حوار في الثقافة والسياسة من إعداد الإعلامي.. د.وسام حمادة

في زمن العولمة والإعلام المرتهن وترسيخاً لمفاهيم الثقافة والمعرفة الراقية والتي تعيش غربتها القاتلة تعيد مجلة كواليس وموقعها الإلكتروني نشر لقاءات ثقافية وسياسية كان قد أعدّها وقدّمها لفضائية الإتحاد الإعلامي، د. وسام حمادة عبر برنامج 24 /24

ولقاء العدد مع الكاتب والمفكر العربي ” د. عبد الحسين شعبان ” 

عنوان الحلقة: ” العرب أزمة هوية أم أزمة دولة ؟ “

أغنية بعنوان “أطفال العراق”

كلمات الشاعر: أحمد وهبي

الحان وغناء: د. وسام حمادة

نص القصيدة :

إلى متى ينتظرونْ…

إلى متى يصرخونْ…

إلى متى يسقطونْ…

إلى متى تبكي العيونْ…

عند باب الموتِ وجوهٌ متعبهْ

عند حدود الصوتِ ريحٌ هاربهْ

عند حفافي النهرِ دمعٌ حزينْ

عند رمال النخلِ وجعٌ وأنينْ…

قريبٌ يناجي البعيدْ… وأمٌ تبكي الوليد

وبغدادُ تغسلُ وجهها… بدمِ الطفلِ الشهيد

إيهٍ …. يا أطفالَ العراقْ… يا دموعَ دِجلةَ والفراتْ

إيهٍ …. يا أطفال العراق… يا رحيلاً في ربيع الأمنيات

الجرحُ صارَ بحجمِ الدماءْ

والموتُ غيومٌ لِعطشِ البقاءْ

إلى متى ينتظرونْ …إلى متى يصرخونْ

إلى متى يسقطونْ … إلى متى تبكي العيونْ

إلى متى يا أمة العرب …. إلى متى نسكن اللهب

إلى متى يا أمة العرب… إلى متى لا نُعلنُ الغضبْ

إلى متى…. إلى متى ….إلى متى….

يسكنُ الجمرُ في العينِ الخجولهْ

ولا يفيضُ النهرُ إلاّ بأشلاءِ الطفولهْ

د. وسام :

أهلا وسهلا دكتور عبد الحسين وهذا العمل الغنائي المتواضع تحية للطفل العراقي والطفل العربي بشكل عام الذي حرم من طفولته مبكراً إن قتلاً أو ذبحاً أو على المستوى الإنساني…

دكتور عبد الحسين حضرتك عراقي من النجف وأعتقد بل جازماً أقول أن للنجف خصوصية كبيرة جداً في تشكيل شخصيتك، وعلمنا أيضاً أن هناك علاقة حميمة بينك وبين شجرة التوت في الكوفة، فهل هذة التوتة ما زالت تجد لها مساحة في الذاكرة..؟

الضيف: أولاً، أحييك وأشكرك على هذة الدعوة الكريمة ولهذة القناة. وبتقديري لا توجد قناة عربية على الإطلاق تبدأ الحوار بمقطوعة موسيقية وبالشّعر… هذا برأيي على الأقل يخفّف من غلواء المأساة الماثلة أمامنا، ويلطف من الأجواء على أقلّ تقدير، وحبّذا لو أن السياسيين دائماً يستمعون إلى الموسيقى ويستمعون إلى الشعر لأن الفن يهذّب النفس، وأظن أنه إذا خلا رأس السياسي من القصيدة تحوّل إلى طاغية على حدّ تعبير الشاعر الكبير “أكتوفيو باث”..

 لهذا الإنسان بدون الفن يتعرّض للصدأ ويتعرّض للتآكل بالتدريج.

– ولذلك يُستهدف الفن ويتم ضربه بشكل عام ..?

الضيف: صحيح وهذا له علاقة بالهوية، وأودّ أن أقول أن الموسيقى لعبت وتلعب أدواراً كثيرةً إن في المقاومة أو في حياة الناس وفي مواجهة التحديات. وأنت ممن درسوا في موسكو، وتعلم أنه عندما كانت تحاصر المدن السوفياتية كانوا يسمعون الى “تشايكوفسكي” أو لقصائد “الكسندر بوشكين” وكانت المحطات تبث لتذكّر ما هو نبيل وخيّر وإنساني وفني في الحياة الروسية لدى الروس كوطنيين ولدى السوفيات كشعوب متحدة آنذاك..

