الشعب الذي لا يتعلـّـم

طعّان حبشي

كما هي الحال مع الأفراد، فإنّ الشعوب أيضا ً هي عرضة لأن تحيد عن وجه الصواب ولأن تُخدع ويُغرّر بها، فتقع نتيجة لذلك وبفعل الأخطاء والأغلاط التي يرتكبها السياسيون والقادة ، في مطبّات ومهالك وأزمات قد يستفحل أمرها، فيصعب حلـّها والتخلـّص منها، لاسيما إذا ما تكرّرت مرّة تلو الأخرى، دون أن يُستفاد ويُختبر منها كدروس، للقضاء على مُسبباتها ولتصحيح وتصويب ما إعوجّمن مساراتها، ولتلافي الوقوع ثانيّة في تعقيداتها وسلبياتها.

والأمثلة على ذلك كثيرة لا تعد ّ ولا تُحصى، فها هي سويسرا التي كانت فيما مضى مسرحا ً للتقاتل والإنقسامات ما بين أبنائها المتنوعين بإتنياتهم ولغاتهم وثقافاتهم وأصولهم، تتحول اليوم إلى جنّة أضحت محط أنظار العالم ومقصد أغنيائه ومشاهيره والقبلة المالية والأمنيّة والسياحيّة لكل مَنْ يريد التنعُّم بالأمان والراحة والسلام في ربوعها، وقد تبوأت هذه المكانة المرموقة ما بين الدول ، لإنها تعلمت من تجاربها وأعتبرت من ماضيها فبنت حاضرها على أسس متينة وثابتة .

وكذلك فإنّ قادة فرنسا وإنكلترا وألمانيا، فأنهم لا يألون جهدا ً ولا جدّا ً للإنخراط بأي عمل ٍ دولي أو معاهدة ٍ تساهم بتناسي أحقادهم ومآسيهم وأهوال الحروب التي نشبت بين جيوشهم، وما جرّته تلك الحروب على شعوبهم من ويلات وجراح وخسائر على مدى مئات السنين، وهم لا يتركون أي مناسبة تمرإلا ويسخرّونهامن أجل تحقيق أهدافهم الرامية الى تمتين عرىالتفاهم والتقارب فيما بينهم، لأنهم تعقّلوا وتعلّموا وإهتدوا وإحتكموا الى المنطق والعقل، وتلمّسوا الخيط الأبيض من الخيط الأسود الذي يخدم مصالحهم وتقدُّمهم وإزدهارهم .

ولنتذكر ما قامت به إسبانيا في التسعينات من القرن الماضي القريب، حينما إستنفرت جيشها وحرّكت أُسطولها، على أثر علمها بتواجد بعض الجنود المغاربة على أرض جزيرة صغيرة وهي عبارة عن جلمود صخري أجرد لا قيمة له، يقع في منطقة بعيدة جدا ًعن شواطئها، ونبشت ما في أرشيفها من الإتفاقيات والمستندات التاريخيّة التي تؤيد حق ملكيتها لتلك الجزيرة، وكل ذلك تخوفا ً منها، من إحتمال ضعيف لتغلغل العرب من جديد بإتجاهها، وحتى لو كانت نسبة هذا الإحتمال هي واحد على مليار، فهو بنظرها ذو أهميّة قصوى وحريٌّ بها أن تأخذه على محمل الجد، منعا ً لتكرار ما تعتبره تجربة الأندلس في العصور الوسطى.  

أمّا  في لبنان فالغريب عندنا، هو أنّنا وخلال كل مراحل تاريخنا القديم منه والحديث، لم نغلق بابا ً ولم نسد ثغرة ً بوجه أزماتنا ومشاكلنا وخلافاتنا، ولم نقطع يوما ً دابر الفتن التي كانت تحاصرنا من كل صوب ٍ وحدب، بل على العكس كنا دائما ً نشرِّع الأبواب لها وعلى مصاريعها، لكي تتكرر ولكي تعود الى حياتنا عند أول فرصة متاحة لها.

فلا يمرّ عقد أوعقدين من الزمن، دون أن نشهدَ على مؤامرات ٍ تُدمِّر وتُخرِّب وتُلهب هذا الوطن ومكوِّناته، بنار الحقد والكراهيّة والحسد، تخطط لها وتُشعلها الإرادات الخارجيّة والغريبة، وتغذي لظاها الأيادي الداخليّة والمتعاملة، بنفس الطرق والأساليب ولنفس الغايات والأهداف.

وعند كل إستحقاق نعيش شريط الأحداث ذاته، وعند كل مفصل وتحوُّل نضيع في ذات المتاهات والترهات عاجزين متفرقين ، ومعرقلين لسعاة الخير من مسؤولينا، ومستقويّين بالغير لتحقيق مكاسب ومغانم عل حساب بعضنا البعض. والتي هي بالحقيقة ليست سوى أوهام وتصورات تنعش لفترة وجيزة، عقول المخَدرّين والمدمنين منّا على هذا النمط ــ الأغلوطة المعمول به والمتوارث الى حياتنا من جيل ٍ الى جيل .

وهكذا سنبقى الى ما لا نهاية نتخبط خبط عشواء في إدارتنا لشؤوننا وأمورنا، إذا لم نع ِ

وندرك، من أنّ التغيير والتبديل هما سمتان متلازمتان لسنّة التطوّر والتقدّم الى الأحسن والأفضل، ولا فائدة تُرجى من عشوائيّة التعامل معهما، بل يجب علينا أن نحسن  صنعهما وإتقانهما، وهذا لا يحصل إلا بالإستهداء والإسترشاد والإتعاظ، من كل خطوة خَطوناها في الماضي، لتقويم خُطانا في الحاضر والى المستقبل .

والشعوب التي لا تتعلـّم من ماضيها هي غير جديرة بأن تحيا وتستمر، وستسقط حتما ً في زمن ٍ ما من عمر الحضارة ، وفي مكان ٍ ما من مزبلة التاريخ .

شاهد أيضاً

حمدان التقى الداوود وزار الحريري معزيا”

  إستقبل أمين الهيئة القيادية في “حركة الناصريين المستقلين – المرابطون”،العميد المتقاعد مصطفى حمدان، في …