فــقدُ الأحبَّة غربة

علي رفعت مهدي


رحيل كبيرة أمهَّات علي النَّهري “المعمِّرة ” الحاجة فاطمة علي حسن مهدي (ام عفيف).
فجرًا ، أذَّنَ مـــؤذِّن ُ ملائكةِ الــــوداع، أيَّتها الروح النقيَّة الباقية من سلف الصالحين والاجداد المباركين :” إلـــيَّ … إلـــيَّ ” يا كبيرة امَّهات علي النهري ، ورجالاتها وشبابها وصباياها وفتيانها ، يا مواسم بركاتها ، وحبَّات سنابلها في زمن السنين العجاف : زمن الخوف والجوع والقهر والعذابات والأوبئة والأمراض ، زمن ايَّامها المضمَّخة برائحة البلاء والإبتلاء والموت وفقد الأحبة والغوالي والحناين والكبار والكبيرات من بركات الجيل الطَّاهر النبيل المعجون بخميرة الجمالات وحكايا السِّحر والألق ، وعادات منظـــومة القيم ، وتقاليد السَّماء ، وسنن الصالحين والأولياء ، وهدى درب الملائك والأنبياء …
هكذا كان جيلهم ، وكانت عاداتهم وتقاليدهم وزمنهم وايامهم ومواسم خيراتهم وغلال حصادهم وكرومهم واهازيج افراحهم ودموع احزانهم ، ودعوات صلواتهم عند الصباحات والعشيَّات في ضيعتنا علي النهري _ وفي كلِّ ضيعةٍ وقريةٍ من لبنان _ !!!
علي النِّهري التي ودَّعت منذ ايَّام الحاج اسعد مشرف المذبوح الكبير من كبار آبائها وأجدادها الذين لم يبقَ منهم سوى عددِ لا يتجاوزُ أصـــابع اليد الواحدة ، ودَّعت آخِرَ ” مُـــعَــمِّــرةٍ ” من ضيعتي الحاجة فاطمة علي حسن مهدي ( ام عفيف) وما بين وداع الـــوالدين الكبيرين ذرفت علي النهري _ عشيَّة عيد الأم _ دمـــع براعمِ ربيعها وداعًا وحزنًا وأسىً على من كانوا نجومَ سمائها ، وشجر ارضها المغروس في ترابها ، والقامات المنتصبة عزًا ومجدًا وافتخارًا ، وكانوا صفاءات ازمانها ، ومواويل فجرها وضحاها وكلماتِ أصالتها ، ومصــــاديق طيبتها وكرامتها ونبلها ، ومصابيح سهراتها ، وامثلة قصصها ، وطهارة ايمانها ، ووداعة روحها ، ونصح اجيالها التي تلقَّنت من كبيرتنا الراحلة الحاجة (ام عفيف) ومثيلاتها كلَّ قيم الخير والحق والعدل والجمال والنقاء والكلمة الطيبة :” { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ* { … فطوبى لكِ ايتها الكلمة الطيبة ، والقلب الحنون العطوف ، واليد الحانية ، القلب الذي استشعر بنبضِه رحيل ابنتِه ليلى يومَ فقدِها منذ أسبوعين واغمض عينيه فجرًا ليلتَحِـــقَ به مودِّعًـــا كل الأحبَّة من الأبناء والبنات والأحفاد ، الذين لم يقصِّروا يومًا بحقِّ الكبيرة والعزيزة والغالية ، الوارثين عنها قيم الحياة وطهارتها …
طوبى لكِ يا ذكريات عرائش العنب ، وشجر التين والحور والتفاح والجوز ، وبركات خيرات السَّماء الجارية في نهر علي النهري منذ مئات السنين ، يا قناديل السهرات ، وراوية القصص والحكايات ومعلِّمة الفضائل ، طوبى لكِ شجرةً سامقة ، وحديقةً من ورد كنت ِ تعتنين بهِ وتحرصين عليه حرصكِ على اولادك واحفادك واحبابك وجيرانك وكلّ عارفيكِ ممَّن واكبوا حياتَكِ من آبائنا وامهاتِنا وشبابنا وأبناء وبنات جيلِنا … وردكِ ذوى فجر السابع عشر من آذار وذبُلَ حبقُ ” ومسكُ ” شـــــذاه … ومات بموتِكِ يا اجمل الأمَّهات ….
