الترامبية .. إذا ما تفكّكت المنظومة

الديمقراطية والمواطنة نموذجان يحضران إلى الذهن بمتابعة الأحداث الراهنة في أميركا، وبعد انتهاء عقد على ما سمّي الربيع العربي الذي رفعت فيه الشعوب المنتفضة شعارات عن مفاهيم ومطالب عديدة، أهمّها هذان الشعاران. الهجوم على الكابيتول (مقر الكونغرس)، وقد رصدته الكاميرات، وتابعه العالم مكتوم الأنفاس، وأعمال العنف التي وقعت خلال مدة قصيرة، لا تعادل رمشة عينٍ بالنسبة لأمد العنف في سورية مثلًا، قالت عنها إدارة الرئيس المنتهية ولايته نفسها إنها مستهجنة ومروّعة ومخالفة للقيم الأميركية، ثم توالت الاستقالات في أكثر من موقع ومنصب لمسؤولين فيها، معظمهم تابع له، ثم المطالبة بإدانته وعزله، حتى لو لم يبقَ إلا يوم واحد في ولايته، فهل هذا مؤشّر على خللٍ جسيم في الديمقراطية الأميركية، الديمقراطية الراسخة، وقبلة الحالمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ يبدو الحراك الحامي في أميركا في ظاهره دفاعًا عن قيم الديمقراطية، وهو يحصُد تأييدًا ليس فقط من الديمقراطيين، بل من الجمهوريين أيضًا، إن كان على مستوى النخبة أم على مستوى القاعدة، فمن البنود المهمة في الديمقراطية التداول السلمي للسلطة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وليس العنف والسطو المسلّح. لكن على الرغم من أن صناديق الاقتراع حكمت النتيجة، بعد كل محاولات التشكيك فيها من الرئيس منتهي الصلاحية ترامب، وأكّد القضاء فيها استقلاليته سلطةً، كما يجدر بالديمقراطية أن تكون، إلّا أنه لا يمكن غضّ الطرف عن أن ما يقارب نصف الشعب الأميركي من جمهوره ليس من جمهوره تحديدًا، إنما من أنصار حزبه، وهم عندما انتخبوه انتخبوا مرشّح حزبهم الذي يحقق لهم تطلّعاتهم بشأن القضايا الخلافية التي تصنع الفارق بالنسبة للمواطن الأميركي. وأمام هذه القضية، وما نجم وينجم عنها: أين الخلل؟ ولماذا هذا الصعود اللافت لحركات في جميع أنحاء العالم “الديمقراطي” لحركات وتيارات ما يسمى اليمين المتطرّف أو الشعبوية؟

ربما قد يكون ترامب، بما قدّم من كاريزما أربع سنوات، يمثّل الزعيم والقائد والملهم الحالي لموجةٍ من الحراك يزداد صخبها، ويعلو ضجيجها في الغرب

