إيران والصين: بين القلق العربي والمغالاة

لعبة الأمم 

سامي كليب

ثمة حكمة صينية شهيرة تقول :” لا تركبوا في عربة واحدة”. وقد سعت الصين منذ سنوات الى تطبيقها، في استراتيجيتها الخارجية الذاهبة صوب استعادة طريق الحرير تحت عنوان ” الطريق والحزام “. جاهدت للسير بين الألغام الكثيرة والحفاظ على توازن دقيق في علاقاتها الدولية والإقليمية، لكنها سًرعان ما وجدت نفسها أمام حلفٍ أطلسي بزعامة أميركا يخشى تقدّمها الاقتصادي والتكنولوجي الصاروخي، وتمددها الحريري، فيستعد لإقامة المتاريس ضدها وتفخيخ حركتها. لعلها لذلك الآن انتقلت الى المرحلة الثانية، وهي التخلي قليلا عن الحرير، وارتداء الدروع.
جور المُستعمر
حين زرتُ شنغهاي قبل نحو عامين، ورأيتُ ناطحات سحابها وأبراجها وحيويتها الإقتصادية تضاهي نيويورك، فهمتُ تماما سبب القلق الغربي، وأسباب الحذر الصيني.  فهذه المدينة التي كانت مهد الحضارة والثقافة والعمارة والهدوء والجمال للإمبراطوريات الصينية العريقة، جذبت كل أطماع وجور الاستعمار وجشع ووحشية المستعمرين، فشوّهوا جمالها وكادوا يحولونها الى خماّرة دائمة للدعارة وتعاطي المخدّرات في القرن التاسع عشر.
  كان جور الغزاة الأوروبيين أقسى وأشرس من قدر الناس الطيبين على حماية أرضهم وناسهم ومدنهم وقراهم. وصل التهديد الى أبواب الامبراطور فخضع للغزاة، ووقع اتفاقية  استيراد الأفيون التي أنهت الحرب.. توقفت المدافع، فغزت المخدّرات شنغهاي وغوانزو ومناطق أخرى. ثم تعاقب الغزاة البريطانيون ثم الفرنسيون والأميركيون فارضين على الناس ما يشاؤون. فلا يقبلون أي قوانين صينية ولا أي إجراءات إدارية محلية الا قوانينهم واجراءاتهم، وبقوا هناك ما يقارب القرن الكامل. فمن أصل مليون شخص في شنغهاي في العام ١٩٠٠، كاد عدد الأجانب لوحدهم يكاد يصل الى ٤٠٠ ألف.
الصين بين النهوض وإيران
ركلت الصين كل ذلك التاريخ الاستعمار بجهودها وتعب أهلها وخطط قادتها. نهضت بإقتصادها على حين غرة. فاجأت العالم الذي لم ينتبه كثيرا  الى الخطط الدقيقة والذكية التي نفّذتها الدولة وصاغتها مؤتمراتها الحزبية. ثم غزت العالم بالتكنولوجيا لتُحدث صدمة حقيقية بتطبيق الجيل الخامس من الإتصالات 5G وهي تطور الجيل السادس. باتت الصين المنافس الأول لأميركا، ولو أكملت صعودها ستُصبح القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وهي التي تملك أيضا ثاني أكبر احتياطي للدولار.
مع توقيع الاتفاقية الاستراتيجية الصينية الإيرانية، انتشرت التحليلات والمقالات في الإعلام الغربي كالنار في الهشيم. ما عُرف منها اقتصاديا، أي الاتفاقيات التي تفوق قيمتها 450 مليار دولار، مُقلقة، وما لم وربما لن يُعرف تماما مقلقٌ أكثر، خصوصا في المجالات العسكرية والنووية والطاقة وطرق التجارة والمعابر.
الواقع أن لا الاتفاقية جديدة، حيث أن بذورها بدأت فعليا في العام 2016، ولا التعاون العسكري بين إيران والصين جديد، ففي الحرب الإيرانية العراقية، باعت بكين لبغداد أسلحة كثيرة، وطورت الصفقات الى الصواريخ والتي كان لبعضها امكانية حمل رؤوس نووية. كانت الكاتبة الفرنسية تيريز ديلبيش قد تحدثت منذ العام 2006 في كتابها “ايران، القنبلة واستقالة الامم” عن المصدر الصيني للبرنامج النووي الايراني عبر طرق غير مباشرة خصوصا عبر كوريا الشمالية ، وقالت آنذاك أن طهران ستصبح قادرة على انتاج القنبلة النووية ابتداء من العام 2009. ولا شك مُطلقا بأن التعاون العسكري والنووي بين إيران والصين سيكبُر في السنوات المقبلة.