أنا اليوم كنت أٌنقّب في بعض أوراقي بشأن الموسيقى، وأتذكّر أن أحد الموسيقيين الكبار وهو مؤلف تشيكي وصاحب سمفونيات مهمة اسمه “دفورجاك”، وهناك “موسيقارة” ومؤلفة تشيكية أخرى اسمها “سميتانا”، هذا يذكّرني بعدد من الموسيقيين الكبار إنطلاقاً من “بتهوفن” ومروراً “بموتزارت” وصولاً إلى “تشيكوفسكي” و”باخ” وغيرهم من الموسيقيين الكبار . الموسيقى وسيله من وسائل الكفاح بالإضافة إلى أنها وسيلة تغذّي العقل والروح والقلب، هي جزء من هذه الحياة اليومية والحياة بدون موسيقى تتحوّل إلى شيء آخر.

– على كلٍّ أنا أشكرك على هذه المقدّمة الجميلة التي افتتحت بها هذه الحلقة وهذا الرأي أعتزّ به وأتبنّاه جملةً وتفصيلاً، ممكن لأنّني منحاز للموسيقى ومؤمن بأنّ الموسيقى هي جزء أساسي من حركة الوعي الجمعي لدى الكثير من الشعوب التي تطوّرت. ومع الأسف نحن لا نزال نناضل من أجل إقناع القيّمين على الفكر إذا صحّ التعبير بجدوى الموسيقي وأهميتها.

الضيف: دائماً الفن يأخذ طريقه بأشكال متنوّعة وتكون الحاجة للفن وللثقافة في الأوقات الحساسة والحرجة دائماً، ولذلك هو سلاح من الأسلحة التي يمكن استخدامها في مواجهة العدو سواء عدو خارجي (العدو الصهيوني) أو في مواجهة أعباء الحياة ومشاكلها والتحديات والصراع الذي يدور في الحياة.. وأنت قدّمت هذه المقطوعة هدية لأطفال العراق للشاعر أحمد وهبي وأذكر أن أحد الروائيين اسمه “ابو قاطع” وهو روائي الريف إذا جاز التعبير، وإذا كان هناك روائي للمدينة، فهو روائي الريف لأنّه نقل حياة الريف إلى العالم.

– مثل القصص الشعبية..

الضيف:  نعم هو وظّفها كجزء من تاريخ العراق السياسي من العشرينيات لغاية أواخر الستينيات، أتذكّر أنّني كتبت عنها كتابًا قبل أكثر من عشرين عاماً أو حوالي عشرين عامًا، عنوانه “أبو قاطع على ضفاف السخرية الحزينة” (وأبو قاطع هو السيد شمران الياسري). وأهديت الكتاب ومردودات الكتاب وكلّ ما يتعلق بحقوق المؤلف إلى أطفال العراق.

– في أي سنة تقريباً؟

الضيف: أعتقد سنة 1997_98… وفعلاً وُزّعت على عدد من الأطفال لعوائل كثيرة في بغداد وفي المدن العراقية الأخرى.

والكتاب الثاني  أهديته أيضاً لأطفال العراق عنوانه “أغصان الكرمة المسيحيون العرب”، اعتبرت هؤلاء النازحين من المسيحين وأبناء العوائل الأخرى ولا سيما بعد سيطرة داعش على الموصل واحتلالها، وسبيها للأيزيديات والأيزيديين والهجرة الجماعية التي حصلت، فأهديته للأطفال النازحين ولذلك هذه اللفتة منك حرّكت وتراً حساساً عندي هو الوتر الإنساني، لذلك أظن أن حديثنا سيكون فيه الكثير من الإنسيابية والكثير من الإنفتاح.

– من المؤكّد ان الحديث معكم حديث إنسيابي وإنساني د.عبد الحسين، ونحن كعرب نعتزّ بهكذا شخصية قدّمت هذا الكم من الإنتاج الفكري والإنتاج الثقافي والإنساني، وكلّ وسام عُلّق على صدرك أنا أعتقد أنه وسام لكلّ الأمة، وسأستكمل الحديث مع حضرتك ولكن بعد تقرير أعددناه كي نسلّط الضوء من خلاله على جزئية متواضعة من حركتك الفكرية.

التقرير:

عبد الحسين شعبان مفكّر وأكاديمي من الجيل الثاني للمجدّدين العراقيين،

ولد في مدينة النجف في 21 آذار 1945 لأسرة عربية كبيرة، تعود جذورها الى اليمن..

