امي فارقدي بسلام مطمئنة يا حبيبة الروح ….والان يا امي يا جنة حياتي كنت في حياتك وستزالين جنة حياتي في مماتك ولا املك شيئا سوى الدعاء بلوعة الفراق .فيا ربي اجعل من فوقها نور ومن تحتها نور وانهار فيها العسل فيها اللبن .هنيئا لك اختارك الله فراشة في جنات عدن …..


رحلت باكراً قبل أن ترى قرة عينها وفلذة كبدها ولديها ياسمينة وأنيس في ثوبي فرح التخرج ثم الزفاف.
فلسان حال ياسمينة يقول: قلبي مكسور يا ورد منثور على طول الذكريات.. يا ذكريات بزوايا البيت.. يا عطر فواح من مطرح لمطرح الحقه ولم اجدك يا نور عيوني يا أمي.. جزء منك انا يا أمي.. رحمك الله يا من كسرت بقلبي كل شيء.. رحمك الله يا من جعلت الدنيا بعيني باهتة برحيلك لأن هذا أغلى ما فقدت، فكل فراق يعوض على طول السنين إلا فراق الأم غصة أبدية. بفراقك يا أمي فارقني الأمان وأحسست بغربة في الزمان والمكان، فيا ربي أحفظ أمي على قدر شوقي لها فهي أمانة لي عندك فأمطر عليها سحائب رحمتك إنك أرحم الراحمين.


وأنيس يقول ما أصعب تلك اللحظة عندما ودعتك يا أمي، أصعب اللحظات تلك التي قد ترى أمك بكفن أبيض تمنيت أن أشيب معك يا أمي، النار كانت تكوي فؤادي عندما كنت أكشف عن وجهك الطاهر وأقبله بلهفة دون شبع لأنني كنت أعرف أنها ستكون آخر قبلة مني لوجهك الذي يشع عطفاً وحناناً ثم أرفع رأسي ويديَّ إلى السماء باكياً: لماذا يا ربي أخذت مصدر الحنان قبل الآوان وتركت فيّ ألم لا يضاهيه ألم، لأن أصعب الاشتياق أن تشتاق لأحد لن تراه أبداً، ولن يعوض مكانه أحداً.. فيا أمي يا روحاً طاهرة تهيم من حولي، ويا حضناً دافئاً كم شكوت إليه همي، يا جنتي أشتاق لحروف غابت عن دنيتي، أشتقت لنطقها.. هنيئاُ لكل من لا زال ينطقها، رحمك الله يا أمي، لا شيء يقهر كصمت الأم.. كغياب خيالها.. كإنقطاع ضحكاتها.. كإختفاء بهجتها.. لبيت بدونها.
اللهم أن لي تحت أرضك شخصاً أعز عليَّ مما على الأرض جميعاً، فأجعل قبر أمي برداً وسلاماً وأثره وأبعد عنها وحشته بإرسالك ملائكة الرحمة تحفظها وأجعله روضة من رياض الجنة فأنت أرحم الراحمين.


إبنة أختي حبيبتي..


رحلت ولم يبق لديّ سوى شريط الذكريات أسترجعه بإستمرار أفرح لفرحه وأحزن لحزنه، أستذكر طفولتك في المدرسة الأهلية في مرجعيون حيث فضلت أنت ووالديك البدء في الدراسة بمدارس الوطن، وكنت التلميذة النجيبة النشيطة والمهذبة، وكنت خير رفيقة وصديقة لي في وحدتي إلى أن أندلعت الحرب الأهلية عام 1975 فخاف الأهل عليك وعلى شقيقيك ماجد وحمزة اللذان كانا في المدرسة نفسها ولكن في القسم الداخلي إلى أن عدت لمرافقتي والإقامة عندي بعد نيلك الثانوية العامة في الكويت، من أجل إتمام دراستك العليا في الجامعة العربية القسم الإنكليزي، ونلت الإجازة والحمد لله بجدارة، ولهذا أشعر أنك جزء مني أكثر من غيرك، ففقدك أشعل النيران في أعماق قلبي، فيا ليت يا ربي سمحت بها وبشقيقتها من مرض خبيث لئيم لتنعم بأسرتها وبأحبابها وبثمرة جهادها، ولكن هذه مشيئتك يا ربي، فلا إعتراض عليها والحمد لله على ما كتبت، وها هي ماجدة وأختها زينت أصبحتا في عالم البقاء وكلنا إليه راجعون، فأمطر عليهما من سحائب رحمتك وأجعل مسكنهما جنات النعيم وزدهما بالإحسان إحساناً وبالسيئات غفراناً، يا رب العالمين.

لهما الرحمة ولنا الصبر والسلوان.


الفاتحة

شاهد أيضاً

عون التقى محفوظ في اليرزة

استقبل قائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون في مكتبه في اليرزة رئيس عام الرهبنة اللبنانية …