حركة “كيو أنين” التي باتت أقرب إلى ديانة بالنسبة إلى أتباعها ترفع شعارًا: حيثما نذهب مجتمعين نذهب بكامل زخمنا، والتي من قادتها ذلك الرجل ذو القرنين في الهجوم على الكابيتول الأميركي، مؤشّر على تنامي هذه النزعة. ظهرت الحركة في 2017، يؤمن أتباعها بنظرية المؤامرة، وبأن ترامب يحارب دولةً يحكمها عبدة شياطين، ومتحرّشون بالأطفال، وهم يؤمنون بأن التغير المناخي والجيل الخامس وكورونا أكاذيب، ويؤمنون باقتراب نهاية العالم. وجدت هده الحركة طريقها إلى أوروبا، ويعتبر أتباعها ترامب المخلّص من كل الشرور في العالم. يبلغ عدد متابعي قناتها في ألمانيا 158 ألفًا، بحسب تقرير مصوّر بثّته قناة دوتشه فيليه الألمانية، حيث برز حضورهم في المظاهرات المناهضة لإجراءات الوقاية من كورونا. إيديولوجية هذه الحركة التي يعتبرها بعضهم الأخطر حاليًا تأخذ منحىً أكثر تطرّفًا في ألمانيا، فبعض أتباعها يؤمنون بضرورة تطهير ألمانيا من الدولة العميقة بقوة السلاح، واقتحام مبنى الكابيتول الذي بات يمثل الخطر على الديمقراطيات الغربية، سبقه بأشهر في ألمانيا اقتحام مبنى البرلمان الاتحادي (البوندستاغ) في شهر أغسطس/ آب من العام المنصرم، ويتساءل التقرير: هل تصبح الترامبية ديانة؟
على الرغم من فجاجته والصدمة التي يحدثها، إلّا أنه سؤال مشروع، فهذه الظاهرة التي يترسّخ حضورها في المشهد العام، ويزداد عدد مؤيّديها والمنتسبين إلى أنشطتها، لا يمكن تجاهلها، خصوصًا بخطابها العنفي الكاره للآخر، كما تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ونظيراته، ربما قد يكون ترامب، بما قدّم من كاريزما أربع سنوات، يمثّل الزعيم والقائد والملهم الحالي لموجةٍ من الحراك يزداد صخبها، ويعلو ضجيجها في الغرب الذي يتباهى أكثر ما يتباهي بديمقراطيته، يُضاف إليها الشعور بالظلم والاعتداء الذي يتعرّض له، كما تعرّض في التاريخ كل الأنبياء وأصحاب الدعوات الجديدة من رفضٍ ومحاربةٍ وقتال، لكننا لسنا في عصر الأنبياء، فالعالم اليوم بعد كل إنجازاته العلمية وتقدّمه محصور في عنق زجاجة يخنقه، ويهدّد وجوده كائن مجهري يجيد المناورة والحرب، ويدير معاركه في سباقٍ مع البشرية كلّها، ويتفوق عليه في العولمة، كائن لم يكن معروفًا جنسه قبل أقل من مائة عام. يصفع البشرية المعولمة على خدّها الذي كان يظنه أرباب العولمة والاقتصاد والمال أنه معافى، فإذا به يظهر أكثر ما أعدّوا لها العدّة من نقاط الضعف والخلل العضوي.


لا بدّ من الاعتراف بأن العولمة التي جعلت العالم مفتوحًا على بعضه بعضًا عمّقت الهوّة بين الشعوب

