“سوا ربينا…” قصة قصيرة على حلقات

 🌸 الحلقة الرابعة 🌸

الشاعرة سناء زين معتوق

في صباح 25 أيار 2000، أيقظتني والدتي بصوت مرتفع يشبه الصراخ، لكنه صراخ فرح وفرح كبير وبكاء..كانت تقول (قومي يا سناء، الجنوب تحرر).
ماذا؟؟؟ هل ما أسمعه حقيقي؟! هل أحلم؟! لم أستوعب في بادئ الأمر، ركضت وتسمرت أمام شاشة التلفاز، رأيت عرساً حقيقياً، حلقات الدبكة في كل مكان، الأرز والورد ينثران على رؤوس المحررين، الذين حطموا قيودهم بمساعدة الناس، هذا المشهد سيبقى محفوراً في ذاكرتي ما حييت، رأيتهم يمدون أيديهم من طاقات الأبواب ليمسكوا أيدي محرريهم، وكأنهم قد قبضوا على حبل نجاتهم، قد نبتت لهم أجنحة دون أن يدروا ليحلقوا في سماء الحرية، رأيت بعضهم قد افترش أرض معتقل الخيام، ارتمى ساجداً، شاكراً لرب لطالما ناشده الحرية، لطالما بكى ظلماً وعذاب ذاقه من محتل، عدو يشهد العالم كله على لؤمه وجبروته.
لم لا؟؟؟ نحن أصحاب حق، وقد عانى الجنوبيون القهر والفقر والإحتلال، منذ أن استعبدتنا الدولة العثمانية، مروراً بما عانته هذه الأرض من ظلم الدولة الفرنسية، وقد واجه الجنوبيون كل ذلك بشجاعة واستبسال، إلى أن أغرقونا في وحول الكيان الغاصب، ووقف الجميع يستمتع برؤية جرح الجنوب النازف، ولا أحد يحرك ساكناً، تركوا الجنوب يعاني الجرح منفرداً، لكن ذلك لم يقلل من عزيمة الجنوبيين، نعم لقد مر عليهم الكثير من فقر وظلم وجهل، لكنهم علموا أنهم إذا أرادوا الحياة، لا بد لهم أن يعتمدوا على أنفسهم فقط، وأن لا يطلبوا العون من أمة أضاعت نفسها فأضحت أضحوكة الأمم.
حمل الجنوبي كتابه بيد وبندقيته باليد الأخرى، بعد أن كان مدعوماً بالواسطة يعمل عتالاً في البور أو عامل تنظيفات في البلدية، نعم لقد استطاع أصحاب هذه الأرض أن يضمدوا جراحهم بأنفسهم، ودون منّة من أحد، بدءاً من الزيت المغلي الذي كانت تلقيه النساء على المحتل، مروراً بالقنابل البدائية التي كان يصنعها الشباب في المنازل، بعيداً عن أعين العملاء المنتشرة في كل مكان، وصولاً إلى قوة أمسى الكيان الغاصب يحسب لها ألف حساب… وفي ليلة كانت على ذلك الكيان سوداء حتى العمى، خرج يجر أذيال الخيبة والخزي، يتبعه في خروجه عملاؤه الخونة الذين آثروا الفرار مع أسيادهم.

وباختصار … هذه الأرض لا تموت، وهذا الشعب لا يهزم، أرض تفوح منها رائحة دماء الشهداء كلما روتها أمطار السماء، لن تستطيع أي قوة في العالم مهما بلغ بطشها، أن تلويها، أو أن تثنيها عن طريق الكرامة، هذه الكرامة التي لن يفهم معناها إلا كل حر، التوّاق إلى الحرية.

كبرت وتزوجت، ورزقت بطفلة ملأت حياتي ، لكن ريما ما زالت تسكن عقلي وقلبي، كنت أجلس بمفردي أحدث نفسي عن ريما، تقتلني فيروز عندما تقول.. معقول الفراق يمحي أسامينا… ونحنا سوا ربينا، لم أكن أملك إلا أن أسترجع ذكرياتي.. ذكريات أسرتني… أرى وجهها في كل شيء جميل، أسأل نفسي ترى هل ما زالت على قيد الحياة؟؟ هل لا تزال تذكرني؟؟ أم أنني سقطتُ من ذاكرتها في خضم الحياة؟
إلى أن جاء ذلك المساء في ليلة صيفية من العام 2010. وأثناء جلوسنا في شرفة المنزل ، كان أخي يحدق في شاشة الحاسوب، ويتواصل مع أصدقائه، فبادرته بالسؤال فوراً عما إذا كان باستطاعتي أن أبحث عن ريما عبر ما يسمى بوسائل التواصل الإجتماعي، وبالفعل فقد أعطيته إسمها الكامل المحفور في ذاكرتي، وبعد بحث قصير، أرسل عدة رسائل لعدة فتيات يحملن نفس الإسم.

