جائحة كورونا والثّقافة بين الإبداع والجمود

أ.د.درية كمال فرحات

تعدّ الثّقافة من العوامل المهمة في بناء المجتمعات وتقدّمها. وثقافة أي مجتمع هي مجموعة القيم العامة والمشتركة بين أفراده، وهي التي تميّز هُويته المجتمعيّة، لذلك فإنّ المجتمعات تنشد التّقدم الحضاريّ من خلال نشدان ثقافتها.

ولأن الثّقافة هي مرآة المجتمع فإنّ الاستمرار بالأنشطة الثّقافيّة يُشير إلى حضارة المجتمع، لكن قد يواجه المجتمعُ ظروفًا قاسية من أزمات اقتصاديّة أو أمنيّة أو صحيّة، وهذا ما عانى منه العالم أجمع بعد انتشار جائحة كورونا، فما هو تأثير هذه الجائحة على الثّقافة؟ وكيف استطاعت المجتمعات مواجهتها للحفاظ على استمرارية أنشطتها الثّقافية؟

إشكالية مهمة، تركت أثرًا على المنتديات الثّقافية وعلى المثقفين الذين رأوا أنّهم بمواجهة عدوّ عطّل أهدافهم وأعمالهم، وفي الوقت عينه جعلهم يقفون بين أمرين، كلاهما مهمان لاستمرار الحياة، الأوّل الحفاظ على الصّحة الجسديّة، والثّاني الحفاظ على الصّحة الفكريّة الثّقافيّة، وفي زمن الجائحة، أصبح من الضّروي للحفاظ على سلامة الجسم من وباء الكورونا اتّباع التّباعد الاجتماعيّ، والحفاظ على سلامة الفكر يتطلّب لقاءاتٍ وتجمّعات، فباتت معضلةًأرقّت مضجع المثقفين والمفكّرين.

ويمكن القول إنّ الصمت والهدوء خيّما على القطاع الثقافي وأنشطته مع بداية جائحة كورونا، تأثراً بقرارات الإغلاق وتدابير الصحة والوقاية التي اتخذتها السّلطات الحكوميّة في أغلب دول العالم، تجنباً لتفشي أكثر فداحةً لجائحة فيروس كورونا. فبتنا نرى إغلاقًا لدور السّينما ولقاعات المسرح وللمكتبات العامة، وللمتاحف.

ولم يقف الضّرر على هذه الأنشطة بل طال أيضًا ثقافة الكتاب، وصناعة نشر الكتب، فسمعنا عن الغاء معارض الكتاب في بعض الدّول كما حدث في لبنان، فلم يعقد هذا المعرض في ختام عام 2019، ولن تشهد قاعة المعرض في ختام عام 2020 أي احتفاليّة من احتفاليات معرض الكتاب الذي كان يعدّ مهرجانا ثقافيًّا متنوّع الأنشطة. وربما لم يتوقّف الأمر على لبنان، فحتى معارض الكتاب التي أقيمت في بلاد أخرى لم يكن لها هذا الوهج الذي اعتدناه مع كلّ موسم من مواسمه.

ولم يكن هذا الوضع المأزوم في وطننا العربي فقط، فإذا تتبّعنا الوضع في العالم سنجد أنّ تضرر القطاعات المرتبطة بالثّقافة والفنون طال معظمها، تقول “أودري أزولاي” المديرة العامة لليونسكو، إن الوباء كان مدمرًا للثقافة والفنون. في الغالبية العظمى من دول العالم أغلقت المؤسسات الثقافية كليًا أو جزئيًا، ولا يزال العديد منها مغلقًا حتى يومنا هذا، وقد لا يُفتح أبواببعضها مرة أخرى. وتشير إلى أنّ القضية الأكثر إلحاحًا هي أنّ عددًا لا يحصى من الفنانين والمثقفين تُركوا من دون أي دخل.

وتجعلنا هذه الأزمة نقف أمام معضلة مهمة هي مدى قدرة الثّقافة والفنون على تأمين الوضع الماديّ لمنتجيها، وهو ما يجب أن تفكر فيه الدّول أو النّقابات الثّقافيّة وذلك تحفيزًا لاستمرار العمل الثّقافيّ.

وهذا الوضع يتطلّب أن نقف وقفة جادة لمعالجة ما ترتّب على الجائحة إن كان من جمود للأنشطة الثّقافيّة، وإن كان من أجل مواجهة الأزمات الماديّة التي طالت المثقفين أو قطاعات الثّقافة.

والحياة لا بدّ من أن تستمر، ولكل شيء وجهان السلبيّ منه والإيجابيّ، فما ذكرناه سابقًا يمثّل التّأثير السّلبيّ لجائحة كورونا، فإنّ جائحة كورونا أثبتت قدرة الإنسان على مواجهة الصّعاب بشكل عام، فبدأ الإبداع والابتكار من جانب، ومن جانب آخر التّحدي للكورونا رغبة في البقاء وبقاء الفكر.

فمع بدايات الإغلاق لجأت المتاحف في معظم أرجاء العالم إلى تفعيل الزّيارة الافتراضية، فانتشرت الرّوابط التي تسمح للجالس في بيته أن يستفيد من ثورة العصر أي الشّبكة العنكبوتيّة، فنقوم بجولة داخل المتحف الذي نريده. فانتقلت العديد من المتاحف إلى وسائل التّواصل الاجتماعيّ وذلك لإشراك جمهورها عبر الإنترنت. وانتشر “الهاشتاغ” عبر “تويتر”#MuseumFromHome وأصبج مشهورًا، وبشكل خاص بالنسبة إلى المتاحف التي تشارك محتواها بطرق مبتكرة. اختيرت مؤسّسات مختلفة من خلال إشادة خاصة من قبل محللي الصّناعة وذلك لاستراتيجيّتها النّاجحة المتعلّقة بمحتواها المنشور على وسائل التّواصل الاجتماعيّ.