يساري النشأة والتوّجه، لكنه لم يتقيّد بتعاليم المدرسة الماركسية التقليدية، ومنذ الثمانينيات كانت له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتغيير والنقد للتيار الاشتراكي واليساري،

تعكس مؤلفاته وكتبه ومساهماته المتنوّعة إنشغاله بقضايا الحداثة والديمقراطية والإصلاح والمجتمع المدني، وله إهتمامات فكرية لتطوير الفهم لقضايا حقوق الانسان ونشر ثقافته وخصوصاً من خلال وسائل الإعلام..

في القضايا الإستراتيجية العربية والدولية له أبحاث عديدة، مختص في القانون الدولي وخبير في ميدان حقوق الانسان واستشاري في عدد من المنظمات والدوريات الثقافية والإعلامية..

عضو اتحاد المحامين العرب                

الأمين العام الأسبق للجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية

وعضو جمعية المحامين الدولية                                         

 صدر له العديد من المؤلفات منها :

-النزاع العراقي – الايراني

-المعاهدة العراقية – الامريكية: من الاحتلال العسكري الى الاحتلال التعاقدي

-الصهيونية المعاصرة والقانون الدولي

-أمريكا والإسلام                                  

-الإسلام و الإرهاب الدولي 

وفي عالم الثقافة و الأدب :

 -الجواهري في العيون

 من أشعاره:

-بعيداً عن أعين الرقيب محطات بين الثقافة و السياسة

-أبو كاطع – على ضفاف السخرية الحزينة

 حائز على العديد من الجوائز والأوسمة :

-وسام أبرز مناضل لحقوق الانسان في العالم العربي 

-وسام اتحاد الحقوقيين العرب

-جائزة العنقاء الذهبية

-وسام مهرجان الفيلم العربي في روتردام لدفاعه عن قيم التسامح.

– د. عبد الحسين سأرجع للبدايات، وسأقتبس كلاماً لحضرتك تقول فيه: “رغم أني غادرتها لكنها لم تغادرني، تعيش وتكبر معي، أحاورها، ألومها أحياناً لكنني لا أستطيع الإنفكاك عنها وأعني النجف”.

على ماذا تلومها د. عبد الحسين؟

الضيف: ألومها لوم المُحِبّ ولوم العاشق أحياناً، كلّما تقترب من المعشوقة كلّما تكتوي بنارها، بنار الشوق، وكلّما ابتعدت عنها أيضاً تكتوي بنار الشوق ولكن بطريقة أخرى.

ولذلك هذا جزء من المونولوج الداخلي مثلما ألوم نفسي دائماً وأحاسبها بقسوة أحياناً وقلت وأقول دائماً أنّني أعتزّ حتى بأخطائي لأنها أخطاء صميمية وجزء مني، لا أنكرها وأنّني اجتهدت في هذا المجال أو ذاك وأخطأت، والأمر هكذا فالمدن دائماً مثل النساء، لكلّ امرأة رائحتها ولغزها وسرّها وبَوْحُها .

لذلك بيني وبين النجف علاقة سرّية، علاقة تقوم على البَوح حتى بالصمت، فاللوم جزء من هذه العلاقة الإنسانية الحميمية، تلك العلاقة التي يجد المرء فيها نفسه في حالة ذوبان أحياناً، وفي حالة انصهار أحياناً أخرى، فيتجلّى ليخرج شعاع آخر وهكذا يتحد معها ويفترق عنها، ولكن في إطار علاقة خصوصية سرّية.

وهناك حبل سرّي دائماً يشدّني إلى هذه المدينة وهي مدينة معطاء بكلّ ما تعني الكلمة من معنى.

أتذكّر أنه طُلب منّي في الجامعة اليسوعية هنا في بيروت أن ألقي محاضرة عن تجربة حياتية تتعلّق بالآخر، غير مكتوبة وغير منشورة، فاخترت النجف.

– ماذا كتبت عن النجف؟

الضيف: كتبت أشياء كثيرة، ولكن اخترت الحديث بهذا المعنى عن تجربة حياتية غير منشورة سابقاً في العلاقة مع الآخر واخترت النجف.

النجف يعتقد البعض أنها مدينة دينية وهذا نصف الإعتقاد أو نصف الصواب.