المصالح الصينية- الإيرانية المشتركة كثيرة، فإذا كانت بكين هي الشريك التجاري الأول لإيران ( تسعى الدولتان لرفع التبادل الى نحو 600 مليار دولار) ، وأنها تريد تعزيز التعاون النفطي معها لضمان توريد آمن لحاجاتها الكبيرة من الطاقة، فإن الصين أيضا وفي سعيها لتسريع خطوات مشروع ” الطريق والحزام” تعتمد بشكل كبير على إيران ودول الخليج، وتسعى لتقديم نفسها ليس بديلا للأميركيين وإنما طرفا موازيا وقادرا على توفير توازن استراتيجي للدول المحتاجة الى علاقات دولية .
ثم إن الصين وإيران يُدركان جيدا أنهما مهما فَعَلا، فإن أميركا ستستمر في النظر اليهما كعدوين ، بغض النظر عن أي الظروف، فالصين هي منافس أقتصادي وتكنولوجي وجيوسياسي خطير، وإيران دولة اسلامية لها مشروعها التوسعي وعداوتها العضوية مع إسرائيل.
لكن ثمة مغالاة غير مُبرّرة عند بعض العرب في الحديث عن الاتفاق الاستراتيجي الصني الإيراني. فالمحور الذي تقوده إيران في المنطقة، يعتبر أن ذلك سيُحدث تحولا استراتيجيا كبيرا يدعم هذا المحور ضد الآخرين، ومناهضو إيران يعتبرون أن لا أهمية لهذه الاتفاقية لأنها لا تستطيع أن تستمر وان مثال فنزويلا حاضر..
الصين بعيدة عن التحليلين، فهي  لا تريد أن ”  تركب في عربة واحدة” وإنما تسعى الى ركوب عربات متعددة.   ذلك ان هذه الدولة الهائلة التي تضم  خمسَ سكان العالم بحيث تخطت عتبة المليار واربعمئة مليون نسمة،  وتشكل تقريبا عشرين بالمئة من مجمل عدد البشر، تفوق بأربع مرات  عدد سكان أميركا، ونحو ثلاثة اضعاف عدد سكان الاتحاد الاوروبي، وأربعة اضعاف عدد العرب مجتمعين. وهي تريد أن تحجز مكانا لها في معظم بقاع المعمورة دون تفريق أو تمييز بين دولة واخرى الا من خلال ما يتوافق مع مصالحها.   
الصين والعرب
·     العلاقات بين الصين والعرب قديمة ويعود بعضها الى أكثر من الفي عام عبر طريق الحرير الذي تسعى الصين لاحيائه من خلال مشروعها الاستراتيجي الضخم “الطريق والحزام” .  وكانت الصين سبأقة في ترجمة القرآن الكريم. والتبادل التجاري يكاد يصل الى نحو ٢٥٠ مليار دولار… بينها أكثر من 80 مليار دولار مع السعودية وحدها . الدول العربية هي اكبر مورد للنفط الخام الى الصين وسابع شريك تجاري لها . وفي  العام 2004 انشيء منتدى التعاون الصيني العربي، وانبثقت عنه ١٠ آليات للعمل ، وقبل إيران ،عقدت الصين شراكة استراتيجية مع ٨ دول عربية  وهي تتوسع كثيرا في الوقت الراهن من الشرق الأوسط والخليج الى المغرب .ويكاد لا يخلو بيت عربي من أدوات صينية. وفي الصين أكثر من 14 ألف طالب عربي، والمجال الأكاديمي يتعزز على نحو كبير.
الصين واسرائيل
 للصين علاقات مهمة وواسعة مع إسرائيل في الكثير من القطاعات بما فيها  التكنلوجيا العالية الدقة والجامعات والتعليم والزراعة والمعدات العسكرية وغيرها .لكن بكين كانت في طليعة من اعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية  وتريد إقامة دولة فلسطينة عاصمتها القدس الشرقية، ولم تغير موقفها بعد، ويقال انها مع روسيا تسعيان لوساطة سياسية شرق أوسطية في مجال السلام.