في تلك الليلة، أذكر أنني حلمت طويلاً، هل يعقل أن أجدها؟؟؟ هل بإمكان هذا المسمى فيسبوك أن يجد لي رفيقتي؟؟ لم يدم انتظاري طويلاً، ففي صباح اليوم التالي، وعندما كنت أهم بالدخول على تلاميذي، وإذا بهاتفي يرن… نظرت فرأيت أرقاما كثيرة، علمت أن المكالمة خارجية… وضعت الهاتف على أذني، بادرت.. نعم؟ فإذا بي أسمع صوتاً لم أسمعه منذ عشرين عاماً.. شريط مصور تضمن كل ذكرياتي قد مر أمامي في تلك اللحظة.
قد كانت ريما، وجدت رسالة على حسابها وعرفت أنها من أخي فوراً اتصلت بي، وكان حديثاً مليئاً بالدموع والفرح والأشواق، هي أيضاً اعتقدت أنني استشهدت، خاصة أني من الجنوب اللبناني، الذي تعرض على مدى سنوات فراقنا لعدد من الإعتداءات الأسرائيلية، علمت أنها تزوجت من شاب فلسطيني، وأنها أصبحت أماً لولدين أحدهما “زين” وهو إسم أخي ذلك يعني أنني كنت في قلب ريما، كما كانت في قلبي، واتفقنا على اللقاء، ولكن كيف؟؟؟ كانت مفاجأتي كبيرة عندما علمت أن ريما وعائلتها قد طلبوا اللجوء إلى نيوزلاندا، وهم الآن مواطنون ويعيشون هناك، ولكن كيف سنلتقي وهي تعيش في القسم الآخر من الأرض؟؟؟
أخبرتني أنها مع زوجها وأولادها سيزورون سوريا، أي لا بد لأحدنا أن يقصد الآخر، وكان الإتفاق أن أذهب أنا لرؤيتها وإعادة وصل ما قطعته الحروب، كان ذلك في شهر تموز من العام 2010 وهي ستزور سوريا في كانون الأول من نفس العام، إذا عليَّ الانتظار خمسة أشهر إضافية، لا بأس، ما يهمني أن صديقتي بخير .

.
حدثتني كيف أنني لم أغب عن بالها أبداً، وأنها استحدثت صفحة لها على الفيسبوك علها تجدني، أخبرتني كيف أمضت أيام الحرب في العراق، وأنها في أول يوم للحرب، افترشت الأرض وغطت رأسها وأدارت المذياع، على إذاعة مونتيكارلو وكانت ماجدة الرومي تغني، أغمضت عينيها وكأنها تخاطب الله … “إذا أردت لي الموت، فإنني أريد أن أموت بهدوء وسلام”، استمرت الحرب، وكان والدها قد قدم طلبا للجوء إلى نيوزلاند فجاءت الموافقة كحبل نجاة لهم من جحيم الحرب، وبالفعل قد بدأت رحلتهم أخيراً نحو الإستقرار، وها هم الآن مواطنون لهم حقوقهم الكاملة، وعليهم واجباتهم الكاملة أيضاً، حتى إن ريما أخبرتني أنها عندما أقسمت اليمين الدستوري للحصول على الجنسية، بكت، فما كان مني إلا أن ضحكت وسألتها عن سبب بكائها، فأجابتني: لأنني أول مرة أشعر بالمواطنة والإنتماء… فعلاً قد غاب عني أن الفلسطينيين محرومون من هذا الشعور.

(يتبع الإثنين القادم)

شاهد أيضاً

هل فلسطين عربية أم هيَ فعلاً أرضُ الميعاد؟

كَتَبَ إسماعيل النجار هل يحق للفلسطينيين الدفاع عنها وتحريرها من يَد الصهاينة أَم لآ؟ مَن …