– صحيح فنحن دائماً نأخذ الشكل الفلكلوري الديني لأيّ مدينة؟

الضيف: والبعض يقول أنها غير دينية وإن كان فيها رمزية دينية، لكنها في واقع حياتها اليومية مدينة غير دينية، وهذا أيضاً نصف الحقيقة. فالنجف فيها حوار الأضداد، فيها حوار داخلي بينها وبين نفسها، فهي مدينة دينية وفيها رمزية، وهي مدينة العلم والأدب والثقافة أيضاً، منذ أن تأسست مدرستها منذ أكثر من ألف عام، عندما جاء “الإمام الطوسي” هارباً من بغداد فوجد بذرة مهمة حاول تطويرها بوضع مناهج جديدة، كان هذا سنة 448 أو 449 هجرية حيث توفي الطوسي سنة 460 هجرية، أي قبل ألف عام كانت هذه الجامعة قائمة، وهي تمتد منذ ذلك التاريخ حتى الآن بتواصلٍ دونما انقطاع وهي أقدم جامعة في العالم أستطيع القول. فإذا كانت جامعة بولونية في إيطاليا تعتبر من أقدم الجامعات، وجامعة الأزهر تعتبر من أقدم الجامعات، فجامعة النجف هي الأقدم ما بين هذه الجامعات على الإطلاق، على الأقلّ هي تسبق جامعة الأزهر بنحو مئة عام وجامعة بولونية  بعدد من السنوات.

هذه الجامعة هي جامعة أممية ولذلك النجف هي مدينة أممية، صحيح أن طابعها وهويتها الغالبة عربية أو عروبية، واللغة العربية أساس وجودها، والشّعر والقرآن يتعايشان على نحو متفاعل في النجف لدرجة كبيرة، حيث يدرس فيها التركي والإيراني والأفغاني والباكستاني والهندي والتبتي (من التبت الصين) ومن أوزبكستان وأذربيجان وآسيا السوفياتية السابقة، أعداد غير قليلة كانوا يدرسون في النجف، وهناك عوائل معروفة في النجف إضافة إلى العرب، اللبنانيون وأنت تعرف أن الكثير من علماء لبنان  درسوا في النجف، مثل “الشيخ محمد مهدي شمس الدين” و “السيد محمد حسين فضل الله”، حتى “السيد حسن نصرالله” درس لمدة عام ونيف في النجف، و” السيد الأمين” والأمين .. أعداد غير قليلة  وآل الزين وغيرهم…

– نفس الوقت كان بمحاذاة ذلك فكر مدني وصل حتى الماركسية؟

الضيف: وهنا المفارقة! حتى الذين جاؤوا للدراسه في النجف تأثّروا بالبيئة المدنية الأخرى، على سبيل المثال:

-“حسين مروة” درس في النجف لمدة 14 عامًا من عام 1924 لغاية العام 1938، ثم ترك العمامة وكتب مقالاً في مجلة “الهاتف” التي كان يصدرها الروائي “جعفر الخليلي” عنوانها “أنا وعمامتي قد رميتها” وهكذا بالتدريج توجّه توجّهاً آخر.

 -“محمد شرارة”والد “حياة شرارة” و”بلقيس شرارة”، هو شخصية معروفة، ومربٍّ معروف اتجه أيضاً في النجف نحو اليسار مثلما اتجه “حسين مروة”.

– كيف كَوّنت النجف شخصيتها في ظلّ هذا الخليط من الأفكار والتناقضات المعرفية؟

الضيف:  هذه المدينة ولاّدة,، كلّ المدن الولّادة فيها جدل، فيها نقاش، فيها تعدّدية وتنوّع واختلاف، والاختلاف كان يتجاور مع بعضه البعض، تجد في بيتٍ واحد رجلَ دينٍ ومعمّم أحياناً ومتديّن، وتجد إلى جانبه “يساري أو ماركسي أو حتى ملحد”، وكانوا يتحاورون أخوة أو جيران أو علاقات إجتماعية، وهذا الأمر كان مقبولاً، وكان يجري الجدل بينهم، والجدل هو دليل انفتاح وتطوّر، والجدل يفضي إلى حقائق، بعض الذين اتّجهوا إلى اليسار تأثّروا بالفكر الديني فمالوا واتّجهوا نحو الفكر الديني، وبعض الذين درسوا الفكر الديني ودرسوا في الحوزة توجّهوا إلى اليسار، ولا تستبعد أن هناك من يدرس في الحوزة ولديه علاقة مع الحركة الشيوعية، وهناك في حضرة الإمام علي من لديه علاقة مع الحركة الشيوعية، وعندما حدث إنقلاب ثمانية شباط عام 1963 اكتشفوا أن هناك 33 عضواً في الحزب الشيوعي كان بعضهم في خلايا الحوزة أو في حضرة الإمام علي، أو حتى قُرّاء للمنابر الحسينية أو شعراء المواكب الحسينية، هؤلاء كانوا جزءاً من هذه التركيبة التي فيها الخليط العجيب الغريب، المتعايش والمنسجم مع نفسه، لا يعتبر ذلك غضاضة أو تناقض.. أنت يساري وأنت متديّن في الوقت نفسه، تؤمن وتصلّي وتصوم، ولكنك يساري، و كان لي حوار مع “السيد محمد باقر الصدر”.. وقلت يجمعكما البحث عن العدالة، البحث عن الحقيقة، البحث عن المساواة، رفض الظلم، رفض الحيف والغبن الواقع على الأمة، بهذا المعنى كنت أتمنى أن يتوصل أصحاب التيار الديني والإتجاه الديني وإن بدا متأخراً في العراق ما بعد العام 1958، والتيار اليساري للتلاقي مثلما حصل في أميركا اللاتينية على سبيل المثال  هناك، تيار يساري عريض، وهناك تيار ديني عريض تابع للكنيسة.. هو الذي أسس لاهوت التحرير، وهذا اللقاء أفرز تطوراً في مجتمعات مهمة مثل مجتمعات أميركا اللاتينية. نذكر أن هناك حواراً مهماً بين الزعيم “فيدل كاسترو” وبين رجل دين مسيحي “بيتو”.. حول الإيمان والإلحاد، حول العلاقة بينهما وحول أهداف الدين وأهداف الماركسية، وحول الوسائل التي يمكن أن تستخدم هنا أو هناك.. ومعيار العدالة الذي يشكّل عاموداً فقرياً للدين وللإيمان الديني والإيمان الإشتراكي والماركسي.