 بدأت العلاقات الدبلوماسية الصينية الاسرائيلية في العام 1992 أي بعد مؤتمر مدريد للسلام، وأول رئيس صيني زار اسرائيل كان في العام 2000 وبعدها تبادل الطرفان زيارات عديدة على مستوى كبار المسؤولين، أما التبادل التجاري فهو لم يتخط بعد 12 مليار دولار .
 العلاقات الصينية الإسرائيلية تتضمن  اضافة الى التكنولوجيا والعلوم ، قطاعات التربية والثقافة والسياحة والبنى التحتية وسكك الحديد والنفط. والصين هي التي حفرت وشيّدت نفق حيفا والخط الأحمر في تل أبيب إضافة إلى جسور في مرفأ حيفا.  وفي العام 2013 وقّع رئيس جامعة تل أبيب ورئيس جامعة شانغهاي اتفاقية لإقامة مركز ابحاث خاص بالدراسات الإسرائيلية في معهد الصين. جامعة تل أبيب  كانت قد أعلنت علاقة شراكة مع جامعة الصين بمبلغ 300 مليون دولار لإقامة مركز للأبحاث حول الطاقة الشمسية والمياه والبيئة.  
التوازن الاستراتيجية.
 يتبين مما تقدّم ان الصين تنفذ فعليا في سياستها الخارجية توازنا دقيقا ، ظهر خصوصا في الفيتوات الثلاثة التي استخدمتها في مجلس الأمن لصالح سوريا وهي في أوج علاقاتها مع الخليج واسرائيل، وهي ستستمر في ذلك مع الدول الخليجية حتى ولو طورت علاقاتها مع إيران، لكن هذا سيتوقف أيضا على الدول الخليجية نفسها لجهة إيلاء الصين أهمية فعلية تقارب العلاقات الخليجية الاميركية، فهذا يضمن عدم انحياز الصين أولا الى إيران بالكامل وثانيا يحقق توازنا استراتيجيا مع أميركا التي أدركت دول الخليج أنها بقدر ما هي حليف تاريخي بقدر ما تمارس أسوأ انواع الضغوط والابتزاز حين تريد.
لا شك أن هذا الاتفاق الاستراتيجي الكبير بين الصين وإيران، فتح أبوابا واسعة أمام طهران لانقاذ اقتصادها وانعاشه واعادة اطلاقه وتعزيز قدراتها وتطوير أسلحتها وتمكين دورها، وهو يحدث تحولا استراتيجيا كبيرا على مستوى المنطقة والعالم، لكن الأكيد أن الصين لن تستخدم الورقة الإيرانية ضد دول الخليج أو اسرائيل أو دول عربية أخرى، وانما قد تلوّح بها مرارا ضد أميركا وبعض الأوروبيين. ففي المنافسة الدولية الشرسة كل الأوراق مهمة، وهذا بطبيعة الحال لن يُزعج إيران.
 قامت السياسة الخارجية الصينية حتى الآن على 5 مباديء مُعلنة هي : الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي ، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ،والمساواة والمنفعة المتبادلة ، والتعايش السلمي، فهل تتغير هذه المباديء بسبب شراسة الهجوم الأميركي ؟ ربما، فالصين لوّحت بكل أنواع الردود في محيطها الاسيوي وبحر الصين وأيضا في افريقيا حيث بدأت باقامة بعض القواعد العسكرية. ولعلها ستتفق مع طهران على قواعد أخرى.
انطلاقا مما تقدم، وبدلا من القلق  العربي من الاتفاق الصيني-الإيراني، لربما على العرب التفكير جديا في نسج علاقات عميقة وجدية مع بكين دون الأخلال بعلاقاتهم التاريخية مع واشنطن، بدلا من استخدام الورقة الصينية فقط لإثارة غيرة أميركا. فلماذا يركب العرب في عربة واحدة؟

شاهد أيضاً

إيّام عتيقة بِالبال

  لما تفوت على بيت وتشوف: -المنشفة معلقة عَ الباب – ابرة البابور مخبّاية على …