وأيضًا بدأ التّوجّه في نشر الرّوابط للكتب التي يمكن قراءتها on line ، نعم إنّها طريقة نواجه بها التّقوقع في البيت، من خلال الدّعوة إلى القراءة والعودة إلى الكتب حتى لو كانت الكترونيّة.

وإذا كان التّوجه إلى الكتاب الالكترونيّ قد بدأ منذ سنوات، فإنّ الحاجة إليه في هذه المرحلة تزداد، خصوصًا مع البقاء في البيت، وربما تلاءم هذا الأمر أيضًا مع سوء الوضع الاقتصاديّ في لبنان، فكان الكتاب الالكتروني ملاذًا ومنجاةً من فقدنا الكتاب.

ومن مظاهر التّحدّي لوباء الكورونا، ما برز على السّاحة الثّقافيّة من إقامة النّدوات والأمسيات والمؤتمرات عبر المنصّات وعبر مواقع التّواصل الاجتماعيّ.

والمتصفّح لأخبار العالم يرى الكثير من الأمثلة التي تدلّ على مواجهة الكورونا، وما لفتني هو ما قام به الشّاب والكاتب الفلسطينيّ محمود فطافطة الذي خطّ على جداره الافتراضيّ عبر الفيس بوك “من لم يستطع التّضحية ببذل الدم، فإنّ الجهاد بالقلم متاح للكثيرين”، ودعوته هذه كانت ليحثّ الآخرين على الكتابة والقراءة وتثقيف الذّات، لا سيما إذا ما كانت الكتابة تتعلّق بموضوع يشغل العالم أجمع وهو فيروس كورونا، وقد استطاع أن يعدّ سلسلة من الكتب كان أوّلها كتاب “كورونا معلومات وأرقام”، وقد تألّفت هذه السلسلة من 8 كتب، صدر منها 5 وهناك 3 أخرى تحت النّشر.

​ولم يتوقّف الإبداع عند هذا الحد، فوجدنا إبداع الأدباء يستمرّ، فالكلمة لا بدّ ان تخرج من جحرها وتنطلق إلى العالم، فسمعنا الكثير من الأدباء الذين ألّفوا الرّوايات محاولين تقديم صورة عن هذا الوباء وكيفية مواجهته، ويحضرني الآن رواية معالي الدّكتور طراد حمادة التي قدّم فيها رؤية استشرافيّة في عملية التّخلّص من الوباء. ورواية “صيف البلابل” تبحث عن مدينة فاضلة افتراضيّة، لتكون برّ الأمان والنّجاة مما وصلنا إليه في عصرنا، وللتّخلّص من لعبة الأمم التي نشرت الهلع في حياتنا، ولن يكون ذلك إلّا عبر العودة إلى الجذور وإلى الأرض.

​وإذا كانت هذه الرّواية تستند في بناء أحداثها إلى الجائحة، فإنّ تصفّح وسائل التّواصل يشهد نشاطًا ملحوظًا من الأدباء، فنشهد إصدارات جديدة، ويشير البعض إلى أنّ الحجر في البيت جعلهم متفرغين للكتابة، فيذكر الدكتور عبد المجيد زراقط أنّ روايته “طاحونة الذئاب” هي وليدة هذا الحجر. ولم يكن الأمر مقتصرًا على الإبداع الأدبيّ السّردي، إنّما تعدّدت النّتاجات، من شعر ونقد وأدب أطفال.

​وعلى غرار كثير من القطاعات والمؤسسات التي استخدمت حلولًا مبتكرة لتجاوز ما فرضته جائحة كورونا من تحديّات، لا يبدو أن مجال النّشر والتوزيع يستثني نفسه من حلول العالم الافتراضي، ليتمكن من تجاوز حالة الرّكود الاستثنائية في سوق الكتاب، ويواصل رفد الجمهور بآخر الإصدارات، بعد توقف جميع معارض الكتاب التقليدية حول العالم.

وشكّلت فكرة المعرض الرّقمي أحد الحلول النّوعية، وتحديًّا لكورونا.. تنظّم دار نشر قطريّة المعرض الرّقمي الأول للكتاب العربي بأوروبا، ويأتي تنظيم هذا المعرض الرّقميّ بنشر الثّقافة والكتب العربيّة في العالم، في ظل الظّروف غير المسبوقة التي تعاني منها معارض الكتاب العربي التّقليديّة، وإلغاء جميع معارض الكتاب حول العالم أو تأجيلها.

وإذا كانت معارض الكتاب التّقليديّة إحدى أبرز المناسبات لترويج نتاجات دور النّشر العربيّة وتحقيق عوائد ماليّة تعزز حضورها في سوق النشر، إلا أنّها يمكن أن تجد في مثل هذا المعرض الرقميّ الموجه لأوروبا متنفسًا من حالة التّوقف الاضطراري، لتقليل خسائر نالت من كافة عناصر طباعة الكتاب وتوزيعه.

​وفي الختام يمكن القول إنّه على الإنسان مواجهة الأزمات مهما استعصت ومهما صعبت، فإذا كان لهذا الوباء هذا التّأثير السلبيّ، فإنّ إرادة الإنسان وعزيمته تجعله يخرج من عنق الزّجاجة، وهذا ما كان يجعلنا نصارع لتعزيز الثّقافة، والبحث عن سبل الإبداع والتّألّق. ​

شاهد أيضاً

8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة

تؤثر خيارات نمط حياتنا بشكل كبير على صحتنا، حيث يمكن أن تؤثر بشكل إيجابي أو …