– برأيك لماذا لم تنجح هذه التجربة ولماذا كانت هذة العدائية المطلقة لحد القتل؟ بينما في أميركا اللاتينية التعلّق الديني لا يقلّ عن التعلّق الإسلامي في العالم العربي، بالعكس هم أكثر عصبيّة  من الناحية الدينية للكنيسة وللتعاليم الكنسية، لماذا في العالم العربي لم يُدرَك هذا التزاوج بين الطرفين؟

 الضيف: قلت وكتبت سابقاً من موقعي المادي الجدلي  أن الدين حقيقة باهرة لا يمكن لأحد مناقضته، إذا أردت أن تكون ثوريّاً عليك أن تدرس الظواهر لا أن تعادي الظاهرة، والدين ظاهرة إجتماعية تاريخية منذ البشرية إلى الآن وربما إلى ما لا نهاية، لن تنتهي هذه الظاهرة الدينية حسب قناعتي، ولذلك من قال من طرفنا، أنّه، ما إن نتخلّص من المجتمعات الطبقية ستنحسر هذه الظاهرة الدينية وتتلاشى، أظن أن هذا كلاماً لا أساس له من الصحة، وشاهدنا ولاحظنا ما حصل في البلدان الإشتراكية السابقة حيث جرت ردّة وعودة إلى الوراء وتشبّث ليس بالدين وإنما بقشور الدين أحياناً، لهذا أقول: الخطأ يقع على الطرفين، جانب الماركسيين والحركة الشيوعية نظّروا إلى الدين نظرة إستخفاف باعتباره تخلّفاً ورجعيه وجزءاً من الموروث والماضي، ونظّروا إليه باعتباره زائلاً، ما إن تتحقق الشيوعية سيزول الدين، فلماذا نحن نشغل أنفسنا بهذه الترّهات، على سبيل المثال فسّر بعضهم عبارة ماركس (الدين أفيون الشعوب) تفسيراً خاطئاً، فالسياسة ممكن أن تكون أفيونً الشعوب  والفن ممكن أن يكون أفيوناً، وكلّ شيء في الحياة ممكن أن يكون أفيوناُ، والتربية يمكن أن تكون أفيوناً، وهكذا لأنه يشفي أو يخلّص أو يخفّف من الآلام، ومؤقتاً عندما تتبنّى قناعات معيّنة بهذا المعنى قصد ماركس عبارته الشهيرة التي استخدمها الطرفان، يعني الشيوعيون المراهقون ثورياً بالطفولة اليسارية استخدموها لأنهم يعتقدون أنهم يجاكرون الطرف الآخر، والطرف الآخر استفاد منها ونشرها أيضاً بطريقة خاطئة سواء يدري أو لا يدري باعتبار أن الماركسيين كلّهم ملحدون ولا يؤمنون بالدين، ونسجت على هذه المقولات أطروحات كثيرة فيها أن الشيوعي يتزوج أخته أو ينام مع أمه ولا حدود له ولا إلى آخره، لذلك صدرت فتوى شهيرة في العام 60 من السيّد محسن الحكيم تقول.. الشيوعية كفرٌ وإلحاد.