فجـــرًا …
صحَت علي النهري على فقد الأحبَّة … و” فقدُ الأحبَّةِ غربة ” ، لبَّت الحاجة فاطمة علي مهدي (ام عفيف) نداء الملائك ، وتركت خلفها ” ثلاثةً وتسعين عامًا ” من السيرة الطاهرة والتربية العظيمة والأمومة النبيلة ، والذاكِرة التي لم تنسَ حرفًا او محِبّا حتى في ايامها الاخيرة ، ومواسم الخيرات والبركات التي صارت نبض قلب ٍ من حنينٍ لأيَّامٍ خلت من صانعيها : آبـــائنا وامهاتنا واجدادنا وكبارنا …ومن شوقٍ لرجوع وإيــــاب ما كان في لبنان على ايدي أجدادنا المباركين ، وكأنَّنا نردِّدُ بدمعنا وأحزاننا ولهفاتنا ولوعاتنا ما انشده الياس أبو شبكة في بركات ضِياعِنا وقرانا اللبنانيَّة من امنيات الرجوع الى زمن ِ اجدادنا المباركين :
أَرجِع لَنا ما كان يا دَهرُ في لُبنان
أَرجِع إِلى الأَحداق أطيافَها المُبعَدَه
وَلِليّالي الوجاق … وَالموقِدَه …
أَرجِع إِلَينا الصاج … وَالجرنَ وَالمهباج
وَخِصبَنا في الرُبى وَنورَنا في السراج
وَاِستَرجِعِ الكَهرَبا وَكاذِباتِ الغِنى
أَرجِع إِلى الوادي فَلّاحَهُ الغادي
وَطَيرَه الشادي وَالرَفشَ وَالمِعوَلا
وَالمَوسِمَ المُقبِلا إِلى القُلوبِ البَأسْ
إِلى العُيونِ الجمال وَعِزَّةً لَلنَّفسْ
وَراحَةً لِلبال …. أَرجِع لَنا وَجهَنا
يا دَهرُ أَرجِع لَنا … ما كانَ …. في لُبنان …
بغيابك وغيابِ امثالك لن يعيدَ لنا دهرٌ خؤون … ولا فسادٌ ظالمٌ حرون ما فقدناه في لبناننا الحبيب يا حبيبتنا الراحلة ، وكيفَ يعيدُ لنا هذا الزَّمن الضيق آفاق بركاتكم ومواسم خيراتكم وجنى عطاءاتكم …
رحمكِ الله يا حاجتنا وكبيرتنا وعميدة عائلتنا …
آنسَكِ الله وأنار درب عروج روحك اليه ايتها الأمّ المجاهدة الصابرة المكافحة المناضلة الأبية العزيزة الطَّاهرة التي تلتِحقُ بكلِّ من سبقها من أجدادنا ، من كبارنا ، من شهدائنا ، وغوالينا والحناين على قلوبنا … رحمك الله يا بركةً من بركات علي النَّهري التي افتقدتكِ خيرًا …
ولعلي النهري كلِّها … وعائلتكِ آل مهدي … لأولادك وذريَّتك التي لن تنقطعي عن دنياكِ باعمالهم الصالحة والدعوات المباركة : العميد عفيف والأستاذ احمد وفيصل وحسين وعماد وربيعة وفدوى … وكل محبِّيكِ في كلِّ يقعةٍ من بقاع الأرض التي عرفتكِ عزاؤنا ومواساتنا ويقيننا أنَّنا عمَّا قريبٍ صائرون الى ما صرتم اليه ، متيقنون ان ” ليس للإنسانِ إلاَّ ما سعى ” ملبُّون دعوة الرب الرحيم الذي صرتم بين يديه : ” وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) …
ونحنُ شهودٌ على انكم الجيل الذي سارع في الخيرات ، هم لها فاعلون ، الجيل الذي تزوَّدَ خيرَ الزَّاد الى الله ايمانًا وطهارةً وروحانيَّة ً …
وليرحمنا الله تعالى برحمة زادِكم وطهرِكم وخيركم … !!!

الأربعاء السابع عشر من آذار 2021 .
الصورة مع كبيرتنا الراحلة يوم السابع من آذار 2013 ” يوم المرأة العالمي” …

شاهد أيضاً

نبوءة الغراب بزوال الكيان

احمد الشريف  قبل فترة ليست بطويلة من حدوث عملية طوفان الأقصى يوم 7أكتوبر من العام …