بلى، النظام العالمي يعاني من خلل عضوي أكثر ما يشبه الأورام التي تقضم الحياة، فلولا الشعور بانتقاص المواطنة في تلك الدول من وجهة نظرهم التي تستحق الدراسة، لا المحاربة والمحاصرة فقط، لما نمت تلك النزعات المعادية لكل ما لا يشبهها. لا بدّ من الاعتراف بأن العولمة التي جعلت العالم مفتوحًا على بعضه بعضًا، وتحكّم حيتان المال في العالم بمصيره ومصير كل الشعوب، وجعل الفارق فلكيًّا بين طبقة المال والأعمال والأثرياء وبين باقي الشعوب، عمّقت الهوّة بين الشعوب، ليس بينها فحسب، بل حفرت الخنادق، ودقّت الأسافين لدى كل شعبٍ بمفرده، هذا الشعور بالغربة والظلم وعدم القدرة على صياغة الحياة المشتهاة بالنسبة لهؤلاء جعلهم ينشئون جماعتهم ويلوذون بها، ويديرون معاركهم وحروبهم مجتمعين، مثل أي طائفة أو ديانة.
لم تحمِ الديمقراطية المجتمع بالكامل، على الرغم من أنها صارت ثقافة متجذّرة فيها، والدليل الإقبال على صناديق الاقتراع بزخم كبير، باعتباره حقًّا وواجبًا في الوقت نفسه، فأين الخلل؟ هل في المواطنة التي تفتقر إلى العدالة في هذه المجتمعات؟ لا بدّ من أن النموذج صار يعاني من النقصان الذي يجب دراسته وتشخيصه وعلاجه، فالأمر ليس كما جاء في مقالة كتبها ونشرها، في 12 يناير/ كانون الثاني الحالي، المحلل الروسي ألكسندر نازاروف في موقع روسيا اليوم (ويا للعجب): “لكن نخبة الأوليغارشية المتعفنة في الولايات المتحدة تشن حرب عصابات أربع سنوات ضد الرئيس الشرعي المنتخب ديمقراطيًّا، والذي يدعمه حتى الآن نصف الشعب الأميركي على الأقل”. وهو يرى في الهجوم على مقر الكونغرس الأميركي “احتجاجات شعبية عارمة”، يستنكر قمعها من “الأوليغارشية”، ويرى أن “حرية التعبير وحقوق الإنسان لم تعد عقبة، وسقطت الأقنعة”، وهذا عجب آخر.
مؤكّد أن الأمر ليس كما يشخصّه المحلل الروسي، روسيا التي تعتبر الاحتجاجات الشعبية في سورية غير محقة، وتدخلت بزخم لإجهاضها بحجّة محاربة الإرهاب، مرتكزة على خبرة يراها المحلل المذكور غير متوفرة لدي النخبة الأميركية: “ومع ذلك، ليس لدى النخبة الأميركية خبرة في حل النزاعات داخل البلاد بخبرتها نفسها في تجربة النزاعات الدولية التي تعوّدت فيها الولايات المتحدة على أكبر قدر من القسوة”.. انتهى الاقتباس المذهل.

علينا، نحن أبناء المناطق المنكوبة المنحوسة، أن نُبقي أعيننا تراقب وتخزّن في أرشيف ذاكرتنا ملامح التجارب في هذا العالم

هل صحيح أن الرأي الذي طرحه عن الحالة الأميركية الراهنة هو السبب؟ عندما يقول: “ولكن مثلما أصيبت النخبة السوفييتية بخرف الشيخوخة وقت انهيار الاتحاد السوفييتي وتقزّمت، ولم تعد قادرة على الاستجابة بشكل مناسبٍ للتحدّيات، تبدو النخبة الأميركية الحالية مصمّمة على تكرار مراحل الانهيار نفسها”، هذا التشخيص الذي يستدرج نبوءة يبدو أن العقل الروسي اعتاد عليها: “باختصار، ستبدأ حرب أهلية تقليدية، والتي رأيناها في سورية أو ليبيا. بمعنى أدق، سوف تبدأ المرحلة الدموية للحرب الأهلية، بعد أن اندلعت الحرب الأهلية “الدافئة” بالفعل”.
أمام هذه التساؤلات والواقع المتوهج كالجمر، ليس في أميركا وحدها، بل في العالم الذي يهزّ عروشه وقواعده كورونا المستجد والماضي في تحوّره، أخمّن أن صروح الديمقراطية لن تنهار بالكامل، كما يتنبّأ المحلل الروسي، لكن النماذج ستخضع للتعديل، نماذج بعض المفاهيم أو الكثير منها، خصوصًا الديمقراطية والمواطنة. وأمام ضيق الشعوب وتمرّدها على واقعها سوف يغيّر النظام العالمي من سلوكه، وستطرح الحلول نفسها، هذا هو منطق الأشياء. وعلينا، نحن أبناء المناطق المنكوبة المنحوسة، أن نُبقي أعيننا تراقب وتخزّن في أرشيف ذاكرتنا ملامح التجارب في هذا العالم، وأن نعرف كيف نرسم خريطة طريق لمصائرنا.

سوسن جميل حسن

شاهد أيضاً

الاعلامي في طرابلس سامي كليب في لقاء حواري خاص نظمه المركز بعنوان “غزّة حلقة في مسلسل التدمير الممنهج للوطن العربي”

استقبل مركز مولوي الثقافي برعاية وحضور وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى، ضمن فعاليات طرابلس …