– بطبيعة الحال واضح أن هذا الصراع العربي يتجلّى بأشكال مختلفة، حيث تجلّى في فترة من الفترات بين القوميين العرب ورجال الدين ولاحقاً بين اليسار ورجال الدين واليوم بين رجال الدين ورجال الدين، يعني أنّك تشعر دائماً بأن هذا المحور وأعني المحور الديني هو الثابت، وكلّ ما حوله عبارة عن أقمار صغيرة عند أية محاولة للإقتراب منه يتمّ الإنفجار، وخير دليل على ذلك تجربة اليسار في العالم العربي عملياً في الخمسينيات من القرن الماضي كان اليسار بأوجّه وفجأة سقط بالضربة القاضية إذا صحّ التعبير.

هل حقيقةً أن الأطراف الأخرى لم تتلّمس الطريق إلى جوهر الدين، ولم تتعاطَ معه كشخصية معنوية موروثة لا يمكن المساس بها ولكن يمكن التعايش معها؟

الضيف: هناك فارق بين الدين والتديّن، وشكل التديّن يختلف بين شخص وآخر وبين مجموعة ومجموعة أخرى أحياناً، جزء من الدين ميثيولوجيات وأساطير وأوهام وبعضها أكاذيب بعيدة عن الحقائق يجري تفسيرها عبر أناس غير مؤهّلين إما لأنهم يعرفون الحقيقة ويجافونها أو لأنهم لا يعرفون هذه الحقيقة، وبالتالي لا يستطيعون التعبير السليم عن الدين لأناس أتوا ليسألوهم فيقدّمون فتاوى أو شيئاً ما من هذا القبيل أويرفضونها لأنّها تتعارض مع مصالحهم ومصالح الأسياد أحياناً في الدول والمؤسسات إلى آخره. وهكذا تهنا لسنوات غير قليلة في فكرة أنّه هل نريد إصلاح الخطاب الديني أم أن الأساس هو إصلاح الفكر الديني دون الإفساح في المجال للحوار والرأي والرأي الآخر والتعدّدية والتنوّع، إذ لا يمكن للفكر الديني أن يتطوّر بالتابوات وبالمحرّمات، الدين يتطوّر بالحوار ويتأنسن ويأخذ بعده من الشكل التطوّري الإجتماعي.

ترى مجتمعات متسامحة قد تكون أقلّ تديّناً، ومجتمعات متزمّتة هي الأكثر تديّناً لذلك هناك مفارقات.

دعني أرجع معك إلى فكرة الفتوى، كان الصراع بين الحركة الدينية واليسار، وكلاهما أخطأ، اليسار حاول أن يهيمن على الشارع ويُقصي الآخرين سواء كانوا عروبيين أو قوميين، رجال دين، بعثيين وإلى آخره، والتيار الديني هو الآخر حاول أن يستقوي بقوى أخرى في مواجهة الشيوعية ومواجهة اليسار، فالتجأ إلى التحريم، بهذا المعنى اليسار خسر بعض مواقعه بسبب الفتوى ورجال الدين خسروا مواقع كثيرة وخسروا سمعتهم خصوصاً وأن الصراع كان حادّاً، يسار ويمين، معسكر إشتراكي ومعسكر غربي، أنت إذا كنت ضدّ المعسكر الإشتراكي ستُحسب على الغرب والعكس صحيح، وبالتالي حامت شُبهات غير قليلة حول بعض رجال الدين وعلاقاتهم ولاسيما أن إيران الشاه آنذاك كانت لها يد طولى مع بعض رجال الدين وهذا ما وقف ضده الإمام الخميني خصوصاً في العام 63 عندما اضطر إلى المجيء عبر تركيا إلى العراق وعاش في العراق وفي النجف فترة 14 عامًا , لهذا أقول أن أيّ صِدام ما بين القوى المجتمعية وهي قِوى تُعبّر عن تيارات، وهناك أربعة تيارات على أقل تقدير في المجتمع العربي، هناك تيار يساري ماركسي بمدارسه المختلفة، وتيار عروبي قومي بمدارسه المختلفة، بعثيين وإشتراكيين وإلى آخره، وتيار ديني بمدارسه المختلفة، شيعة وسُنّة إلى آخره، وتيار أقرب إلى الوطنية العمومية يسميه البعض تياراً ديمقراطياً ويسميه البعض تياراً ليبرالياً، لكن لم تتضح معالمه ولم يُشكّل هوُيته الخاصة، تلك التي كانت واعدة في الأربعينيات والخمسينيات لكنها اندثرت أو تعثّرت أو تلكأت أو غابت بسبب الإنقلابات العسكرية التي حصلت في العالم العربي.

سألتني لماذا فشلت الأحزاب اليسارية؟ وأيّ الأحزاب نجحت؟

الأحزاب في العالم العربي كلها فشلت، والسبب الرئيسي في فشل هذه الأحزاب أنها غير قابلة للتطوّر ولم تتطوّر، لاحظ أنّه دائماً نتحسّر على الزمن الجميل وعلى الماضي، أين الحاضر، أين المستقبل؟ على سبيل المثال.

مشكلة الأحزاب إذًا أنها لم تتطوّر وأنها في غالبيتها الساحقة جزء من هذا الموروث، واعتمدت على الأنظمة الشمولية أي ما يُسمّى عند اليسار بالمركزية الديمقراطية أو الديمقراطية المركزية أحياناً، وخضوع الأقلية للأغلبية والأدنى للأعلى وهكذا… وعند البعثيين والقوميين نفّذ ثم ناقش، والحركة الدينية اعتمدت على الزعيم أحياناً واعتمدت على الضوابط أو الإنضباطية وعلى الإحترام العالي لأنّنا في مواجهات تستوجب مثل هذه العلاقة الخيطية الأوامرية من الأعلى إلى الأدنى، هذه الخلطة كلّها وصلت إلى طريق مسدود.

نحن بحاجة إلى مراجعة لا أقول أنها استنفذت أغراضها وأنتهت، ما تزال قوى حيّة في هذا المجتمع تحتاج إلى الحوار والإقرار بالتعدّدية وإلى الإعتراف بالآخر وإلى التسامح مع بعضها البعض ومع أعضائها في ما بينها، كلّ الأحزاب اليسارية واليمينية والقومية والدينية كانت قاعدتها تشكو من قياداتها، في الغالب العام ولا أريد أن أعمّم ولكن كانت هناك فجوة أحياناً، هذه الفجوة كيف تُردم؟ بالعلاقات الطبيعية، بالعلاقات التي فيها احترام للآخر، وبما يسمّى قواعد الديمقراطية الدستورية.

– برأيك د.عبد الحسين هل يمكن أن نعتبر ما تفضّلت به في سياق الحلقة أنّه جزءٌ من الهوية العربية أم أن الأزمة في مكان آخر، هناك دراسات اليوم تقول أنّه يوجد في العالم حوالي 230 هوية دينية إثنية سلالية وما شابه، كيف نستطيع أن نعطي توصيفاً لمفهوم الهوية؟ هل هذه الإشكاليات التي طرحتها هي جزء من أزمة الشخصية اللاحقيقية التي لم تستطع أن تبلورها المنظومة العربية حتى هذه اللحظة؟

الضيف: إذا جاز التعبير أن أقول.. أن هناك هوية موجبة، بمعنى أن هذه الهوية الموجبة تعرف ماذا لديها وما هي مكوّناتها، ومكوّنات الهوية بشكل عام اللغة والدين بالدرجة الرئيسية وهذه تكاد تعتبر من الثوابت، ثم هناك العادات والتقاليد والموروث والفلكلور والأدب والثقافة المشتركة، وهذا يتفاعل، ويتغيّر ويمكن أن يؤثّر عليك وأنت تؤثّر عليه.

– ومع ذلك العرب اليوم يملكون كلّ هذه المواصفات ولم يستطيعوا حتى اللحظة أن يشكّلوا لهم هوية جامعة.

الضيف: دعني أقول أولاً، وإن كنّا نمتلكها لماذا أسميتها الموجبة، نحن نقدّر ونعي ونتصرّف على كونها موجبة، إذا تصرّفنا على هذا الأساس سنعترف بهوية الآخر. هوية الآخر هي المعيار في نجاح أو فشل هويتك أنت، الأنا وجهها الآخر الأنت، والأنت والأنا هي وجه آخر للآخر لنُطبّق هذه المسألة عملياً في العالم العربي، خذ العراق مثلاً هناك هوية ثانية في العراق إسمها الهوية الكردية. الهوية الكردية كانت وما زالت على أقل تقدير هي جزء من الهوية العامة العراقية، وسكان العراق غالبيتهم عرب، أكثر من 80% يُكوّنون الطابع العام لهوية المجتمع العراقي، ولكن هناك هوية فرعية أخرى الهوية الكردية، أنت إذا لم تتعامل على قدم المساواة مع الهوية الفرعية الأخرى باعتبارها تُمثّل حقوقاً، ولهذه الحقوق واجبات حتماً ستنتقص من هويتك بإنكارك للآخر، أنت تُنكر جزءاً من هويتك تلك التي لا تعترف بالآخر، وأنت تنغلق على نفسك بإنكار حقوقه.

– ولكن هذه إشكالية خطيرة؟

الضيف:  هذه إشكالية خطيرة وموجودة ودعني أقول لك ليست إشكالية في عالمنا العربي وحسب، سأتحدّث عن وجه آخر لهذه الإشكالية، يعني المسلم عليه الإعتراف بهوية المسيحي والأيزيدي والصابئي على قدم المساواة معه، مسيحي واحد أو أيزيدي واحد أو صابئي واحد يعادل كلّ المسلمين لأنّه يُعبّر عن حياتية. والإسلام يُعبّر عن كيانية، ومسلم واحد يمكن أن يُعبّر عن كلّ أديان الأرض، ويساوي كلّ أديان الأرض، لأنّه يُعبّر عن كيانيه أخرى مختلفة، لذلك، إذا لم تتم مراجعة الموقف من الآخر والإعتراف بحقوقه فإنّ دولنا ومجتمعاتنا لن تتقدّم.

أشرت حضرتك أن لدينا أزمة دول أيضاً، الأزمة في الدولة الوطنية، لماذا في الدولة الوطنية؟

لأن الدولة الوطنية التي تأسست سواءً بعد إتفاقية “سايكس بيكو” وبعد الإنسلاخ عن الدولة العثمانية، أو على نحو آخر بعد التحرّر من نير الإستعمار، لم تستطع أن تؤسس لمواطنة حقيقية، ما هي المواطنة؟

المواطنة هي حقّْ حقوقي وسياسي يربط الإنسان مع الآخر في إطار دولة تحترم هذا الحق، بمعنى المواطنة تقوم على أربعة أركان رئيسية:

الركن الأول للمواطنة هو مبدأ المساواة.

وهو غير موجود لا بين النساء والرجال، ولا بين ما سمي بالمجاميع الثقافية، يقال أحياناً تسمى بالأقليات وأنا لا أميل إلى استخدام مصطلح الأقليات لأن مصطلح الأقلية يستبطن التسيُّد من طرف على آخر من هيمنة أو استتباع أو خنوع.

الركن الثاني: الحرية..

–  وهذا أيضاُ غير موجود في عالمنا العربي؟

الضيف: صحيح ولا وجود لمواطنة من دون حريات.

والركن الثالث: هو الشراكة؛ فنحن شركاء في هذا الوطن، لديك مثلما لدي في الحقوق و الواجبات.

إذا وضعت في الدستور أن الرئيس ينبغي أن يكون من الدين الفلاني وأحياناً ربما من الأمة الفلانية أو القومية الفلانية، فأنت سَتَخّل إخلالاً كبيراً بمبدأ الإشراك والمشاركة، سواءً من أعلى المستويات إلى أصغر المستويات.

الركن الرابع: هو العدالة، والعدالة الإجتماعية ليس العدالة والمساواة أمام القانون فقط. فالعدالة الإجتماعية لا مواطنة مع الفقر، ولا تستقيم المواطنة مع الفقر، لذلك نحن لدينا أزمة هوية ودول وأنظمة ومؤسسات وأحزاب، كلّ الأحزاب العربية تكاد تكون في الغالب الأعم تعاني من أزمات: أزمة في القيادة، وأزمة على مستوى التفكير والتنظيم والآداء وهذه حقيقة علينا الوقوف عندها.

–  على كلٍّ “د.عبد الحسين شعبان” التوصيف والتشخيص سليم وصائب فالعالم العربي يعاني من أزمة وطن ومواطنة لأنّه في الأساس يعاني من كلّ هذه الأزمات التي طرحتها، على أمل أن يتحقّق ولو جزئياً ونحن على قيد الحياة شيء من هذه المواطنة، وأن يستشعر هذا العربي بأن لديه “وطن” بالمواصفات والمفهوم الحقيقي لمعنى الوطن والمواطنة .

في ختام هذا اللقاء أشكرك  د. عبد الحسين شعبان على هذا الحضور المميّز والى لقاءٍ قريب نستكمل به هذا الحوار القيّم.

لمتابعة الحلقة مع الكاتب والمفكر د. عبدالحسين شعبان 

https://www.youtube.com/channel/UC0AuXJduId6PcXIkK9x1phw

رابط صفحة اليوتيوب لبرامج د. وسام حمادة

متابعة وإشراف: سهام طه

إعداد وتقديم: د. وسام حمادة

شاهد أيضاً

الشارقة تتصدر المشهد اليوناني مع الاحتفاء بها ضيف شرف الدورة الـ20 من “معرض سالونيك الدولي للكتاب”

بدور القاسمي: لسنا مجرد ممثلين لدولنا ولكننا مسؤولون عن قصة إنسانية مشتركة ● عمدة مدينة …